من السهل أن نجد بثًا مباشرًا على مواقع التواصل الاجتماعي حاليًا لامرأة أو رجل يتحدثان عن حالتهما النفسية بكل تفاصيلها الدقيقة أمام جمهور لا يعرف عنهم شيئًا؛ إذ لم تعد تتوقف مشاركة الحالة النفسية للفرد على مواقع التواصل الاجتماعي على نشر مقاطع مصورة تُعبّر عنه، بل أصبحت تتضمن المنشورات المكتوبة عن الحالة النفسية والمصورة للفرد شخصيًا مع تعليق يفيد بأنه يعاني نفسيًا.

تلك الطريقة في التعبير عن الإرهاق النفسي يطلق عليها علماء النفس «إستراتيجية الحياة المفتوحة»؛ التي يُعرّي الفرد فيها نفسه أمام أشخاص لا تربطه بهم أي صلة سوى الوجود المشترك على مواقع التواصل الاجتماعي، لكن هل هذه الطريقة في التعبير صحيّة؟ وهل تعود بالنفع على من ينتهجها؟ هذا ما يكشف عنه هذا التقرير.

دعوة للتنمر؟.. الحياة المفتوحة لهادية غالب

مؤخرًا بدأ اسم هادية غالب يتردد على الصفحات الرئيسة لمواقع التواصل الاجتماعي بين مؤيد وساخر؛ إذ تنشر هادية على حسابها الشخصي، الذي يضم مليوني متابع، نصائح تتعلق بالموضة، والتجميل، والتمتع بالحياة، مثل «فاشونستا»، وهي مهنة جديدة ظهرت على مواقع التواصل الاجتماعي.

مؤخرًا ظهرت هادية غالب في بث مباشر على حسابها الشخصي بموقع «إنستجرام» تبكي بسبب ما سمتّه «التنمر» الذي تتعرض له من طرف بعض متابعيها الذين روأ أن المعاناة المفترضة التي تروج لها عن نفسها «مجرد رفاهية» بالنسبة إليهم، خاصة أنها تنتمي لأسرة ثرية، ولم يشفع لهادية غالب لدى منتقديها ظهورها باكية، بل تعامل البعض مع بكائها على أنه مجرد مظهر آخر من مظاهر الرفاهية، وفي المقابل تصدى بعض معجبي هادية غالب للدفاع عنها؛ لتتندلع حالة من الجدل بين متابعيها، هل هادية غالب مرفهة أم عصامية؟

ولا تعتبر هادية الحالة الوحيدة التي تشارك حالتها النفسية ولحظات ضعفها على مواقع التواصل الاجتماعي؛ إذ لم يعد الأمر حكرًا على مشاهير مواقع التواصل الاجتماعي فقط، بل قد ترى بعض الأصدقاء غير المقربين على مواقع التواصل يتحدثون للعامة عن أدق مشاكلهم النفسية، وقد تجد بعض التعليقات الساخرة على منشوراتهم من طرف متابعيهم.

وأحيانًا لا يقصد المتابع جرح من يعبر عن مشاعره ولحظات ضعفه، ولكن منشورًا على «فيسبوك» قد لا ينجح في توصيل طبيعة الحالة النفسية التي يعاني منها الشخص الذي كتبها، فهل يجب علينا حقًا مشاركة حالتنا النفسية على مواقع التواصل الاجتماعي؟

«الإفراط في المشاركة عن الحالة النفسية على مواقع التواصل الاجتماعي يمكن تشبيهها بالـ«وشم الرقمي» فقد يبدو الأمر جيدًا في لحظة النشر، ولكن من الصعب التراجع عنه أو التخلص منه لاحقًا». هكذا وضح أستاذ علم النفس بجامعة ماكوايري بأستراليا (Macquarie University) سيمون بواج، مدى خطوة وحساسية مشاركة مشاعرنا وخصوصيتنا على مواقع التواصل الاجتماعي.

