في الأسبوع الماضي، وفي أعقاب رفض مجلس الأمن الدولي لمشروع قانون إلغاء الاحتلال الذي تقدمت به فلسطين إلى المجلس بسبب فشل تأمين النصاب الكافي للأصوات، وأيضًا بسبب الفيتو الأمريكي، أعلن الرئيس الفلسطيني محمود عباس عن اعتزامه توقيع أوراق معاهدة روما بما يعني انضمام فلسطين للمحكمة الجنائية الدولية، وذلك بهدف مقاضاة دول الاحتلال الإسرائيلي على جرائمها بحق الفلسطينيين، وخصوصًا في قطاع غزة.

انطلقت الاحتفالات في رام الله ابتهاجًا بهذه الخطوة، برغم الغموض المحيط بنتائج هذه العملية ومدى فاعليتها، فإلى أي مدى يمكن أن تستفيد فلسطين من هذه الخطوة؟ ولماذا تعارضها إسرائيل والولايات المتحدة؟ وهل يمكن أن تستتبعها أضرار بحق المقاومة وبخاصة في غزة؟

1- هل أصبحت فلسطين عضوًا في المحكمة الجنائية الآن؟

«فلسطين غير مؤهلة لعضوية المحكمة الجنائية الدولية لأنها ليست دولة ذات سيادة» جين ساكي.. المتحدثة باسم الخارجية الأمريكية

الجواب ليس بنسبة 100% ففلسطين وقعت فقط على أوراق الانضمام إلى المحكمة، وما زال هناك بعض العقبات القانونية التي يجري النظر فيها.

أولاً: لا تسمح المحكمة الدولية بالانضمام لعضويتها لغير الدول، لذا تم رفض طلب فلسطين للانضمام إلى المحكمة سابقًا، الآن صارت فلسطين عضوًا في الأمم المتحدة منذ عام 2012، ولكنها تتمتع بعضوية غير تامة (دولة مراقب)، يمكن للمحكمة الطعن على الطلب الفلسطيني بصفتها هيئة مستقلة، وربما تطبق معايير أكثر تشددًا لقبول الطلب الفلسطيني، في نظر الكثيرين يبدو هذا الأمر غير مرجح.

ثانيًا: والأهم أن المحكمة الجنائية مختصة بالفصل في النزاعات التي تقع داخل حدود أراضي الدول الأعضاء، فمن ناحية لا يمكن مقاضاة إسرائيل على أي جريمة تقع ضمن حدود الأرض المحتلة، لأنها دولة غير عضو في ميثاق المحكمة، يبقى الالتباس الأهم حول مقاضاة إسرائيل على جرائمها داخل الحدود الفلسطينية (قطاع غزة مثلاً)؛ حيث تبقى الحدود الفلسطينية غير مرسمة بالكامل وموضع نزاع كبير مع دولة الاحتلال، وهو أمر يشكل مطعنًا للمحكمة على الطلب الفلسطيني بحجة أن الدولة لا تملك حدودًا واضحة.

 

2- حال تجاوز فلسطين أي عقبات قانونية، هل يمكن عندئذٍ مقاضاة المسئولين الإسرائيليين أمام المحكمة؟

“فاتو بن سودة المدعي العام للمحكمة”

 

ليس بالضرورة وذلك لعدة أمور:

أولاً:  ينبغي التركيز أولاً على أن المحكمة الجنائية الدولية هي محكمة جنائية وليست مدنية، كما أنها هيئة مستقلة بذاتها (نظريًّا بالقطع فاتهامات التسييس تلاحق المحكمة في العديد من قضاياها) فلا توجد جهة ما قادرة على فرض قبول قضية ما على المحكمة، حيث تُقبَل الدعوة من حيث الشكل في حالة استيفاء ملفها عبر إحالتها إلى الأمين العام “المفوض العام” للمحكمة الجنائية للبتّ فيها، فإذا وجد أن تلك الشكوى تتضمن شروط التقديم وشروط الإدانة يحيلها مباشرة إلى دائرة مكونة من 3 قضاة للنظر فيها وتسمى “دائرة تمهيدية”، بعدها يتخذ القرار بإدراج الدعوى على ملف قضايا المحكمة من عدمه.

ثانيًا:  التوقيع على ميثاق المحكمة لا يضمن نظر القضايا بأثر رجعي إلا إذا طلبت الدولة الموقعة ذلك، وقد طلبت فلسطين تمديد الأثر الرجعي إلى شهر يونيو 2014 فقط بما يسمح فقط باختصاص المحكمة بنظر جرائم الحرب الأخيرة على غزة، وليس ما قبلها.

ثالثًا: هو ما يعرف بالصفة (التكميلية) للمحكمة، حيث لا تعتبر المحكمة بديلاً للقضاء الطبيعي في دول العالم، ولا يحق لها نظر قضية تم/ يتم تداولها في محكمة وطنية مختصة إلا إذا ثبت أنها تفتقر لمعايير العدالة، وهي مهمة شاقة للغاية، لذا لجأت إسرائيل فورًا إلى فتح تحقيقات حول ما أسمته “الأخطاء” التي ارتكبت خلال الحرب على غزة من أجل عرض القضية أمام محكمة وطنية وقطع طريق الاختصاص على الجنائية الدولية.

ينبغي إذًا أن تقرر المحكمة أن القضية خطيرة بما فيه الكفاية، وأنه لا يتم تناولها بشفافية ونزاهة من قبل القضاء الوطني حتى تقرر قبولها.

