في الجزء الشرقي من البحر الأبيض المتوسط، غير بعيدٍ عن السواحل اليونانية، توجد جزيرة كريت، التي تعتبر خامس أكبر الجزر المتوسطية حجمًا، والتي جعلها موقعها الجغرافي المتميز مسرحًا للصراعات بين القوى الكبرى في حوض البحر المتوسط.
إذ يبلغ طولها من الشرق إلى الغرب ما يقارب 260 كم، بينما يتباين عرضها بين 12 و60 كم، مما يجعل مساحة سطحها حوالي 8400 كم مربع. وهي الآن إحدى ولايات دولة اليونان الثلاث عشرة، وعاصمتها الإدارية هي هي «هيراكليون» أو «إيراكليون»، وكان اسمها القديم هو «كانديه»، والذي سيتكرر مراتٍ عديدة في جولتنا الحالية.
لجزيرة كريت تاريخٌ ضارب في القِدم، يُقدَّر بآلاف السنين، إذ احتلّها الرومان عام 67 قبل الميلاد، وفي عام 395 انتقلت الجزيرة بعد انقسام الدولة الرومانية إلى سيادة الدولة الرومانية الشرقية، وهي الإمبراطورية البيزنطية، والتي استمرَّت سيطرتها على كريت لأكثر من أربعة قرون.
وبعدها انتقلت الجزيرة عام 824 إلى سيطرة مجموعة من الثوار الأندلسيين الذين هُزِموا في ثورة الربض الفاشلة في قرطبة، ليُنفوْا على إثرها، ويهيمون في البلاد، حتى انتزعوا كريت، وأسسوا فيها ما عُرف بإمارة كريت الإسلامية، والتي استمرَّت ما يزيد عن 130 عامًا، قبل أن تضعف، وتنجح الدولة البيزنطية في استعادة كريت عام 961.
كما انتقلت جزيرة كريت عام 1204 إلى حيازة جمهورية البندقية الإيطالية، إثر هزيمة البيزنطيين أمام الحملة الصليبية الرابعة التي ضلَّت طريقها إلى القدس، واجتاحتْ القسطنطينية عاصمة الدولة البيزنطية، لتظلَّ الجزيرة في حيازة البنادقة لأكثر من أربعة قرونٍ، وتلعب بموقعها المتميز في شرقي البحر المتوسط دورًا حيويًا في الهيمنة المتوسَّطية التجارية والبحرية للبندقية في العصور الوسطي، وتصبح أهم ممتلكات البندقية البحرية خارج البر الرئيس للجمهورية.
وفي منتصف القرن السابع عشر الميلادي، وضعت الإمبراطورية العثمانية المهيمنة في الشرق الأوسط وشرقي المتوسط عيونها على جزيرة كريت، لتبدأ في عام 1645 أحداث واحدة من أطول الحروب في تاريخ الدولة العثمانية، وهي «الحرب الكريتية Cretan war»، أو «الحرب العثمانية – البندقية الخامسة»، والتي أعادت للأذهان ذكريات حربٍ سابقة طويلة قبلَ قرنيْن بين العثمانيين والبنادقة في عهد السلطان العثماني الأشهر محمد الفاتح عام 1463.
الطريق إلى حرب كريت
شهد البحر الأبيض المتوسط – لا سيَّما حوضه الشرقي – على مدار القرون الخامس عشر والسادس عشر والسابع عشر الميلادية، معارك بحرية طاحنة، بين الإمبراطورية العثمانية من جهة، وخصومها الأوروبيين وفي القلب منهم جمهورية البندقية، التي صنعت مجدها الحضاري بالهيمنة على خطوط التجارة في المتوسط.
وكان من أبرز فصول ذلك الصدام البحري الممتد انتصار الأسطول العثماني بقيادة البحار الشهير خير الدين برباروس، على أسطول صليبي مشترك قادته إسبانيا والبندقية قرب السواحل اليونانية في موقعة «بريفيزا»
أو «بروزة» عام 1538م، والفتح العثماني لقبرص التي كانت تخضع للبندقية، عام 1570، ثم الهزيمة الكبيرة للأسطول العثماني أمام تحالف صليبي واسع في معركة «ليبانتو» البحرية عام 1571.