فإذا شعرت بالانهيار النفسي الساعة الثانية صباحًا؛ وخرجت في بث مباشر تخبر الجميع بما تشعر به، فإنك بعد عدة ساعات وبمجرد استيقاظك من النوم ستشاهد البث والتعليقات السلبية المحتملة، وهو ما يزيد الأمر سوءًا، وفي هذه الحالة سيكون من الصعب التخلص من أثر البث بعد أن رآه الكثيرون حتى لو حذفت الفيديو.

في هذه الحالة فنحن نشارك أمرًا خاصًا، وهي عادة تشجع عليها وسائل التواصل، فعلى سبيل المثال كل مرة تُسجل الدخول لموقع «فيسبوك»؛ يسألك: «ما الذي يدور في ذهنك؟» لكن هل من الصحي أن تجيب عن هذا السؤال وتشارك مشاعرك وأفكارك الخاصة للمجتمع المفتوح؟

في ظاهرة يطلق عليها علم النفس تعبير «FOMO» أو «الخوف من أن يفوتنا شيء»، يتحول الناس على مواقع التواصل الاجتماعي إلى نوعين: نوع يريد مشاركة كل مشاعره وخبراته بشكل مبالغ فيه، والثاني يريد متابعة كل شيء خوفًا من أن يفوتهم أمر دون أن يكوّنوا عنه صورةً ذهنيةً ما.

وعندما يجد متابعو أحد مشاهير مواقع التواصل الاجتماعي، أو حتى صديق عابر على «فيسبوك»، يتحدث في بث مباشر للعامة عن مشاعره الداخلية الخاصة، فإنهم يعتبرون ذلك دعوة لأن يقولوا رأيهم في هذه المشاعر، وليس من المضمون أن يكون رأيهم داعمًا دامئًا، بل أحيانًا يكون ساخرًا لدرجة يجري وصفها في علم النفس بالـ«تنمر».

«الاهتمام الوهمي الخبيث».. مشاركة حالتك النفسية ليست صحية

في مقال لها بموقع «سيكولوجي توداي» أكدت الطبيبة النفسية الأمريكية فيل ريد، المهتمة بدراسة تأثيرات العالم الرقمي على الصحة النفسية، أن «إستراتيجية الحياة المفتوحة»، ومشاركة أفكارنا الخاصة وحالتنا النفسية على مواقع التواصل الاجتماعي، أمر غير صحي بالمرة.

وتابعت فيل ريد: «عندما يتعلق الأمر مشاركة البيانات الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي دائمًا ما تخبرنا السلطات بألا نفعل ذلك، وكذلك عندما يتعلق الأمر بمشاركة صور غير لائقة للمستخدم لنفسه فإن نصحية الطب النفسي له ألا يفعل ذلك أيضًا».

وأشارت الطبيبة النفسية إلى أن مشاركة تلك الجوانب الخاصة من حياتنا تتسبب في ظاهرة «الاهتمام الوهمي الخبيث» التي تحدث عندما تجذب منشوراتنا الشخصية اهتمام غير حقيقي من متلصصين غير مهتمين بصحتنا النفسية أصلًا، بل يهتمون بمتابعة ما يُكتب للسخرية، أو للتنمر، أو حتى للتسلية والضحك.

وأكدت فيل ريد أن إنشاء الحدود الشخصية والحفاظ عليها لحماية الصحة العقلية والنفسية أمر يجب أن يكون راسخًا في وعينا مدى أهميته، فقد نكون مستعدين لمشاركة مستويات معينة من المعلومات مع أشخاص بعينهم اعتمادًا على علاقتنا بهم، لكن هذا مختلف عن مشاركتها مع الجميع.

