إذا مررتَ ليلًا على حي الأبيار بأعالي الجزائر العاصمة، فستجده منطقة فاخرة يسكنها علية القوم، تتوزَّع فيه البنايات الفاخرة والطرقات النظيفة، وعندما تمرُّ على الفيلا المسمَّاة «فيلا دي سوزيني»؛ لن تصدِّق أنها كانت قبل نصف قرن، مسرحًا لتعذيب المقاومين الجزائريين طوال الوقت، بأبشع الطرق والوسائل؛ وذلك بأيدي بول أوساريس، الجنرال في فرقة المظلِّيين الفرنسية أثناء حرب التحرير الجزائرية (1954- 1962)، وهو الذي كُلِّف بمهمة كسر «معركة القصبة» بأي وسيلة كانت، بما فيها التعذيب الدموي.
«فيلا دي تورال».. مركز التعذيب
عمل بول أوساريس قائدًا في منطقة الشبلي قرب مدينة بوفاريك، وجرى تعيينه نائبًا للجنرال ماسو، قائد فرقة المظليِّين الخاصة والمسؤول عن وأد الثورة خلال معركة الجزائر في يناير (كانون الثاني) 1957، وقد كانت مهام أوساريس تتمثَّل في الإشراف على عمليات الاستنطاق والتعذيب غير الرسميَّة ضد مناضلي جبهة التحرير الوطني والمتعاطفين معها، وبلغ عدد ضحايا فرقته الدموية الآلاف من الجزائريين.
ترسَّخت في وجدان الجزائريين وذاكرتهم أسماء جنرالات الاستعمار الفرنسيين الدمويِّين، ماسو، وبيجار، وأوساريس من خلال الحكايات الشعبية عن تعذيبهم لآلاف من مناضلي جبهة التحرير الوطني الذين قضوا في أقبية الفيلات ومراكز التعذيب غير الرسمية؛ لكن الحكومة الفرنسية ظلَّت مُنكِرة لهذه الصفحة السوداء من تاريخها، حتى خرجت مذكِّرات الجنرال بول أوساريس إلى النور سنة 2001 بعنوان: «الأجهزة الخاصة في الجزائر: 1955-1957.. شهادتي حول التعذيب».
وقد سبَّب الكتاب موجة كبيرة من الجدل والانتقادات اللاذعة من الحكومة الفرنسية تجاه أوساريس، لأنّه أعلنها بكلِّ وضوح أن التعذيب لم يكن مجرَّد تجاوزات فردية من بعض الضبَّاط، بل كان موافقًا عليه من أعلى هرم السلطة الفرنسية، وأن المسؤولين السياسيين الفرنسيين والوزراء كانوا على علم بكل هذه الممارسات أثناء الحرب التحريرية، وقد صرَّح في كتابه بأن العبارة المستخدمة كانت: «انطلق، سوف نقوم بتغطيتك».
وتكمن أهمية مذكرات بول أوساريس حول معركة الجزائر، في أنه في الغالب ما تتورَّع الحكومات والجهات الرسمية عن الإقرار باستعمال التعذيب في حروبها، علمًا بأن فرنسا من الدول الموقِّعة على اتفاقية جنيف التي تُدين تعذيب أسرى الحرب؛ مما ولد حينها خوفًا من غضب الرأي العام وضغوط المنظمات الحقوقية، خصوصًا تلك التي تسوِّق لنفسها بوصفها «حاملة لرسالة حضارية» ولإخراج الشعوب من التوحُّش والهمجية، مثلما ادَّعت فرنسا لتبرير استعمارها للجزائر والعديد من الدول الأفريقية.
ليس هذا فحسب، بل إن هذه المذكرات سببت إحراجًا كبيرًا للسلطات الفرنسية؛ إذ نسفت دعايتها الرسمية عن انتحار مجموعة من رموز الثورة التحريرية الجزائرية في المعتقل، بعد أن اعترف أوساريس بأن مصالحه هي التي قتلتهم، ومن كتب عن انتحارهم، وذلك بعلم ومعرفة أعلى السلطات في باريس.
مذكرات أوساريس تسببت في إحراج شديد للحكومة الفرنسية، وتهاطلت عليها الرسائل والمطالبات بمحاكمة أوساريس والاعتراف بجرائم الحرب التي ارتكبها الاستعمار الفرنسي في الجزائر. والمفارقة في الموضوع هو أن أوساريس حُوكم فعلًا، لكن ليس بتهم ارتكاب جرائم حرب أو على قتله وتعذيبه لآلاف الأفراد كما اعترف في كتابه؛ بل حوكم على «تبرير أفعال تسيء للكرامة الإنسانية» وجرت إدانته بغرامة 7 آلاف و500 يورو، ومبلغ 15 ألف يورو لصاحب دار النشر.