ويذكر المؤرخ التركي يلماز أوزتونا في كتابه «تاريخ الدولة العثمانية» أن «جزيرة كريت في منتصف القرن السابع عشر الميلادي كانت أقرب ما تكون إلى واحة معزولة في قلب بحر عظيم من الرمال العثمانية المتحركة، ولم يكن من العجيب أن يقدم العثمانيون على غزوها في ذلك الوقت».
ويضيف أوزتونا: «بل كان ما يثير العجب هو تأخر العثمانيين في حسم هذا الملف، لا سيَّما وأن كريت كانت منذ قرون في دائرة الاستهداف العثماني، والذي بدأ عام 1341 عندما قصفها الأسطول العثماني، دون الإغارة عليها، ثم كانت أول إغارة عثمانية عليها عام 1427، لتشرع البندقية بعدها في تحصين الجزيرة جيدًا، لا سيَّما عاصمتها كانديا، لتضيف إلى مناعتها الجبلية الطبيعية المزيد من الحصانة الدفاعية لتتمكن من تحمل أي حصارٍ عثمانيّ كبير».
ويذكر أوزتونا أيضًا أن الأوضاع الداخلية في الجزيرة كانت مؤاتية للعثمانيين، فالكريتيون الأصليون كانوا ناقمين على حكم البنادقة، الذي لم يكتفوا بالهيمنة العسكرية والاقتصادية على جزيرتهم، واحتكار ثرواتها العظيمة، وفرض الضرائب الباهظة على سكانها، إنما عرضوهم للكثير من مظاهر التعصب الديني، فقد كان البنادقة كاثوليك متعصبين، بينما تمسَّك الكريتيون بمذهب الروم الأرثوذوكس الذي ورثوه عن الحقبة البيزنطية، لتشهد جزيرة كريت أكثر من 20 ثورة من الكريتيين ضد البنادقة في أقل من قرنٍ ونصف سبقت الغزو العثماني، قابلها البنادقة بقمعٍ شديد.
موقع جزيرة كريت، وتظهر الأراضي العثمانية باللون الأحمر، وأراضي جمهورية البندقية باللون الأزرق
وفي عام 1644، جاءت الذريعة المناسبة للعثمانيين لإعلان الحرب على البندقية، وبدء غزوتهم الكبرى لانتزاع جزيرة كريت. فقد هاجم قراصنة بحريون تابعون لدويْلة فرسان مالطة الصليبية قافلة عثمانية مدنية متوجهة من الإسكندرية بمصر إلى إسطنبول، واستولوا عليها، وقتلوا وأسروا المسافرين ومن بينهم العديد من الحجاج، وبعض المحسوبين على البلاط العثماني، ثم لجأوا إلى جزيرة كريت وباعوا بأسواقها بعض الغنائم، وحصلت خزينة البندقية على حصتها من الضرائب على هذا البيع، فاعتبر العثمانيون هذا إعلانًا للحرب من طرف البندقية.
ورغم ما كان يُشاع عن انصراف السلطان العثماني آنذاك إبراهيم بن السلطان أحمد إلى الملذات والملاهي بين المئات من جواريه الحسان، فإن وقعَ الحادثة المروعة قد انتزعَه من تلك الأجواء، ليأمر بتجهيز حملة عسكرية انتقامية كبرى، وكان يذهب بشكلٍ يومي إلى الترسانة البحرية للإشراف بنفسه على إعداد سفن الأسطول التي ستقوم بالغزو، ونقل القوات العثمانية إلى هدفها.
وفي أبريل (نيسان) من عام 1645م تحرَّكت قوات الحملة الضخمة، والتي قدرها يلماز أوزتونا بأكثر من 70 ألف مقاتل على متن أكثر من 400 سفينة، وبحوزتها أكثر من 50 مدفعًا ضخمًا، وكان الهدف المعلن لها هو جزيرة مالطا.
وفي ميناء نفارين اليوناني، التقى الأسطول العثماني بأساطيل حليفة قادمة من الجزائر وتونس وطرابلس الليبية، وتوجه الجميع نحو الهدف الحقيقي بعد الاطلاع على الرسالة المختومة التي أعطاها السلطان لقائد الأسطول، وطلب منه ألا يفتحها إلا بعد مغادرة السواحل اليونانية، وكان الهدف هو جزيرة كريت.
