وقف رئيس النظام السوري بشار الأسد منتصب القامة بطوله المميز يوم السابع عشر من فبراير (شباط) 2019، مهاجمًا بشراسة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، قائلًا أمام رؤساء المجالس المحلية: «الإخوانجي أردوغان مجرد أجير صغير للأمريكيين، لا يمكنه القيام بأي دور لم تكلفه به واشنطن».
لكن قبل أن يزول عن مسمع الأسد صوت التصفيق الحار من حضوره، وتحديدًا بعد أربعة أيام من خطابه ذاك، كانت روسيا قد عادت للتنغيص على الأسد بتسريب صورة مذلة جديدة له، خلال زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى «قاعدة حميميم» قبل نحو العامين، وهي الصور التي قدمت مجموعة من الرسائل يخوض في غمارها المحللون والمراقبون وسط معركة يشمت فيها المعارضون ببشار، ويدافع فيها المؤيدون عنه باستماتة.
مسلسل تسريب الصور المذلة لبشار الأسد
بينما انشغل المراقبون والمحللون بتفسير دوافع الزيارة المفاجئة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى قاعدة حميميم، في محافظة اللاذقية السورية، يوم الثاني عشر من ديسمبر (كانون الثاني) 2017، أحدثت روسيا مفاجأة أخرى غير مسبوقة تتعلق بنشرها فيديو يحمل دلالات حول «إذلال متعمد» لرأس النظام السوري بشار الأسد.
فقد أظهر مقطع فيديو ضابطًا روسيًّا يتدخل جسديًّا لمنع بشار من اللحاق ببوتين، وفيما انطلق المعارضون السوريون «مبتهجين» بهذه الصورة التي انتقدت حتى من بعض أنصار الأسد، ظهر أن بوتين تعمد إظهار الأسد أمام العالم جنديًّا من الدرجة الثالثة بين جنوده، إذ لم يكتف فقط بتجريده من مرافقته الشخصية وكل بروتوكولات الرئاسة، بل أظهره غريبًا في داره يأمره الجنود الروس، بعد أن استدعي على عجل للقاء بوتين على أرضه، ورأي المراقبون في هذه الصورة رسالة تحمل دلالات بأن كل ما يفعله الأسد يجري بإشراف روسي مباشر.
مرة ثانية، وبعد نحو 15 شهرًا على زيارة بوتين لـ«قاعدة حميميم»، وتحديدًا يوم 21 من فبراير 2019، سُربت صورة التقطها مصور روسي وظهر فيها الأسد يقف بعيدًا متواريًا خلف جدار ينظر إلى الأرض؛ منتظرًا أن ينتهي بوتين من كلمته أمام حشد من القوات الروسية، وفيما رأى أنصار الأسد الصورة عادية وقد تكون مرتبطة بأمور بروتوكولية؛ ربط المعارضون السوريون بين الصورة وكلمة الأسد أمام رؤساء المجالس المحلية، والتي عبَّر فيها عن رفضه لأي دور خارجي في اللجنة الدستورية، تلك اللجنة التي تنظمها روسيا، إذ يبدو أن موسكو أرادت من تسريب الصورة تذكير الأسد بأنه لا يجوز له تجاوز حدوده مع من يحميه، وأن الصورة جاءت رفضًا لغطرسة خطاب الأسد الأخير، الذي أعلن فيه النصر دون أن يشكر الروس بما فيه الكفاية.
الصورة الثانية التي تم تسريبها- نقلًا عن عربي 21
الصورة الثالثة والأخيرة حتى الآن، كانت في الثامن من مارس (آذار) الجاري، وكانت أيضًا من زيارة بوتين لـ«قاعدة حميميم» نهاية عام 2017، وظهر فيها الأسد يضع يده خلف ظهره ينتظر بوتين الذي يتحدث إلى شخصين آخرين، منهما لونا الشبل، المستشارة الإعلامية في القصر الرئاسي لنظام الأسد، وربط نشر هذه الصورة بزيارة الأسد الأخيرة إلى طهران.
روسيا صاحبة قرار الحرب والسلام في سوريا
منذ بداية التدخل الروسي في سوريا في سبتمبر (أيلول) 2015، ظهر ميل واضح لدى موسكو بتوجيه رسائل معينة على صعيدين، الصعيد الأول يتعلق بالداخل الروسي، إذ أرادات موسكو أن تؤكد لمواطنيها أنها ذهبت إلى هذه الحرب للدفاع عن مصالحها، وبالتالي أرادت أن تنقل للجمهور الروسي أنها صاحبة القرار في هذه الحرب، ولذلك جاءت التسريبات لصور الأسد المذلة في قاعدة حميميم وغيرها، كما يقول لنا الصحافي المتخصص بالشأن الروسي، رائد جبر.
جبر المقيم في موسكو يؤكد أن الهدف الرئيس لهذه الصور هو الإشارة إلى أن روسيا هي صاحبة القرار في سوريا، وأن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين هو سيد المكان، مضيفًا: «بالطبع، هناك رسالة موجه للسوريين أنفسهم تم الترويج لها على نطاق واسع داخل سوريا، وهي أن الحديث لا يتم عن روسيا باعتبارها شريكًا فقط وإنما هي صاحبة القرار الأساسي في كل ما يتعلق بمسألة الحرب والسلام، وهو ما قاله وزير الدفاع الروسي، سيرغي شويغو، بأن الرئيس بوتين هو صاحب قرار الحرب والسلام في سوريا».