«سنظهرهم جبناء.. سنعذبهم ونقول إنهم انتحروا»
من خلال مذكرات أوساريس، تصبح مشاهد التعذيب في الفيلم الشهير «معركة الجزائر» للمخرج الإيطالي بونتي كورفو، ليست مجرد لقطات عابرة في فيلم سينمائي من أجل إضفاء الدراما، بل إنها أهوال حقيقية عصيبة عاشها آلاف الجزائريين على يد الأجهزة الخاصة الفرنسية.
وعن أشكال التعذيب التي كان يتعرَّض لها المقاومون الجزائريون، تذكر الصحافة الفرنسية أنه كان يجري تعذيبه بالماء والكهرباء والجوع، والتعذيب بالقارورة والعصا، وتكلَّم أوساريس في كتابه بصراحة استثنائية غير معهودة؛ إذ يقول بأن طابع عمله الليلي في «فيلا دي تورال» (سوزيني) المرتبطة بالتحقيق ومُساءلة المعتقلين، كانت تعني أن عليه القيام بـ«المهام القذرة»، دون حتى أن يصرح مسؤولوه بذلك، لكنهم جميعًا يعلمون هذا، وهو بدوره كان مُدركًا بأن أي عمل مرتبط بالتعذيب والاستجواب واستخدام الأساليب خارج القانون كانت بصفة آلية تُعهد إليه.
العربي بن مهيدي
السياسة الممنهجة للاستعمار الفرنسي في استخدام التعذيب والإعدام خارج نطاق القانون، ثم ادِّعاء الانتحار، شملت العديد من الأسماء القيادية داخل جبهة التحرير الوطني؛ وذلك من أجل التبرُّؤ من جريمة الاغتيال، ولضرب مصداقية هذه القيادات باتهامها أمام أنصارها بالجُبن والانتحار.
من بين أولئك الذين ادعت سلطات الاستعمار انتحارهم في السجن، أحد مفجِّري الثورة التحريرية الستَّة، العربي بن مهيدي، إذ يذكر أوساريس في مذكراته تفاصيل التعامل معه ومساومته من أجل التعاون مع الاستعمار، انتهاءً بعملية اغتياله، وتدوينها بوصفها انتحارًا.
وعن اعتقال ابن مهيدي يحاول أوساريس تبرير انتهاكاته من خلال استحضار العمليات العسكرية التي كان ابن مهيدي مسؤولًا عنها من خلال قيادته للحرب في العاصمة؛ وكيف أن قضية اعتقال ابن مهيدي وأساليب الاستجواب الدموية كانت بعلم السلطات السياسية في فرنسا، بمن فيهم «فرانسوا ميتيران» وزير العدل حينها، والذي أصبح رئيسًا للجمهورية فيما بعد.
يشرح أوساريس في مذكراته بالتفصيل كيف صدر القرار بإعدام ابن مهيدي خارج إطار القانون… إذ رفض تسليمه للشرطة قصد تعذيبه واستخراج المعلومات منه؛ لأنه كان متيقِّنًا بأنه لن يحصل على كلمة واحدة من ابن مهيدي، كما رفض محاكمته خشية التعاطف الدولي، ولذلك جرى القرار بأن يشنق في إحدى المزارع؛ ثم جرى الاتصال بالجنرال ماسو وإخباره بأن «ابن مهيدي في المستشفى بعد إقدامه على الانتحار»، مع معرفة ماسو الكاملة بالمعنى الحقيقي لذلك.
ويقول أوساريس حول جريمة قتل العربي بن مهيدي دون محاكمة: «أنا لا أرى لماذا يكون ابن مهيدي أفضل من الآخرين، وفي مجال الإرهاب لا يثيرني القائد أكثر من المنفذ البسيط، لقد قتلنا كثيرًا من الشياطين البؤساء الذين ينفذون أوامر هذا الرجل، وها نحن نتلكأ منذ قرابة ثلاثة أسابيع من أجل ما سنفعله فقط».
وفي حوار بين أوساريس وأحد القُضاة الفرنسيين التابعين لوزارة العدل أثناء فترة احتجاز ابن مهيدي، تتبين اللغة «الخاصة» التي تستخدمها الحكومة لدفع الضباط التنفيذيين، مثل أوساريس، إلى ارتكاب التعذيب من أجل ضمان عدم التصريح بذلك وبقائه سريًّا، فقد أشار المفتش إلى أوساريس بضرورة تفتيش ابن مهيدي «بحثًا عن قُرص الانتحار»، وحين أجابه أوساريس بالصيغة نفسها، بالقول: «لنفترض أنني لم أجد قُرص الانتحار هذا في جُعبته، أين يمكنني الحصول على واحد؟»؛ أجابه إجابة ذات معنى: «أنت شخص محترف، وعليك أن تدبِّر حالك».