وبحلول الأسبوع الأخير من شهر يونيو (حزيران) من العام نفسه، فوجئ البنادقة بالأسطول العثماني يظهر قبالة ميناء «كانيا» شمال غربي الجزيرة، ليشرع العثمانيون بعدها في فرض حصارٍ بحريٍّ وبريٍّ خانقٍ على الميناء، والذي كانت تحمية أسوار شديدة التحصين، يعلوها أكثر من 375 مدفعًا مختلف الطراز.
يسجل يلماز أوزتونا في كتابه «تاريخ الدولة العثمانية» استمرار الحصار العثماني لـ«كانيا» لما يقارب الشهرين، شهدت قصفًا عثمانيًا متواصلًا للأسوار الحصينة، ومحاولات متكررة من القوات البرية العثمانية لاقتحامه، واستفاد العثمانيون خلال تلك المعركة من نقمة السكان المحليين في كريت على البنادقة.
واضطرت الحامية الصغيرة للميناء لطلب الاستسلام مقابل الرحيل، لتحملهم خمس سفنٍ عثمانية وفق الاتفاق إلى عاصمة كريت، مدينة «كانديه»، والتي ستشهد لاحقًا الثقل الأكبر من الحرب والحصار، فيما شن أسطول البندقية غاراتٍ انتقامية على بعض المدن العثمانية في إقليم المورة اليوناني.
وبعد أربعة أشهر، وقبل اشتداد الشتاء وانقطاع خطوط الإمداد البحري، غادر يوسف باشا قائد الأسطول العثماني كريت، تاركًا 12 ألف جندي عثماني لحماية ميناء «كانيا»، وكذلك تفرَّقت أساطيل الجزائر وتونس وطرابلس، لكن لم يعد يوسف باشا إلى كريت مجددًا، فقد فقد رأسه بعد شهرين في صراعاتٍ على السلطة في إسطنبول.
في تلك الأثناء، ورغم انشغال أوروبا بحرب الثلاثين عامًا الطاحنة (1618-1648م) بين البروتستانت والكاثوليك، فقد بدأت المساعدات تتدفق على البندقية لمواجهة الغزو العثماني لكريت، لاسيَّما من طرف بابا روما، وفرسان مالطة، وبعص القوى الأوروبية الكاثوليكية الأخرى، وشرع البنادقة في تحصين «كانديا» تحصينا مُحكمًا، وحصلوا على خدمات المئات من المقاتلين المحترفين من المرتزقة، وأرسلوهم إلى كريت.
خلال عام 1646، وبعد انقضاء الشتاء، توالت الإمدادات العثمانية إلى القوات الموجودة في كريت، فأتمَّ العثمانيون السيطرة على معظم أرجاء كريت، ومنها مدينة «ريسمو»، ثالثة كبريات مدن الجزيرة والتي سقطت في قبضة العثمانيين في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) من العام نفسه، ولم يبقَ من الجزيرة بحوزة البنادقة سوى العاصمة الحصينة «كانديا»، والتي شرع العثمانيون في تطويقها وحصارها ابتداءً من صيف عام 1647م، وإن أعجزتهم أسوارها الحصينة عن تحقيق انتصارٍ سريع كانوا يتلهَّفون إليه.
حاول أسطول البندقية منع وصول الإمدادات العثمانية إلى كريت، لكن لم ينجح في تحقيق ذلك، وتعرَّض في مارس (آذار) 1648 لهزيمة بحرية أمام الأسطول العثماني خسر خلالها البنادقة 26 من سفنهم، لكن لم يمنعهم هذا من مواصلة الإغارة البحرية على المواقع العثمانية في بحر إيجة وصولًا إلى مضيق الدردنيل، لتشتيت التركيز العثماني على «كانديا».
وخدمت الأقدار البنادقة بأكثر مما كانوا يتمنَّون، فقد كان صيف 1648 ملتهبًا في إسطنبول التي اشتعل فيها الصراع السياسي حول السلطان المهتز إبراهيم، والذي تآمر ضده بعض قادة الجند الإنكشارية بعد أن علموا أنه ينوي التخلص منه لعجزه عن السيطرة عليهم، فقتلوه في الثامن عشر من أغسطس (آب) 1648، ونصَّبوا مكانه ابنه الطفل الصغير ذي الأعوام السبعة، محمد، والذي حمل لقب بمحمد الرابع.
