يسعى أهالي بلاد الشام إلى الحفاظ على تاريخهم الضارب في القدم منذ عهد كنعان بن نوح، ومنه تفاصيل حضارتهم المرسخة ضمن مجموعة من المعالم الأثرية التي تؤكد هويتهم وتاريخها، ليكن الرداء والثوب الكنعاني المطرز «هوية» تميز أهالي الشام عن بقية سكان الحضارات الأخرى، ليمتد تاريخ هذا الثوب الضارب في جذور التاريخ إلى العصر الحالي ويتحول إلى محور صراع بين الاحتلال الإسرائيلي والفلسطينيين وأهالي الشام، وذلك بعد المحاولات الإسرائيلية التي تنسبه إلى الشعب الإسرائيلي، بدافع طمس الهوية العربية الكنعانية التاريخية.

تاريخ التطريز الفلسطيني الأردني.. «سايكس بيكو» تفصل الحدود لا الإرث الثقافي

بين الفينة والأخرى تثار تساؤلات حول الاختلاف بين التطريز الفلسطيني والأردني، غير أن التاريخ يوثق أنهما تراثان مترابطان بالعديد من القواسم، ويعود تاريخهما إلى ما يزيد على 10 آلاف عام ما قبل الميلاد منذ عهد كنعان بن نوح عندما سكن بلاد الشام وسميت أرض كنعان نسبة له، إذ لم يكن هنالك حدود أو تمييز بين مكونات سكان المنطقة، مما جعل الحضارة في منطقة الشام ترتبط ارتباطًا وثيقًا، وكان التطريز سمتًا مشتركًا ضمن هذه القواسم، من جراء ارتداء الرهبان والقساوسة لهذه الملابس المطرزة، ومن هنا بدأت حضارة فنون التطريز.

إسرائيل تسرق التطريز والزي الفلسطيني وهكذا يدافع الفلسطينيون عن تراثهم

خولة أسعد خبيرة في مجال التطريز الفلسطيني والأردني، تقول لـ«ساسة بوست»، إن «الثوب الفلسطيني والأردني يصعب تقليدهما أو التلاعب في شكلهما، لأن الأجداد استطاعوا الحفاظ على شكلهما الممتد منذ العهد الكنعاني»، وتضيف خولة أن التطريز الفلسطيني والأردني «يمتاز بشكل محدد بدأ من ارتداء الثوب بأشرطة على الملابس، ثم تحول إلى وضع الغرزة على القماش والجلود منذ بداية الحملات التبشيرية ما قبل الميلاد، مما جعل هذا التراث متأصلًا عبر الأجيال الأوائل، لتبدأ مرحلة مزج التطريز بالواقع الحياتي الذي يعيشه الإنسان من دمج الرسومات الحيوانية والطبيعية في شكل الثوب، ما عكس طبيعة الحياة التي تجسدت بتلك الحقبة والحضارة من فلاحية أو بدوية».

امتدت الحقب التاريخية وبقيت القواسم المشتركة حاضرة بين مكونات بلاد الشام – تقول خولة – وبالرغم من التقسيم الجغرافي بفعل اتفاقية سايكس بيكو التي أبرمت عام 1916 بين فرنسا وبريطانيا لتقسيم الوطن العربي إلى دول، فإن هذا التقسيم الجغرافي للشام لم يمزق القواسم الثقافية بين الأردن وفلسطين بحسب خولة أسعد، لتبقى القواسم الثقافية والتاريخية قائمة، مع حدوث بعض المتغيرات في شكل التطريز الخاص لكل شعب، وتبقى الألوان وشكل الدرزة متقاربة.

ما بعد النكبة.. الاحتلال يستولي على الموروث التاريخي لدعم مزاعمه الزائفة

شكَّل عام النكبة مرحلة جديدة في مصير الشعب الفلسطيني من جراء احتلال الأرض من قبل الحركة الصهيونية لإقامة دولة إسرائيل، سلبت هذه المرحلة الأرض وتشرد السكان حاملين على أعتابهم حقيقة مصير غامض، لتبدأ القوات الإسرائيلية في مخططها الصهيوني القائم على طمس معالم الهوية الفلسطينية في المنطقة، وتأكيد الادعاء الزائف بأن فلسطين أرض بلا شعب.

تزايدت حدة المواجهة بين الشعب الفلسطيني والقوات الإسرائيلية، ومع مرور الأعوام وُضع التطريز الفلسطيني في خضم الصراع بشكل خفي من قبل الاحتلال، من جراء سلسلة محاولات لتزييف التاريخ ونسب التطريز الفلسطيني إلى إسرائيل، والعمل على تسويق تلك الادعاءات بين الدول، ضمن دعاية باءت بالفشل رغم جملة من المحاولات المتكررة.

لم تتوقف المحاولات الإسرائيلية حتى وصلت الأمور إلى حد إقامة معارض أزياء، تظهر الثوب الفلسطيني داخل المتاحف الإسرائيلية، تحت مسمى «ملابس إسرائيلية معاصرة»، حيث عُلقت لافتة تضم مجموعة كبيرة من الأزياء التي عرضت خلال معرض أقيم في يناير (كانون الثاني) 2019 بقاعة المتحف الإسرائيلي، والقول بأن تلك الأزياء تعود للتراث الإسرائيلي منذ مئات السنوات!