أما في ما يتعلق بالتسريبات التي جرت خلال الأسبوعين الأخيرين، فيعتقد جبر أنها تتعلق بشكل مباشر بزيارة الأسد إلى إيران، ويوضح: «ليس سرًّا أن موسكو لم تكن راضية عن هذه الزيارة بسبب شكلها، إذ نظمها الحرس الثوري الإيراني وموسكو لم تكن على اطلاع بتفاصيلها وأبلغت ربما في اللحظات الأخيرة عنها، من باب التنسيق الأمني وليس أكثر من ذلك، بالإضافة إلى أن موسكو لديها مخاوف جدية من أن تكون إيران تعمل على تحرك معين في سوريا في إطار مواجهتها للضغوط المتصاعدة على إيران إقليميًّا».
ويعقب جبر: «هذا الأمر ليس مرضيًا بالنسبة لموسكو، لذلك كان من الواضح أن هناك صور تنافس لما يجري على الأرض بين الروس والإيرانيين في سوريا، سواء التنافس على المستوى الاقتصادي، مثل العقود الاستراتيجية للنفط والفوسفات، أو على المستوى السياسي بأن الأسد ليس سيد نفسه».
بيد أن جبر يؤكد أيضًا في حديثه لـ«ساسة بوست» على أن الإيرانيين تعاملوا بالمقياس نفسها من خلال إيصال رسائل عبر تسريب الصور المهينة لبشار؛ لتأكيد أن للإيرانيين دورًا أساسيًّا في القرار السوري، وأن إيران أنقذت النظام، وأنقذت القيادة السورية، وأن على الأسد الآن أن يدفع ثمن التضحيات الكبرى التي قدمتها طهران.
إيران هي الأخرى تتعمد «إهانة» الأسد
في الخامس والعشرين من فبراير الماضي، تفاجأ الجميع بذهاب رئيس النظام السوري بشار الأسد إلى طهران، بعض الصور عن هذه الزيارة أبرزت غياب العلم السوري عن اجتماعات الأسد مع نظيره الإيراني حسن روحاني، والمرشد الأعلى علي خامنئي، وكذلك غياب مرافقين للأسد خلال الزيارة، وهو ما عده المراقبون أن الإيرانيين أيضًا أردوا أن يقولوا إنهم أصحاب قرار في سوريا.
يقول الباحث السوري في «مركز جسور للدراسات»، عبد الوهاب عاصي، أن معاملة الإيرانيين للأسد بالأسلوب نفسه خلال زيارته الأخيرة لطهران «يظهر أن طهران تعاملت مع الأسد بنفس الطريقة التي عاملت بها زعيم حزب الله اللبناني، حسن نصر الله، وكذلك الحال مع مسؤولي العراق، حيث يتم تجاوز البروتوكول الرئاسي وفرض المراسيم الخاصة بإيران التي تريد القول إنها باتت متجذرة في العراق وسوريا ولبنان؛ ضمن المؤسسة الرئاسية، والعسكرية، والاجتماعية، والاقتصادية، وأن الجهود الدولية لمواجهتها أو تجاوزها لن تكون سهلة أو ذات جدوى».
وأما عن المواقف الروسية المتكررة في تسريب الصور، فيرى عاصي في حديثه لـ«ساسة بوست» أن روسيا تريد التأكيد باستمرار للرأي العام الدولي والمحلي؛ أنها الطرف الرئيسي المعني باتخاذ القرار في الملف السوري، بدءًا من تحديد مصير رئيس الدولة؛ أي بشار الأسد، وصولًا إلى القرارات الأخرى المتعلقة بوجود القوات الأجنبية ومسار الحل السياسي.
ويؤكد عاصي أن موسكو في الصورة الأخيرة، التي سربتها بعد استدعاء بشار الأسد إلى إيران، أرادت توجيه رسالة إلى هذه الأخيرة بأنها هي الطرف الوحيد الذي يجب عليها التفاوض معه إزاء نفوذها ووجودها في سوريا، وليس التوجه إلى رأس النظام السوري الذي أصبحت جميع صلاحياته بيد روسيا، وأنّ محاولاتها تجاوز هذا الأمر سيكون بدون جدوى. مضيفًا: «بطبيعة الحال هناك تفسير عام للصور التي تسربها روسيا حول الأسد، لكن المدلول الخاص يرتبط بالتوقيت الذي تقوم فيه موسكو بتسريب تلك الصور»، ويضرب عاصي للتدليل على قوله مثالًا بما حدث، حينما قامت روسيا بنشر مقطع استدعاء الأسد إلى قاعدة حميميم ليتفاجأ فيها بوجود وزير الدفاع الروسي ويقول حرفيًّا: «إنها مفاجأة فعلًا لم أكن أدري أنك هنا»، معقبًا: «كانت موسكو تريد القول إن قرار السلم والحرب بات يخضع لها قبل أي طرف آخر».