كانت الوصية على عرش السلطان الصغير هي جدته ذات النفوذ الكبير «كوسم سلطان»، والتي لم تحسن التدبير، واهتزَّت الدولة بفعل صراعات العسكر من حولها، وانتهى الأمر بقتلها في اضطراباتٍ كبيرة وقعت عام 1651م، وآلت الوصاية إلى أم السلطان «خديجة تارخان»، والتي كانت أفضل كثيرًا في سياساتها من الجدة المقتولة.
وقد ألقت تلك الاضطرابات في العاصمة العثمانية بظلالها السلبية على نجاعة الجهود العسكرية في احتلال «كانديا»، فرغم حصول قائد الحملة حسين باشا على بعض الدعم من الأسطول العثماني في عام 1649، ونجاح الجيش في قتل قائد جزيرة كريت من جهة البندقية في معركة خارج أسوارها في أغسطس (آب) 1649، فإن ما كان يملكه من قوة لم يكن كافيًا لاقتحام المدينة الحصينة عسكريًا، فاكتفى بتطويقها وإحكام الحصار حولها، وإفساد مصادر المياه الداخلة إليها، لكن لم ينجح الأسطول العثماني في عزل المدينة بشكلٍ كامل من جهة البحر واستمر وصول الإمدادات الدفاعية إليها من جهة البندقية وحلفائها.
21 عامًا .. أطول حصارٍ في التاريخ
21 عامًا وأربعة أشهر، هي المدة الكلية التي طوَّق خلالها العثمانيون مدينة «كانديا» (هيراكليون) عاصمة كريت، ليصنعون واحدةً من أطول معارك الحصار في التاريخ الإنساني، مع تطاول المعركة، والعجز الظاهر عن الحسم، فبدأت القوات العثمانية حول «كانديا» في حفر المئات من الخنادق والأنفاق تحت الأرض للتمركز بداخلها، وتخزين الذخائر، ومواجهة مناخ الشتاء الصعب، وتجنب البقاء في العراء تحت سطوة المدافع والبنادق المتمركزة أعلى أسوار «كانديا».
وبالعودة إلى إسطنبول بين عاميْ 1651 و 1656م، فقد كانت الاضطرابات السياسية ما تزال تعصف بالدولة العثمانية، رغم التخلص من الكثير من قادة الإنكشارية المتمردين، فقد تعاقب على منصب الصدارة العظمي (أشبه برئاسة الوزارة) العديد من رجال الدولة والذين عجز أي منهم عن الحفاظ على منصبه لأكثر من بضعة أشهر، وقد استغلّ البنادقة تلك الحالة المضطربة، وتمكَّن أسطولهم عام 1656 من السيطرة على مضيق الدردنيل، واحتلال بعض المناطق العثمانية القريبة منه، وفرضوا ما يشبه الحصار البحري ضد إسطنبول.
وإزاء هذا الخطر المحدق، استعانت السلطانة تارخان بالداهية شديد الحزم والسطوة بمحمد باشا كوبريللي، والذي اشترط لقبول منصب الصدر الأعظم منحَه سلطاتٍ مطلقة ليقبض على الدولة بيدٍ من حديد وينهي الاضطرابات والفوضى، ليبدأ ما عُرف بعصر آل كوبريللي والذي سيستمر لعقودٍ تالية.
وجاء في الجزء الثالث من موسوعة تاريخ تركيا لجامعة كامبريدج، أن الحكم الفردي القوي الذي أظهره آل كوبريللي في موقع الصدارة العظمى، قد اتخذ قدوته من عصر السلطان القوي مراد الرابع (1623 – 1640) والذي قبض على السلطة بقوة، وقمع تمرد الجنود الإنكشاريين، ونجح في تحقيق انتصاراتٍ مدوية ضد عدوٍ خارجي هو الصفويون، وانتزع منهم حاضرة العراق بغداد عام 1638.
ولم يتردد محمد باشا كوبريللي في شهوره الأولى في سفك دماء العشرات ممن اعتبرهم مصادر للاضطرابات في الدولة، ثم خدمته الظروف كثيرًا عندما قاد الأسطول العثماني المتوجة لفك حصار البنادقة عن الدردنيل، فقد أصابت قذيفة مدفع عثماني مخزن الذخيرة في سفينة القيادة البندقية فنسفتها نسفًا، وقُتل قائد الأسطول.