جدير الذكر أيضًا أن منح الاختصاص للمحكمة الجنائية في التحقيق في الجرائم الإسرائيلية يعطيها الحق أيضًا في التحقيق على الطرف الآخر بما قد يسمح بإدانة المقاومة الفلسطينية جنائيًّا إذا ثبت تورطها في مهاجمة إسرائيل في الأرض المحتلة (الصواريخ مثلاً)، وقد أشار أستاذ القانون كيفين جون هيلر إلى أنه إمكانية محاكمة قادة حماس ستكون كبيرة للغاية، ولذلك فمن المحتمل جدًّا أن الفلسطينيين وليس الإسرائيليين سيكونون أول من يوجه للمحاكمة بحسب رأيه.

ورغم تركيز النقاش حول قطاع غزة، إلا أن عددًا من الخبراء يرى أن مقاضاة إسرائيل بشأن مستوطناتها في الضفة الغربية بسبب سياسة الاستيطان التي تعلنها الحكومة وتوقع قراراتها وأيضًا لكون المحاكم الإسرائيلية لم تباشر هذه القضية، ربما يكون هذا هو الخطر الأكبر على إسرائيل، وإن لم يكن خطرًا كبيرًا أو فوريًّا.

وحتى في حال قررت المحكمة الدولية قبول الدعوى وأصدرت مذكرة اعتقال بحق بعض المسئولين الإسرائيليين للمثول للتحقيق فإن ذلك لا يعني أنه سينفذ فعليًّا، فالحكمة لا تملك قوة تنفيذية وتنفيذ أحكامها مرتهن بشكل كبير بإرادات الدول، على سبيل المثال فقد أصدرت المحكمة مذكرتي اعتقال بحق الرئيس السوداني عمر البشير عامي 2009 و2010، ولكنه ما يزال يحكم بلاده إلى الآن، أضف إلى ذلك أن المحكمة يبدو من تاريخها أنها لا تريد الانخراط في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، ولا توجد مؤشرات تدل على تحول في هذه الرؤية.

 

3- لماذا ترغب فلسطين في الانضمام إلى المحكمة الجنائية؟

 

هناك في الواقع عدة أسباب “نظريات” محتملة في هذا الصدد.

أولاً: أن تكون هذه الخطوة هي إحدى الخطوات في المسار الفلسطيني لنيل الاعتراف الدولي الذي بدأ بالانضمام لليونسكو ثم إلى الأمم المتحدة، ثم جهود الحصول على الاعتراف من قبل البرلمانات والحكومات الأوروبية، وجاءت هذه الخطوة مدفوعة بفشل التصويت على إنهاء الاحتلال في الأسبوع الماضي، حيث تسعى السلطة الفلسطينية إلى رفع كلفة الاحتلال الإسرائيلي وزيادة الضغط الدولي عليه.

ثانيًا: أن السلطة الفلسطينية  تأمل حقًا في أن توجه المحكمة اتهامات ضد المسئولين الإسرائيليين بما يعرضهم للملاحقة القضائية؛ مما قد يقوي موقف السلطة في أي مفاوضات قادمة، ولكنها تبدو استراتيجية محفوفة بالمخاطر كما نوهنا سلفًا.

ثالثًا: ربما تتعلق هذه النظرية بشكل أكبر بالصراع الفلسطيني الفلسطيني، والموقف الحرج للسلطة والرئيس عباس الذي صار متهمًا بالفضل في انتزاع أي إنجاز من خلال مسار المفاوضات، الأمر الذي يجعل الكفة الشعبية تميل باتجاه حركات المقاومة وعلى رأسها حركة حماس، حيث يسعى عباس لتحقيق إنجازات تحفظ ماء وجهه وتوفر له الدعم الكافي للاستمرار في خطة التفاوض، كما يسعى لتقوية جناحه الداخلي في مواجهة خصومه سواء داخل منظمة التحرير “دحلان وفياض” أو خارجها “حماس وحركات المقاومة”.

 

4- لماذا تعارض الولايات المتحدة انضمام فلسطين للمحكمة الجنائية؟

إضافة إلى الانحياز اللا محدود الذي تبديه الولايات المتحدة تجاه الجانب الإسرائيلي من القضية، فإن الولايات المتحدة تعتبر اللجوء إلى الجنائية عمل من أعمال عدم التعاون في عملية السلام، حيث يفترض أن يجري التفاوض بشكل مباشر بين الفلسطينيين والإسرائيليين.

ترى الولايات المتحدة وإسرائيل أن الانضمام إلى المحكمة الجنائية الدولية هو فعل التصعيد من قبل القادة الفلسطينيين ويجعل عملية السلام أصعب، حيث أصدرت الخارجية الأمريكية بيانًا في 31 ديسمبر الماضي يدين قرار الفلسطينيين للانضمام إلى المحكمة واصفًا إياه بأنه “خطوة تصعيدية” سيئة الأضرار، وتعكر الجو اللازم لاستكمال عملية السلام إلى نهاية المطاف.

 

5- ما مدى تأثير هذه الخطوة على مجريات الصراع؟

 

على مستوى المفاوضات، ربما تسهم هذه الخطوة نوعًا ما في تعثر المسار التفاوضي لفترة معينة، حيث ستعاني العلاقات بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية فترة من الجمود، على النقيض يرى رأي آخر أن هذه الخطوة قد تدفع إسرائيل إلى السعي نحو تقديم بعض التنازلات لوضع القضية موضع التفاوض من جديد.

جدير بالذكر أن أحكام المحكمة الدولية لا تتأثر بقرار العفو السياسي، فحتى في حال وصول الطرفين لاتفاق سلام بينهما، فإن إدانة أي من القادة من الطرفين من قبل المحكمة الدولية سوف يعني أنه سيظل ملاحقًا أمام العدالة الدولية، حتى بفرض توصل الطرفين إلى اتفاق يشمل العفو المتبادل.

المصادر

تحميل المزيد