لم تضع الخلافات أوزارها بين البلدين الجارتين، تركيا واليونان، منذ قرون؛ إذ لم يحدث الكثير ليغير شكل العلاقة التي بُنيت في أساسها على التنافس والرغبة المتبادلة في استعادة الأراضي وضمها لحكم تاريخي لم يغادر خيال أي من الدولتين، وهو ما يراه كثير من السياسيين والدبلوماسيين أمرًا حتميًّا ولا مفر منه على طول الخطوط الحدودية، وفقًا لمبدأ الفيلسوف الألماني كارل شميت القائل بأن «الآخر» هو العدو الذي ليس من الممكن أن يكون صديقًا.
شهد قيام دولة اليونان الحديثة حربًا ضارية مع الإمبراطورية العثمانية نالت على إثرها اليونان استقلالها في أوائل القرن التاسع عشر بعد أن خضعت لحكم العثمانيين لعدة قرون. وكذلك الأمر بالنسبة لتركيا، فقبل مضي أقل من 100 عام على إقامة دولتها، عادت القوات اليونانية بعد الحرب العالمية الأولى لتغزو مدينة إزمير التركية وبعض المناطق الأخرى غرب تركيا في محطة أرادت معها استعادة الأراضي البيزنطية وإقامة اليونان الكبير الذي يضم جميع اليونانيين وأراضيهم بحسبها.
ولكن سلسلة الانتصارات التي حققها مصطفى كمال أتاتورك في هذه الحرب مكنته من دحر القوات اليونانية عن إزمير عام 1923 وإعلان قيام تركيا الحديثة بعد ما بات يعرف بحرب الاستقلال. وهكذا ارتبطت مشاعر الفخر بالاستقلال بمشاعر معادية للطرف الآخر في كلا البلدين، فهل هو حقًا صراع عاطفي يمتد لقرون ويتحدى العقلانية كما يراه وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر؟ في هذا التقرير مختصر لبانوراما العلاقة بين الدولتين العريقتين.
الجثث القديمة ما زالت تحيي الصراعات
تقع الدولتان في منطقة صراع تاريخي بين الشرق والغرب، مثلت هدفًا لجميع القوى العظمى التي قامت عبر التاريخ؛ لما تتمتع به من مزايا الموقع الاستراتيجي الذي يربط أوروبا بآسيا الصغرى وكذلك الثروات الطبيعية.
ولذلك بسطت الدولة البيزنطية نفوذها على آسيا واليونان وجزر بحر إيجه وأرمينيا وآسيا الصغرى والشام ومصر وبرقة، واتخذت من القسطنطينية (إسطنبول) عاصمة لها منذ 330 وحتى 1453 عندما سقطت في يد السلطان العثماني محمد الفاتح وخضعت منذ ذلك الحين لحكم الدولة العثمانية لأكثر من ثلاثة قرون.
كانت الدولة البيزنطية هي الحد الفاصل الأخير بين المسيحية والإسلام، وشكل سقوطها هزة في وجدان أتباعها، بمن فيهم اليونانيين، إذ لم يحظَ اليونانيون والعثمانيون بأي رابطة من الروابط الثلاث التي تربط الدولة بشعبها وهي: الدين واللغة والجنسية، كما يذكر حقي العظم مؤلف كتاب تاريخ حرب الدولة العثمانية مع اليونان.
بقي اليونانيون على ديانتهم المسيحية ولم تُفرض اللغة التركية على الرعايا، ففُقدت بذلك الروابط التي تجمعهم مع دولتهم الجديدة، أضف إلى ذلك الضرائب التي فرضها العثمانيون وأعمال العنف التي وقعت أثناء ضمها للمناطق الجديدة إذ قُتل 30 ألف يوناني عندما دخل العثمانيون قبرص عام 1570. وبالطبع ردت القوات اليونانية بمجازر في حرب استقلالها عن الدولة العثمانية عام 1821 إذ قتلت 12 ألف تركي.
وهكذا شكلت بطولات الأسلاف والمظالم التاريخية، الحقيقية أحيانًا والمتخيلة أحيانًا أخرى، الوعي الجمعي في البلدين، وما زالت تلقي بظلالها على ذاكرة الشعوب محملة بمشاعر عداء وكراهية للطرف الآخر.