وأعاد العثمانيون سيطرتهم على المضيق، وارتفعت أسهم كوبريللي كثيرًا لدى السلطان الشاب محمد الرابع، ولدى الشعب، وواصل حملته السلطوية للسيطرة على الدولة متدثرًا بانتصاره العسكري الكبير، وكان من بين خصومه الذين تخلص منهم عام 1658 القائد حسين باشا، قائد القوات العثمانية في كريت لسنوات.
وانشغل كوبريللي باشا في السنوات القليلة التالية بحروبٍ قوية ضد كلٍّ من النمسا وروسيا، تكلَّلت بالانتصارات، مما عزَّز من سلطته أكثر فأكثر، أما في كريت، فقد أصبح الوضع يشبه حالة التعادل في لعبة الشطرنج، فالعثمانيون رابضون في خنادقهم التي أصبحت أشبه بمدينة كاملة تحت الأرض، عاجزون عن اختراق أسوار «كانديا»، وحامية المدينة بالكاد قادرة على الحفاظ على المدينة، لكنها لا تملك القوة الكافية لكسر الحصار والقضاء على العثمانيين المتخندقين جيدًا حول المدينة.
«وأي عمل أعظم بطولة من الدفاع عن كانديا ضد الترك؟ فطوال ربع قرن ظل جنود الباب العالي وبحارته يهاجمون كريت، وهلك في تلك الحملات العنيفة مائة ألف تركي، ومع أن الجيش العثماني استولى على بعض المدن الصغيرة في الجزيرة، فإن العاصمة صمدت للحصار عشرين عامًا، وصدت اثنين وثلاثين هجومًا»*وول ديورانت، متحدثًا عن الحصار العثماني الطويل لكانديا عاصمة كريت في موسوعة قصة الحضارة.
توفي محمد باشا كوبريللي عام 1661، وخلفه في الصدارة العظمى ابنه القوي فاضل أحمد باشا كوبريللي، والذي انشعل في سنواته الثلاثة الأولى بحربه القوية ضد النمسا، والتي عزَّزت موقف العثمانيين في شرقي ووسط أوروبا، وفرضت على النمسا الإذعان للهدنة ودفع جزيةٍ حربية، وبعد عام 1664 بدأ أحمد باشا كوبريللي يتفرغ لحسم ملفٍ عالق منذ ما يقارب 20 عامًا هو ملف حصار «كانديا»، وإتمام السيطرة العثمانية على جزيرة كريت.
في تلك الأثناء، توترت العلاقات بين العثمانيين وفرنسا بقيادة الملك الكاثوليكي المتعصب لويس الرابع عشر، والذي كان يرسل الدعم والإمدادات بشكلٍ دوري إلى حامية «كانديا» في كريت، مما أدى إلى تحريض العثمانيين للجزائر على الصدام بالفرنسيين عام 1664.
ونجح الجزائريون في هزيمة إنزال فرنسي على الأراضي الجزائرية وقتل الآلاف من الجنود الفرنسيين. ولم يمنع هذا الصدام مع فرنسا ضمان عدم تدخلها بشكلٍ كبير في مجريات الصراع في كريت بشكلٍ قد يخل التوازن العسكري القائم فيها كما سنرى لاحقًا.
ففي صيف عام 1666، خرج أحمد باشا كوبريللي بنفسه قائدًا لحملة عسكرية كبرى إلى كريت، بصحبة عشرات الآلاف من الجنود العثمانيين على متن أكثر من 170 سفنية حربية، وصلت إلى ميناء «كانيا» في كريت، حيث قضى أحمد باشا شهور الشتاء في كانيا لإتمام الاستعدادات الحربية. وكان أحمد باشا مطمئنًا إلى استقرار الأوضاع في إسطنبول تحت قيادة قرة باشا مصطفى صاحب الكفاءة والولاء الكبيريْن.
ويروي المؤرخ التركي يلماز أوزتونا في كتابه «تاريخ الدولة العثمانية» تفاصيل الفصل الأخير من حرب كريت قائلا: في مايو 1667 وصلت قوات أحمد باشا كوبريللي إلى محيط كانديا، وشرعت المدافع العثمانية في إمطار المدينة بمئات القذائف يوميًا، لكن صمدت المدينة طوال الصيف، حتى حلَّ الشتاء.
