شهدت مدينة فارنا واحدة من أبرز المعارك في تاريخ العصور الوسطى، عندما حشدت الدول الأوروبية الكاثوليكية في شرقي وجنوب شرقي أوروبا، قدَّها وقديدها، في حملة صليبية كبرى دعا إليها بابا روما يوجين الرابع، لدفع العثمانيين خارج أوروبا، واستعادة ما انتزعته فتوحاتُهم من مناطق في بلغاريا واليونان وشبه جزيرة البلقان.
اصطدمت الحملة الصليبية بالجيش العثماني بقيادة السلطان مراد الثاني – والد محمد الفاتح الشهير – في معركة فارنا، لتنتهي بانتصارٍ ساحقٍ للعثمانيين، أضعف كافة خصومهم القريبين في أوروبا بضربةٍ واحدة، وتمثلَّت أبرز نتائجه في بدء العدِّ التنازلي الفعلي لفتح القسطنطينية، بعد أن خلت الساحة للعثمانيين للانفراد بما بقي من أشلاء الإمبراطورية البيزنطية الغاربة.
والآن، نعود إلى الوراء قليلًا لنتتبع خيوط معركة فارنا التاريخية.
طريق القسطنطينية المفروش بالملاحم والدماء
يتفق المهتمون بالتاريخ العثماني على أن فتح العثمانيين للقسطنطينية عام 1453م (857هـ)، كان واسطة العِقد في تاريخ الدولة العثمانية، وبداية الفصل الأهم في كتابها، وهو فصل التحول إلى قوةٍ عظمى تُهيمِن على المفرَق بين المشرق والمغرب مادة ومعنًى. كذلك كان ذلك الحدثُ من أبرز الوقائع المفصليَّة في تاريخ الأمة الإسلامية، بل وفي تاريخ العصور الوسطى ككل.
لكنَّ ذلك الفتحَ الهائل للعاصمة التاريخية للبيزنطيين لم ينشأ من العدم، فعلى مدار ثمانية قرون من الصدام بين البيزنطيين، وخصومهم من الدول والقوى الإسلامية المتعاقبة منذ القرن الأول الهجري، حدثت فصولٌ كثيرة من الصراع والتهادن، ومن المد والجزر، كانت فيها القسطنطينية قريبةَ المنال على بُعدٍ، أو بعيدة على قُرب.

حدود الدولة العثمانية في عهد السلطان مراد الثاني.
كان من أبرز النقلات التاريخية في ذلك الصراع المحتدم، نجاح جيش دولة الأتراك السلاجقة بقيادة ألب أرسلان في إلحاق هزيمة نكراء بجيش الإمبراطور البيزنطي رومانوس الرابع، في موقعة ملاذكرد عام 463هـ، الموافق 1071م، التي فتحت الأبواب على مصراعيها أمام القبائل التركية المسلمة للتوسع غربًا في هضبة الأناضول، ودفع الأتراك الوجود البيزنطي شيئًا فشيئًا إلى أقصى غرب القارة الأوروبية.
ثم ظهرت إمارة العثمانيين الأتراك الوليدة مطلع القرن الرابع عشر الميلادي في الجزء الغربي من هضبة الأناضول، وكان شغلها الشاغل هو التوسع على حساب ما بقي من مناطق سيطرة البيزنطيين في الأناضول، على مرمى حجر من الجائزة الكبرى: القسطنطينية.
ولما استعصت أسوار القسطنطينية على العثمانيين غير مرة، لم يقفوا مكتوفي الأيدي، إنما عبروا مضيق الدردنيل إلى أوروبا منذ عهد أورخان الأول، ثاني السلاطين العثمانيين، وبدأوا في تثبيت أقدامهم في أوروبا، وأحاطوا بذلك بالقسطنطينية إحاطة السوار بالمعصم، وكادوا يفتحونها أوائل القرن الخامس عشر في عهد السلطان الرابع بايزيد الصاعقة، لكن دهم الأناضولَ خطر غزوة تيمور لنك، الذي اصطدم ببايزيد في موقعة أنقرة عام 1402م، وأوقع به هزيمة نكراء، ليموت كمدًا في أسر تيمور لنك.