الطعام وحده لا يكفي.. ما الذي تخبرنا به الكتب المدرسية عن علاقة البلدين؟
بعيدًا عن النزاعات السياسية والعداء التاريخي، تجمع البلدين روابط ثقافية مثل: الموسيقى والفن والسياحة وذوق الطعام المتقارب، إلا أنها وحدها لا تصنع الصورة كاملة في أذهان أحد الشعبين عن الآخر، فهناك الكتب المدرسية التي تُغرس في نفوس الأجيال الناشئة والتي لطالما كانت وسيلة الدول في بث ما تريد في شعوبها.
وفقًا لبحث أعده باحث إسرائيلي في جامعة تل أبيب يدعى حي إيتان كوهين حول صورة اليونان في كتب تركيا المدرسية، وجد أن صورة اليونان كانت سلبية في الماضي، لا سيما بعد انقلاب 1980 عندما أعادت القوات المسلحة كتابة المناهج الدراسية منطلقة من صورة تركيا وهي محاطة بطوق من الأعداء في الداخل والخارج، وأظهرت الكتب المدرسية اليونان بعد عام 1998 أنها التهديد الأساسي لتركيا إذ تسعى لإقامة اليونان الكبرى باجتياح تركيا الغربية.
لكن الصورة ما لبثت أن تغيرت مع وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم، إذ أعلن وزير التربية الوطنية حسين جيليك في 2005 وقف النظام التعليمي للقوات المسلحة القائم على التهديد المتصوّر، ثم أزيلت الكتب المدرسية لدراسات الأمن القومي تمامًا في 2012.
تقلصت بذلك صورة اليونان التوسعية في الكتب المدرسية التركية إلى حد كبير، إلا أن قضية قبرص ونقل السيادة على بحر إيجه من إيطاليا إلى اليونان والمياه الإقليمية ومسألة الجرف القاري ما زالت تحظى بتركيز كبير في الكتب المدرسية.
آيا صوفيا.. حين أعلنت اليونان الحداد
ربما كان تحويل آيا صوفيا إلى مسجد وإقامة الصلاة فيه لأول مرة منذ قرون في 24 يوليو (تموز) الماضي في حين قُرعت أجراس الكنائس ونُكست الأعلام حدادًا في اليونان المجاورة دليلًا على أن التاريخ لا يموت، وما يكون يبقى في ذاكرة الشعوب إلى الأبد، ولم يقتصر الأمر على الشعب بل أثار الحدث ردودًا رسمية إذ علّق رئيس الوزراء اليوناني، كيرياكوس ميكوتاكيس، على الحدث متهمًا تركيا «بإثارة الشغب» وقال إن تحويل آيا صوفيا إلى مسجد يعد «إهانة لحضارة القرن الواحد والعشرين».
واللافت أنه استخدم اسم إسطنبول القديم (القسطنطينية) في حديثه حين قال إن «ما يحدث اليوم في القسطنطينية ليس دليلًا على القوة بل على الضعف»، إذ يعتبر اليونانيون آيا صوفيا كاتدرائية بيزنطية بقيت كذلك لمدة 900 عام قبل أن يستولي العثمانيون على حكم المدينة وتتحول إلى مسجد حتى عام 1934.
واستدعى ذلك بالطبع ردودًا من رجال الدين المسيحيين، كان من أبرزها ما عبّر عنه مطران كاتدرائية القديس أندرياس في حديثه بهذه المناسبة قائلًا: إن اجتماع اليوم هو للاحتجاج على «الغطرسة والهمجية التركية التي ظهرت نواياها من خلال الكشف عن ما تبطنه للثقافات والقيم الأخرى»، ولكنه رأى أن أمرًا جيدًا قد حدث؛ «إذ استيقظ اليونانيون، فآيا صوفيا هي روحنا وقلبنا وهي كنيسة الأمة العظيمة وجوهرة العالم».
تسبب هذا السجال في زيادة التوتر بين البلدين اللذين يشهدان توترات أخرى في الآونة الأخيرة على خلفية نشاطات تركيا في منطقة شرق البحر المتوسط، التي يُعتقد أنها غنية بالغاز والموارد الطبيعية.