حفاظًا على الحدود.. ما الذي لا يجب أن تشاركه للعامة؟

غالبًا ما يتحدث علماء النفس عن مشكلة «المبالغة» في المشاركة على مواقع التواصل الاجتماعي، واختفاء الخط الفاصل لدى المستخدمين بين العام والخاص، ولكن ما الفرق ما بين المشاركة العادية والإفراط في المشاركة؟

تشير بعض الأبحاث العلمية إلى أن الحديث عن الأمور الخاصة للآخرين قد يدفعنا إلى التقرب وحب بعضنا البعض، ولكن في المقابل عندما يشارك شخص شيئًا غير لائق أو مستفز للآخرين؛ وقتها يختلف الأمر ولا يحصد الشخص الإعجاب الذي تعود عليه، بل سيجد الهجوم، وربما التنمر أيضًا من جانب متابعيه، تمامًا مثلما حدث مع هادية غالب، فما الأشياء التي يحذرك علم النفس من مشاركتها على مواقع التواصل الاجتماعي؟

في إحدى الدراسات التي شارك فيها 177 طالبًا جامعيًا توصل الباحثون المشرفون على الدراسة إلى أن «النحيب» على مواقع التواصل الاجتماعي، والشكوى الدائمة والبكاء، أو الحديث عن الرغبة في الموت، أو أي مشاعر سلبية أخرى، من الأشياء التي لا يجب على مستخدمي التواصل الاجتماعي مشاركتها مع العامة.

فبجانب أنهم لن يحصلوا على الدعم النفسي الصحي والمتخصص من تلك الخطوة، فإن الدراسة أكدت أن هذا المشاعر السلبية على مواقع التواصل «مُعدية»، وقد تتسرب للآخرين فتذكرهم بأمور سلبية قد تدفعهم إلى مهاجمة الشخص الذي ينتحب أمام العامة.

«لا تتباهى بعلاقتك العاطفية» وجدت دراسة نشرت في العام 2014 أن الأشخاص الذي يختارون صورتهم مع شريك حياتهم صورة «بروفايل» خاص لهم؛ يحصدون إعجابًا أكثر من المتابعين لهم، ويكونون محبوبين بين متابعيهم، ولكن على الجانب الآخر أكدت الدراسة أن هناك حدودًا لمدى مشاركة العلاقة العاطفية على وسائل التواصل الاجتماعي.

فقد وجد الباحثون أن متابعي الشخص الذي يتمتع بعلاقة عاطفية سعيدة يشعرون تجاهه بالثقة والإعجاب، ولكن أي مشاركات من هذا الشخص تتعمد التباهي، أو تشارك تفاصيل غاية في الخصوصية بينه وبين شريكه، تثير غضب واستياء العديد من المتابعين والأصدقاء.

«لا تشارك صور طعامك وخصوصيات منزلك»، كانت تلك الجملة أحد الاستنتاجات التي توصلت إليها دراسة نشرت بعام 2014؛ إذ أكد الباحثون أن مشاركة التفاصيل الدقيقة للحياة اليومية مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي، حتى لو كانوا الأصدقاء المقربين فقط، لا تعد صحية أيضًا.

وأكدت الدراسة أن تلك النوعية من المنشورات لا تقرب الاصدقاء من بعضهم البعض بشكل حقيقي؛ إذ يتحول صديقهم إلى مجموعة من الصور التي يختار أن يصدرها عن نفسه، كما يفعل أي شخص غريب؛ مما يتسبب في ابتعاد الاصدقاء المقربين عن بعضهم البعض.

والاختباء وراء شاشة والحديث أمام ملايين من المتابعين قد يمنح المتحدث خصوصية زائفة، فهو يجلس في غرفته وحيدًا وآمنا – بالمعنى المادي والجسدي – ولكنه مكشوف معنويًا لملايين من البشر من ثقافات مختلفة وحالات نفسية أكثر اختلافًا.

تلك الخصوصية الزائفة تشجع المستخدم على الحديث عن حالته النفسية بشكل مبالغ فيه، في حين أن المتابعين لا يهتمون حقًا بتلك الحالة النفسية، بل يتابعون ليدلون برأيهم فيما يعرض أمامهم، فإذا توافق مع تفكيرهم أعجبوا به، وإذا استفزهم هاجمهوه، فهل ستفكر الآن فيما تنشره على مواقع التواصل الاجتماعي نفسك قبل أن تضغط زر نشر وتحصل على «وشم رقمي» للأبد لا يمكن محوه.

المصادر

عرض التعليقات
تحميل المزيد