تفككت الدولة العثمانية الفتية بعد أسر وموتِ سلطانها، وتصارع على عرشها المتداعي بعد رحيل تيمور لنك، أربعة سلاطين من نسل بايزيد، لمدة 10 أعوام، انتهت بعد حروب دموية عنيفة بهيمنة السلطان محمد جلبي الأول بن بايزيد على العرش عام 1413م، وتوحيد أجزاء الدولة الآسيوية والأوروبية مجدَّدًا، مُنهيًا بذلك ما عُرف بمرحلة الفترة العثمانية.
بعد ذلك، عادت الجيوش العثمانية للتوسع في أوروبا، فاستولت على إقليم والاشيا الروماني عام 1415م، وأجزاء من ألبانيا، وبالتوازي مع ذلك تمدَّدت السيطرة العثمانية في الأناضول في إقليم كيليكيا، ثم قمع السلطان محمد ثورة القاضي بدر الدين والتي استمرَّت أربعة أعوام حتى عام 1420م. وفي العام التالي توفي السلطان محمد، وخلفه في الحكم ابنه مراد الثاني والذي لم يكد يتم 18 عامًا من العمر في حينها.
مراد الثاني على العرش.. حروبٌ وخُطوب
استقرَّ عرش الدولة العثمانية تحت حكم مراد الثاني، الذي أظهرَ كفاءةً سياسية وعسكرية غير متوقعة بالنظر إلى حداثة سنه، بعد النجاح في قمع تمرد عمه مصطفى جلبي على حكمه، الذي أطلقه البيزنطيون ودعموه لمواجهة السلطان الشاب.
عام 1422م، حاصر مراد الثاني القسطنطينية، انتقامًا من تحريضهم لعمه ضده، لكنه فشل في دخولها لمناعة تحصيناتها، فرفع الحصار، ثم انشغل في الأعوام التالية بقمع بعض التمردات في الأناضول، واستعادة ما فقده العثمانيون هناك في أعقاب غزوة تيمور لنك المدمرة.
بعد بسط سلطانه على الأناضول، عاد حلم القسطنطينية إلى مركز اهتمام مراد الثاني مُجدَّدًا، لكنه رأى أن الأولوية تكونُ للعودة للتوسع في أوروبا، وإضعاف كافة الدولة المسيحية القريبة، لتأمين ظهره في أوروبا عندما يحاصر القسطنطينية مجدَّدًا لفترة أطول حتى افتتاحها.
شنَّ الجيش العثماني هجماتٍ على دولة المجر، دفعتها للانسحاب إلى ما وراء نهر الدانوب، كذلك فرض مراد الثاني على ملك الصرب قبول السلام معه، ودفع الجزية للخزانة العثمانية.
عام 1430م، استعاد مراد الثاني مدينة سالونيكا اليونانية الهامة على بحر إيجة. وعام 1433م، فرض على فالاد الوالاشي – الملقب بدراكولا – أمير ترانسلفانيا الرومانية أن يخضع لسلطانه ويدفع الجزية، ثم حاربه عام 1438م عندما تحالفَ مع المجريين ضد العثمانيين، وأجبرَه وحلفاءَه على العودة للطاعة إلى حين. وفي عام 1439م، اقتتح العثمانيون مدينة سمندرية الصربية القريبة من بلغراد، لكنهم عجزوا لستة أشهر عن قهر أسوار بلغراد الحصينة، والتي سيتأخر فتحها 82 عامًا إلى عهد السلطان سليمان الملقَّب بالعظيم.
لكن تعرَّضت الجيوش العثمانية لهزيمتيْن مفاجئتيْن عامي 1441 و1442م، على يد جيوش المجر بقيادة القائد العسكري المجريّ الشهير هونياد، وقُتِل في هاتيْن المعركتيْن الآلاف من خيرة المقاتلين العثمانيين، وأصبح الوضع في الشطر الأوروبي من الدولة العثمانية يُنذر بالخطر، وتشجَّعت القوى الأوروبية على مقارعة العثمانيين رأسًا برأس.
في العام التالي، 1443م، استغلَّ هونياد انتصاراته السابقة، وتوغَّل في البلقان، ونجح في الانتصار على الجيش العثماني للمرة الثالثة، رغم قيادة السلطان مراد الثاني بنفسه للجيش، وذلك قرب مدينة نيش الصربية الاستراتيجية.