على ماذا يتنازع اليوم الأزرق والأحمر؟
تحسنت العلاقات التركية اليونانية بعض الشيء على إثر الزلزال الذي وقع في تركيا عام 1999 وراح ضحيته 2000 شخص، إذ كانت الفرق اليونانية من أوائل الفرق التي سارعت إلى الموقع، ثم عندما ردت تركيا الجميل بعد شهر واحد عند تعرض اليونان لضربة زلزال أخرى، إلا أن المتابع لشؤون البلدين يعلم أن العلاقة بينهما تحتاج إلى أكثر من مجرد زلزال لتعديلها إذ يتنازع البلدان على عدد من الأمور التي ما زالت عالقة وتستنزف اقتصاد البلدين بتكاليف التسلّح وعسكرة المنطقة الحدودية وتحليق الطيران الحربي ورأس المال الدبلوماسي الذي كان من الممكن إنفاقه في أماكن أكثر فائدة.
من أبرز النقاط العالقة اليوم بين البلدين:
- الخلاف على جزيرة قبرص خاصة بعد طرد اليونانيين من تركيا في ستينيات القرن الماضي وهجوم تركيا على شمال قبرص عام 1974 ثم إعلان جمهورية شمال قبرص التركية عام 1983 التي لم تحظ باعتراف أي دولة سوى تركيا.
- الصراع على المياه الإقليمية والمجال الجوي، إذ أعطت اتفاقيات موقعة بين البلدين مسافة ثلاثة أميال لكل منها في المياه الإقليمية ومثلها في المجال الجوي، ولكن كانت الدولتان تذهب أبعد من حين إلى آخر بعيدًا عن هذه الاتفاقية، وترفع مجالها الجوي أو عمق مياهها الإقليمية، ومع اشتعال البحث مطلات بحرية أوسع لكلا البلدين للاستفادة من كنوز البحر المتوسط المتوقعة، يحتد الخلاف من جديد، على هيئة إنشاء تحالفات جديدة لإعادة ترسيم الحدود البحرية.
- النزاعات الحدودية التي تشتعل بين البلدين بين الحين والآخر على الرغم من ترسيم الحدود بينهما في معاهدتي السلام لوزان عام 1923 وباريس عام 1947 خاصة على جزر بحر إيجه ومجالها الجوي والمائي وهي مسألة تنطوي على قضايا وطنية حساسة، مثل السيادة والحقوق السيادية واحتياطيات النفط والوصول إلى الموانئ والأمن وهيبة الدولة.
- مشكلة الأقليات في البلدين وقضاياهم وحقوقهم العالقة والمطالبات المتكررة بها بين الحين والآخر، إذ ضمنت اتفاقية لوزان حقوق هذه الأقليات في تركيا واليونان، ولكن لا تخلو المناكفات السياسية من ذكرها بين الحين والآخر.
هل تغادر اليونان وتركيا مربع اللاحرب واللاسلم قريبًا؟
دقت نواقيس الخطر في الأيام الأخيرة وباتت الحرب بين البلدين وشيكة أكثر من أي وقت مضى على خلفية استكشاف احتياطيات النفط والطاقة في شرق البحر المتوسط. إذ أضافت هذه الاكتشافات مزيدًا من الأسباب لإشعال التوترات بين البلدين الأمر الذي استدعى وضع اليونان قواتها العسكرية في حالة تأهب قصوى، في حين أرسلت الولايات المتحدة السفينة الحربية «يو إس إس هيرشل وودي ويليامز» إلى شواطئ جزيرة كريت اليونانية لمراقبة التوترات المتصاعدة بين عضوي حلف الناتو، إضافة إلى سفن الاتحاد الأوروبي وروسيا التي تراقب المشهد بقلق.
وكان الخلاف قد تصاعد بعد أن أعلن الرئيس التركي رجب الطيب أردوغان في يوليو (تموز) الماضي إرسال سفينة مسح قبالة سواحل جزيرة كاستيلوريزو اليونانية، الأمر الذي اعتبرته اليونان انتهاكًا لسيادتها.
وبالطبع، تسعى كل من الدولتين لحجز حصتها من كعكة الموارد المكتشفة حديثًا قبالة قبرص لتأمين احتياجاتها من الطاقة، وهو الأمر الذي يبقي الباب مفتوحًا حول تطورات المسألة وإلى أي مدى يمكن أن تتصاعد، وما إذا كانت ستعود المواجهات العسكرية بين تركيا واليونان مرة أخرى إلى صفحة التاريخ.