لم يتوان الفلسطينيون في الحفاظ على الثوب الفلسطيني وفن التطريز الخاص بهم، في ظل استمرار الصراع القائم، وتؤكد مها السقا، مديرة مركز التراث الفلسطيني في الضفة الغربية، خلال حديثها لـ«ساسة بوست»، أن «إسرائيل تريد إيصال رسالة بأن التراث الفلسطيني يعد جزءًا من التراث الإسرائيلي»، مؤكدةً أنه بالرغم من سلسلة المحاولات الإسرائيلية في عرض الزي الفلسطيني على أنه زي إسرائيلي، فإن هذه المحاولات باءت بالفشل، مؤكدة: «نحن نعمل دومًا على الحفاظ على الثوب بارتدائه في كافة المناسبات الوطنية والدولية، فالمساعي مستمرة للحفاظ على الموروث التاريخي».

«التراث لا يقسم» 

حملت العديد من السيدات الفلسطينيات والأردنيات على عاتقهن رسالة واحدة «التراث لا يمكن تقسيمه»، تقول نعمت صالح، أمين سر «جمعية الحنونة الثقافية الشعبية» في الأردن، خلال حديثها لـ«ساسة بوست» إن «التراث لا يمكن تقسيمه، لأن الامتداد التراثي والحضاري لفلسطين والأردن واحد، والظروف التي مرت بها المنطقة واحدة، وهذا يجعلنا أمام تراث واحد يختلف فقط من حيث الطبيعة السكانية ويقسم إلى بدو وريف وحضر»، وتضيف أنه «على الرغم من سلسلة محاولات  تفكيك القواسم المشتركة فإن الثقافة بقيت واحدة والموروث واحد، من أغاني تراثية وملابس متقاربة بمجمل تفاصيلها».

وبحسب نعمت صالح، فإن شكل الثوب مكون أساسي من الثقافة يحضن هوية ويميز دولًا عن أخرى، وتبقى طرق الحفاظ على شكل الثوب التقليدي القديم، محفوظة على الرغم من جملة التطورات التي جرت، ما أدى إلى سد الطريق أمام الاحتلال، في تحريف شكل الثوب الفلسطيني والأردني على حد سواء، وسرقة وانتحال الهوية التاريخية للثوب.

وقد شكلت الطبيعة الجغرافية القائمة بين فلسطين والأردن وحقيقة الانخراط المجتمعي والثقافي، فرص العمل بجدية من أجل الحفاظ على شكل الثوب التراثي التقليدي، عبر سلسلة من الخطوات الفعلية على الرغم من المحاولات الإسرائيلية الفعلية، علاوة على قلة وعي بعض المواطنين بأهمية التراث.

رجال الدين يحاربون التراث ويخدمون الاحتلال عن غير قصد

على جانب آخر، لعب الخطباء ورجال الدين، عبر إصدار فتاوى شرعية تفيد بتحريم ارتداء الثوب المطرز الفلسطيني والأردني على حد سواء، تحت مبررات دينية بأنه يظهر تفاصيل الجسم وأنه ملفت للأنظار؛ دورًا خطيرًا جعلت الأمور أكثر تعقيدًا أمام من يحافظون على تفاصيل التراث. وتقول خولة أسعد «إن رجال الدين لعبوا دورًا خبيثًا عندما طالبوا السيدات بعدم ارتداء الثوب المطرز لأنه ملفت الأنظار واستبدال لبس العباءة به»، على حد تعبيرها.

وفي السياق ذاته يقول إحسان عبيد، أحد باعه الثوب المطرز بعمان خلال حديثه إلى «ساسة بوست»، إن الحملة التي قام بها رجال الدين في حق الثوب المطرز تخدم الاحتلال بشكل رئيسي، وأن ذلك يساهم في طمس الثوب الذي يمتاز بشكله العريق وألوانه الجذابة، متسائلًا: «ألا تُظهر الملابس الجديدة من الموضة تفاصيل جسم المرأة؟».

ملابس عصرية بنقوش تراثية.. محاولات فعالة لإبقاء التراث حاضرًا

شكِّل وعي العديد من السيدات منذ عشرات الأعوام بضرورة البحث عن سبل مبتكرة للحفاظ على التراث، عبر دمج التطريز بالعديد من المقتنيات الخاصة بالفتيات والشباب، وتطريز الشال وإكسسوارات وملابس، وسيلة للحفاظ على التراث من السرقة والضياع. ما دفع إلى تشجيع فئة الشباب إلى اقتناء تلك المشغولات اليدوية بشكل ملموس، وأصبح فن التطريز حاضرًا في الكثير من المقتنيات، مع الحفاظ على شكل الدرزة التقليدية التي تأخذ شكل الصليب أو الثمانية.