إزاء تلك الانتكاسات المتتالية، اضطر السلطان مراد الثاني للتفاوض، والقبول بعقد معاهدة سلام في يوليو (تموز) 1444م، مع هونياد المجري، لمدة 10 سنوات، مقابل تنازل العثمانيين عن بعض ما اكتسبوه من الأراضي في رومانيا وصربيا الحاليتيْن.
بعد عقد تلك المعاهدة بقليل، تُوُفّي الابن الأكبر للسلطان، واسمه علاء الدين، فحزن عليه والده بشدة، لدرجة أنه قرر اعتزال العرش، وتركه لابنه الثاني محمد – الذي سيحمل لقب الفاتح بعد سنوات – وكان لا يزال صبيًا في الثانية عشر من عمره.
نظرت أوروبا الكاثوليكية إلى تلك التطورات على أنها فرصة استثنائية لسحق الدولة العثمانية، أو على الأقل دفعها خارج أوروبا، فتسارعت الجهود التي بدأ فيها بابا روما يوجين الرابع قبل سنوات، لحشد القوى الأوروبية الكاثوليكية في حملة صليبية كبيرة تسترجع كل ما افتتحه العثمانيون في جنوب شرق أوروبا على مدار قرنٍ من الزمن.
أُسندت قيادة الحملة الصليبية للملك فلاديسلاف الثالث، ملك بولندا والمجر، والقائد المجري المنتصر لتوّه على العثمانيين، هونياد المجري، اللذين امتلكا تحت إمرتهما عشرات الآلاف من مقاتلي المجر وبولندا والبلغار والكروات والصرب وغيرهم، على أن تساهم جمهورية البندقية الإيطالية بأسطولها القوي في احتلال مضيق الدردنيل، بوابة العثمانيين للعبور بجيوشهم إلى أوروبا.
خرق الصليبيون الهدنة مع العثمانيين «الكفار» – كما كانوا يصفونهم – التي لم يمضِ على إبرامِها أكثر من أربعة أشهر، وتوغَّل الجيش الصليبي في أعماق الأراضي العثمانية في أوروبا في شهري أكتوبر ونوفمبر 1444م، ووصلت النُّذُر إلى العاصمة العثمانية أدرنة – الواقعة في الجانب الأوروبي من الدولة – فما كان من السلطان الصبي إلا أن أرسل يستنجد بأبيه من معزله الاختياري.
نقلت بعض كتب التاريخ العثماني رسالة مؤثرة من الابن لأبيه مضمونها، أن الأب إن كان هو السلطان على الحقيقة، فالأمر خطير، ولا بد أن ينهض بنفسه لقيادة جيشه في المعركة، وإن كان السلطان هو الصبي، فإنه يأمر السلطان الوالد بالعودة إلى العرش، ومواجهة الصليبيين. وبالفعل استجاب مراد لنداء ابنه والدولة، وحشد ما استطاع من القوات من الأناضول واتَّجه صوب البلقان.
الصدام في معركة فارنا
في مدينة فارنا، غير بعيدٍ عن شمال غرب القسطنطينية، وقرب ساحل البحر الأسود، تقابل الجحفلان الكبيران في العاشر من نوفمبر (تشرين الثاني) 1444م، وكان قوام كلٍّ منهما في أقل تقدير بين 20 و25 ألف مقاتل، وقدرت بعض المصادر الأوروبية أعداد العثمانيين بضعف هذا الرقم.
لم يتوقع الجيش الصليبي أن ينجحَ السلطان مراد الثاني في العبور بجيشه الكبير من الأناضول عبر مضيق الدردنيل، الذي كان من المفترض أن يغلقَه أسطول جمهورية البندقية.
كانت المفاجأة أن أسطول مدينة جنوة الإيطالية – حلفاء مراد الثاني – أعانوا الجيوش العثمانية لتعبرَ ذلك المضيق، ولم يمكِّنوا خصومهم البنادقة من إعاقة التقدم العثماني، ولم تكن تلك المرة الأولى، ولا الأخيرة، التي استغل فيها العثمانيون العداوات البينية في أوروبا الكاثوليكية من أجل تحقيق مصالحهم.

معركة فارنا في لوحة من رسم ستانيسلاف شبلوكي. المصدر: متحف بيرا في إسطنبول.
وجد الصليبيون أنفسهم وقد أصبحوا في ما يشبه الحصار في فارنا، فساحل البحر الأسود وراءهم إلى الشرق، وجيش مراد الثاني أمامهم من الغرب.