يضيف أوساريس حول تفاصيل عملية الاغتيال: «أدخلناه الشاحنة وتوجهنا به بسرعة مفرطة، لأن كمينًا تحضره جبهة التحرير الوطني لتحريره كان محتملًا، وأعطيت أمرًا أنه إذ تعرضنا لهجوم ما فاقضوا على ابن مهيدي، وتوقفنا في مزرعة منعزلة كانت وحدتي تقيم فيها على بعد بضعة وعشرين كيلومترًا جنوب العاصمة، وفي الوقت نفسه قمنا بإدخال السجين وعزله في غرفة مهيئة سلفًا، وكان أحد رجالي يقف قبالة بابها، وبمجرد إدخال العربي بن مهيدي إلى الغرفة قمنا بتقييده وشنقه بطريقة تفتح المجال لاحتمال حدوث عملية الانتحار، وعندما تأكدت من موته أنزلته ونقلته إلى المستشفى».
وبالإضافة إلى ما حدث مع ابن مهيدي، يكشف أوساريس في كتابه تفاصيل إلقاء القبض على المحامي والمناضل الوطني علي بومنجل، وكيف جرى تدبير عملية «انتحاره»، من خلال رميه من الطابق السادس لإحدى البنايات مع الادعاء بأنه انتحر، تمامًا مثل ابن مهيدي.
ليس ذلك فحسب، بل يصرِّح بأن الأجهزة الخاصة قتلت المناضل الفرنسي المتعاطف مع الثورة الجزائرية، موريس أودان، بالسكِّين، وذلك ليعتقد الرأي العام أن العرب هم من قتلوه، حسب مذكراته، وتعدُّ هذه الأسماء مجرَّد نماذج فقط على ضحايا التعذيب الذين وقعوا بين أيدي «الأجهزة الخاصة» لدى أوساريس؛ إذ إن هنالك الآلاف من الضحايا في العاصمة وحدها قتلوا تحت التعذيب، بالإضافة إلى مراكز تعذيب أخرى بالمئات، منتشرة في مختلف أنحاء الجزائر كان يعذَّب فيها المقاومون الجزائريون حتى الموت.
محاضرات في التعذيب.. حين اندهش الأمريكيون من أساليب أوساريس
لم يكتف الجنرال الدموي باستخدام التعذيب بوصفه «إجراءً خاصًّا» في ظروف استثنائية، بل على العكس من ذلك تمامًا، فقد نظَّر له وجعله وسيلة طبيعية لقمع الانتفاضات والثورات ضد الشعوب المستعمرة، وأصبح خبيرًا فيما يسمَّى بـ«مكافحة التمرُّد» وتعدُّ إسهاماته مرجعًا في الكليَّات الحربية.
مقاوم جزائري في قبضة الأجهزة الفرنسية الخاصة
ولذلك فقد أخذ خبرته في تعذيب المناضلين الجزائريين والفيتناميين ونقلها إلى الولايات المتحدة والأرجنتين، إذ قدَّم سلسلة من المحاضرات في سنوات 1962- 1963 في «الكلية الحربية» في العاصمة الأرجنتينية، وقد تسبَّبت مقاربة أوساريس في دهشة الضباط الأمريكيين وصدمتهم من مقاربته الدموية، خصوصًا من خلال نظرته التي ترى أنه في حرب العصابات ضد جيوش غير نظامية (مثل جبهة التحرير الوطني في الجزائر) فإن «العدو هو الشعب نفسه» الذي ينبغي قمعه، وأن الهدف الرئيسي هو تكسير «الخلايا الإرهابية» المتكوِّنة من ثلاثة أفراد، سواء من خلال الإقناع أو التعذيب.
وقد شرح أوساريس خلال هذه المحاضرات كيف أنه أدار فريقًا من 12 ضابطًا فرنسيًّا يشتغلون في الليل على أساليب التحقيق من خلال التعذيب، من أجل استخراج الاعترافات والمعلومات من طرف السجناء الجزائريين، وقد جرى إعدام هؤلاء السجناء مباشرة بعد نهاية التحقيق، ويذكر الكتاب أن 3 آلاف جزائري سُجلوا «مختفين» في تلك الفترة، لكن الراجح أن عدد ضحايا أوساريس المعذَّبين أعلى من ذلك بكثير.
ويذكر الكتاب أن الضباط الأمريكيين لم يستطيعوا استيعاب هذه المقاربة التي يُلقي حولها أوساريس الدروس؛ إذ إن الجيش الأمريكي حتى ذلك التاريخ لم يخض من قبل حروبًا غير تقليدية ضد الحركات التحررية (المتمردين)، عكس الأرجنتينيين الذين تلقُّوا دروسه بحماسة أكبر، وهي الإستراتيجيات التي طبَّقها الأرجنتينيون مباشرة في السنوات التالية في الحرب ضد الحركات اليسارية.
وقد سلَّطت تقارير الضوء على دور أوساريس في تغيير عقيدة الجيش الأمريكي وإدخال أساليب التعذيب إلى ممارساته، من خلال التطبيع مع التعذيب، والدفاع عن استخدامه واعتباره وسيلة ضرورية للقضاء على «الحركات المتمرِّدة»، وهي الممارسات التي انتشرت بقوَّة فيما بعد، سواء ضد المقاومين الفيتناميين أو خلال الغزو العراقي، أو في معتقل «جوانتانامو» الذي شهد أبشع أساليب التعذيب.