وتقول زينب أبو طماع التي تعمل منذ أكثر من 35 عامًا في مجال التطريز الفلسطيني، لـ«ساسة بوست»: «أمارس التطريز  هواية، فقد توارثت عمل التطريز عن والدتي التي تعود أصولها إلى منطقة بئر السبع»، مشيرة إلى أن إقبال الشباب على المشغولات اليدوية المطرزة بات أمر لافتًا في ظل عزوفهم عن شراء الثوب نفسه، بدعوى بند غلاء سعره، ما دفع مصنعي الأثواب للمضي نحو وضع التطريز في العديد من المشغولات، لافتةً إلى أن «هذه الخطوة ليست بالحديثة، بل كانت بداياتها منذ حقبة الثمانينيات، وهي أحد الحلول التي لجأت إليها السيدات لنشر التطريز بين أوساط المجتمع، ولذلك انتشر بشكل واسع في المحافظات الفلسطينية والمملكة الأردنية»، على حد تعبيرها.

أشارت زينب أبو طماع أيضًا إلى أن فكرة دمج الملابس العصرية بالتراث الفلسطيني من خلال وضع التطريز على القمصان والجلبابات وغطاء الرأس، كانت فكرة ناجحة، مع الوضع في الاعتبار أهمية الحفاظ على شكل التطريز الأصلي للحفاظ على ترسيخ التراث، الأمر الذي شجع الكثيرين على امتلاك تلك الأنماط التي أصبحت مقبولة لدى الشباب، ما عزا إلى اتساع ظاهرة الاهتمام بالتراث.

فعلى سبيل المثال، تكاد ملابس الفتاة الفلسطينية مريم الدعلس، لا تخلو من التطريز التراثي، مشجعة صديقاتها على ارتداء الملابس المزخرفة بنقوش التطريز، في محاولة منها إظهار النموذج التراثي الفلسطيني الأردني، ولم تقتصر على ذلك فقط، بل أنها تقوم بإهداء صديقاتها هدايا تراثية، بحسب ما أخبرت به «ساسة بوست».

وتقول مريم إن «الاحتلال يسعى إلى سلب أجمل ما نحب – وهو التراث – عبر حملات كاذبة، وإن ذلك زرع في قلبي مسؤولية وطنية واجتماعية للحفاظ على تاريخنا، ونشر الوعي لمحاربة المساعي الإسرائيلية».

صفعة على وجه الاحتلال: التطريز الفلسطيني على لائحة اليونسكو

شكل إدراج منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة «اليونسكو»، في ديسمبر (كانون الأول) 2021، فن التطريز الفلسطيني على لائحتها للتراث الثقافي غير المادي، قفزة ناجحة في مسار حفظ التراث الفلسطيني، بعد رحلة طويلة من الصراع التي تكللت بالنجاح في الحفاظ على شكله وهيئته.

وقد رحب وزير الخارجية والمغتربين الفلسطيني، رياض المالكي، بـ«إدراج فن التطريز بوصفه أحد العناصر الوطنية الفلسطينية على لائحة التراث الثقافي غير المادي لليونسكو»، معتبرًا أن الخطوة «تأكيد على تأصل الشعب الفلسطيني في أرضه فلسطين، واستمراره بالحياة عليها دون انقطاع منذ عشرات آلاف السنين»، بحسب ما جاء في تصريحاته.

وأضاف المالكي أن «التطريز رمز من رموز الهوية الوطنية الفلسطينية، وارتباطها مع الأرض والتاريخ والطبيعة، تمامًا كما تعكسه نقوش التطريز الفلسطيني التي تحمل عبق التاريخ والحضارة وهو ما تحاول إسرائيل سرقته»، مشددًا على «أهمية تسجيل التطريز الفلسطيني في هذا الوقت بالذات، في الوقت الذي يتعرض فيه التراث، والإرث، والتاريخ، والثقافة والحقوق الفلسطينية، للتزوير والسرقة والتدمير، وذلك لحمايته وحفظ الممارسات والطقوس الاجتماعية الفلسطينية التي توارثها الشعب الفلسطيني من آبائه، وأجداده، جيلًا بعد جيل».

وترى مها السقا أن «إدراج اليونسكو التطريز الفلسطيني ضمن اللائحة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي للبشرية، خطوة تصب في صون التراث الثقافي الفلسطيني، محققة نجاح الفلسطينيين في إعلان التراث الفلسطيني أمام العالم، بأنه تراث تاريخي ممتد، ما يعكس حقنا في الأرض، مؤكدة أن ذلك يأتي نتاج الجهود الفلسطينية المستمرة، دون إغفال الدور الذي لعبه الفلسطينيون في الأردن من جراء ترسيخ مفاهيم التراث، بالإضافة إلى اللاجئين الفلسطينيين في الدول العربية والأوروبية.

– كل الصور في التقرير خاصة بـ«ساسة بوست» 

الاحتلال الإسرائيلي

منذ 5 سنوات
الصراع على الطعام أيضًا.. هكذا تسرق إسرائيل التراث الفلسطيني

المصادر

تحميل المزيد