وكانت هناك مشكلة جوهرية في قيادة الجيش الصليبي، نتيجة الفارق الكبير في القدرات القيادية العسكرية بين هونياد المجري، والملك فلاديسلاف، الذي كان القائد العام للحملة. كان بمقدرة هونياد بمفرده أن يقوم بالكثير، لكن وجود الملك أفسد الكثير من تكتيكاته العسكرية التي كانت قادرة على مواجهة العثمانيين باحترافية.
في بداية المعركة، تقدمَّت ميسرة العثمانيين المكونَّة من فرسان السيباهي خفاف الحركة صوب ميمنة الصليبيين، الذين تصدوا لهجوم السيباهي، ثم اندفعوا ليطاردوهم، حتى ابتعدوا كثيرًا عن خطوطهم، ليُفاجأوا بأن انسحاب السيباهي كان استدراجًا لهم إلى كمين محكم أخرج ميمنة الصليبيين من المعركة عمليًا.
حاولت ميمنة العثمانيين تكرار ما حدث مع ميسرة الجيش الأوروبي، لكن نجحت الأخيرة في امتصاص الهجوم، والتقدم بثبات بقيادة المجري هونياد، مجبرين الميمنة العثمانية على الفرار. عندئذٍ بدأ القائد الصليبي العام الملك فلاديسلاف الهجوم الرئيس من القلب، صوب القلب العثماني المتمركز به السلطان مراد الثاني، لكن كان هذا الهجوم على قوة اندفاعه، يفتقرُ إلى التنظيم.
دار قتالٌ حامي الوطيس بين القلبيْن، أظهرت فيه فرق الانكشارية العثمانية كفاءةً منقطعة النظير في التنظيم وقوة النيران، ودقتها، وفي القتال الفردي المتلاحم الذي يفقد فرسان الصليبيين ميزتهم النوعية في السرعة والاندفاع.
كانت لحظة الانقلاب الحقيقة في تلك المعركة الشرسة عندما نجح أحد الجنود الإنكشارية العثمانيين، من الحرس الخاص للسلطان مراد الثاني، في اصطياد الملك فلاديسلاف، فخرَّ صريعًا، واضطرب الصليبييون واختلّ نظامهم أكثر، لا سيَّما وقد لملمت الميمنة العثمانية فلولَها، وعاودت الهجوم بضراوة مع ذيوع أنباء مقتل الملك الصليبي.
حاصر العثمانيون ما بقي من ميسرة الجيش الصليبي وقلبه بين قُطبّيِ الرحى، فسقط الآلاف من القتلى في وقت يسير، وما انجلى غبار المعركة إلا وقد قُضيَ على خيرة فرسان ومشاة أوروبا الكاثوليكية قضاءً شبه مبرم.
اختلفت المصادر في تقدير خسائر الطرفين في تلك المعركة الضارية، لكن تطابقت الآراء حول ضخامة الخسائر البشرية في الجانبيْن، حتى لدى العثمانيين المُنتَصرين.
ما بعد معركة فارنا
حاول القائد المجري هونياد، إعادة تجميع قواته، ومواجهة العثمانيين مرة أخرى للثأر من هزيمة فارنا، فتحالف مع القائد الألباني المناوئ للعثمانيين، إسكندر بك، وشنَّا حملة صليبية جديدة، اصطدمت بجيش السلطان مراد الثاني في إقليم كوسوفو في البلقان، فيما عُرِفَ بموقعة كوسوفو الثانية عام 1448م، والتي أظهر فيها العثمانيون تفوُّقًا كبيرًا في العدد والعُدَّة، فتلقى الصليبيون هزيمةً لا تقل عن هزيمتهم في معركة فارنا.
أتاح هذا الانكسار الكبير لقوى شرق أوروبا، للسلطان محمد الثاني بن مراد الثاني أن يحاصر القسطنطينية بعد أقل من خمس سنوات في عام 1453م، ويحقق الفتحَ المنتظر لقرون. أما هونياد، فظل خصمًا عتيدًا للعثمانيين حتى توفي عام 1456م، بعد أيامٍ قليلة من إسهامه في منع فتح السلطان محمد الفاتح لمدينة بلجراد الحصينة مفتاح الولوج إلى العمق الأوروبي.