لكن لم ينسحب أحمد باشا من كريت، إنما لجأ بقواته إلى الخنادق والأنفاق تحت الأرض طوال الشتاء، ثم تجددت المعارك في صيف 1668، لكن عجز العثمانيون مرة أخرى عن الحسم، وجاءتهم إمدادات متلاحقة، وقضى الجيش العثماني شتاء 1668 أيضًا تحت الأرض.
في تلك الأثناء أرسلت جمهورية البندقية وفدًا للتفاوض مع السلطان العثماني محمد الرابع من أجل الوصول إلى السلام على أن تبقى كانديا في حوزة البندقية لحفظ ماء وجهها أمام القوى الأوروبية الكاثوليكية التي اعتبرت المعركة فصلًا من الحروب الصليبية ضد المسلمين، لكن رفض السلطان عقد الصلح مع البندقية، وحشد جيشًا كبيرًا بقيادته، ليكون مستعدًا في أية لحظة للإبحار إلى كريت إذا دعت الحاجة لذلك.
وفي صيف 1669، وهو الصيف الثالث لكوبريللي أمام «كانديا»، تجددت المعارك الضارية، وازدادت المعركة شراسة عندما تمكَّن أسطول فرنسي كبير من اختراق الحصار البحري العثماني وإنزال آلاف الجنود لدعم حامية «كانديا»، لا سيما وأن الأسطول العثماني كان عاجزًا عن الاقتراب من ميناء «كانديا» الذي كانت تحميه المئات من المدافع، وقد شهد هذا الصيف الملتهب مقتل العديد من أمراء ونبلاء أوروبا مدافعين عن «كانديا»، من إنجلترا وفرنسا والبندقية والنمسا وسواها، مما أظهر الوجه العالمي لهذا الصدام العسكري في كريت.
ومن أجل تعجيل الحسم، بدأ العثمانيون في مد أنفاقٍ عديدة أسفل حصون «كانديا»، وتلغيمها وتفجيرها، وقدرت عدد تلك الألغام الأرضية التي فجرها العثمانيون بأكثر من 8 آلاف لغم، فاجتمع على حامية المدينة الموت والفزع والجوع، رغم الإمدادات الأوروبية المتواصلة.
وهنا رأى قائد الحامية موروسيني، والذي قاد الدفاع عن «كانديا» ببسالة لأكثر من 13 عامًا، أن استمرار القتال عبث، وأن مصير المدينة الحتمي هو الاقتحام، وحينها يطبق العثمانيون عليها أقصى قوانين الفتح العسكري.
وقد فتَّ في عضد المدافعين انسحاب الأسطول الفرنسي، وأسطول فرسان مالطة في أغسطس 1669 حاملين المئات من جثث قتلاهم، والآلاف من المصابين والجرحى، فتطورت مفاوضات التسليم مع العثمانيين، حتى وُقع اتفاق التسليم في الخامس من سبتمبر (أيلول) عام 1669.
ونصَّت بنود الاستسلام على أن تؤول ملكية «كانديا»، والألف مدفع على أسوارها إلى العثمانيين، بينما يُسمح لمن بقي من الحامية بالانسحاب بما يستطيعون حمله شخصيًا من متعلقاتٍ وأسلحة، ومنحت الدولة العثمانية للبندقية ثلاث قلاع صغيرة على كريت للأعمال التجارية فحسب.
وفي 27 سبتمبر 1669م، تسلَّم العثمانيون مفاتيح «كانديا»، وتبادلوا الزيارات الرسمية مع من استسلم من نبلاء وأمراء أوروبا داخل «كانديا»، وعبر كوبريللي باشا عن تقديره الكبير لقائد الحامية موروسيني على دفاعه الشجاع عن «كانديا» على مدار سنواتٍ طويلة.
ويقدر المؤرخ التركي يلماز أوزتونا خسائر العثمانيين في المعارك والأوبئة على مدار أكثر من ربع قرنٍ من المعارك بأكثر من 130 ألف قتيل، منهم أكثر من 8 آلاف تحت إمرة أحمد باشا كوبريللي، وقد ظلَّت كريت تحت السيطرة العثمانية على مدار حوالي 230 عامًا، تخلَّلها فترة قصيرة من سيطرة والي مصر المتمرد محمد علي باشا، ثم آلت إلى سيطرة دولة اليونان عام 1898.