«الطريقة المثالية لزرع الأعضاء البشرية أن تكون من حيوانات يسهل تأمينها والعمل عليها مثل الخنازير، لكن سيكون من الضروري في جميع الاحتمالات تحصين أعضاء الخنزير ضد المناعة البشرية، ويعتمد مستقبل زراعة الأعضاء للأغراض العلاجية على جدوى زرع الأعضاء غير المتجانسة».

الجملة السابقة قالها الجراح الفرنسي ألكيس كاريل عام 1907، وقبل خمس سنوات من حصوله على جائزة نوبل من جراء تمكنه من تطوير تقنيات جراحية لتفريغ الأوعية الدموية، ما يسمح بزراعة الأعضاء.

الملايين على قوائم الانتظار، آملين أن يحين موعد خضوعهم لعملية زراعة أعضاء قبل أن يباغتهم الموت من جراء فشل أجهزتهم، وبسبب النقص الحاد في المتبرعين، تكون النتيجة مؤسفة لأغلب الحالات، لكن عام 2021 أبى أن يتركنا إلا وقد فتح لمن يعانون من أمراض الكلى باب أمل؛ فقد شهدت الأوساط العلمية في أكتوبر (تشرين الأول) 2021، قفزة طبية في مجال زراعة الأعضاء؛ إذ تمكن الجراحون في مركز «لانجون هيلث» بجامعة نيويورك الأمريكية من إجراء أول عملية زراعة ناجحة لكلية خنزير في جسد إنسان.

وتأتي بداية عام 2022، وتحديدًا  7 يناير (كانون الثاني) الحالي، لتبعث الأمل في مرضى القلب، بعدما نجحت عملية زرع قلب خنزير لمريض في حالة خطرة، فهل سيصبح الخنزير بنك زراعات الأعضاء البشرية؟

تاريخ موجز لنقل الأعضاء من الحيوانات

منذ القرن السابع عشر، تمكن الأطباء من نقل الدم من الحيوانات إلى المرضى، وكانت النتائج مختلطة بين النجاح والفشل، ثم أجروا عمليات زرع الجلد المؤقت باستخدام جلود بعض الحيوانات، وكان أنجحهم وأكثرهم مثالية جلد الضفادع الذي استخدم لتغطية قرحة الجلد لعدة أيام، حتى تسمح للجلد البشري بالالتئام تحتها.

بدأت محاولات زراعة أعضاء الرئيسيات في الإنسان خلال القرن العشرين، وفي عامي 1963 و1964، أجرى الطبيب الأمريكي كيث ريمتسما، عملية زرع كليتي شمبانزي في 13 مريضًا، إلا أن معظمها فشلت في غضون أربعة إلى ثمانية أسابيع، لكن مريضة متلقية للكلية تمكنت من البقاء على قيد الحياة تسعة أشهر، قبل أن تنهار وتموت فجأة.

مصدر الصورة: ذا كونفرسيشن

كذلك أجرى الطبيب جيمس هاردي أول عملية زرع قلب لإنسان على الإطلاق عام 1964 باستخدام قلب شمبانزي، إلا أن المريض توفي في غضون ساعتين، لأن قلب الشمبانزي لم يكن كبيرًا بما يكفي لدعم الدورة الدموية للمريض، وقد أجرى الطبيب توم ستارزل عمليات زرع كبد من الرئيسيات غير البشرية، في الستينيات، لكن دون نجاح دائم، وفي التسعينيات، أجرى ستارزل عمليتي زرع كبد من قرود البابون، وتمكن مريض من البقاء على قيد الحياة 70 يومًا.

كان أشهر عمليات زرع الأعضاء القلبية السريرية المعروفة منذ محاولة هاردي، هي تلك التي قام بها الطبيب ليونارد بيلي، الذي زرع قلب بابون في طفلة رضيعة، عام 1983، كانت العملية الجراحية ناجحة من الناحية الفنية، لكن القلب المزروع تعرض لرفض حاد وتوفيت الرضيعة بعد 20 يومًا.

خلال القرن الحادي والعشرين، مع ظهور الهندسة الوراثية وتقنيات الاستنساخ، أصبحت الخنازير متاحة بعدد من التلاعبات المختلفة التي تحمي أنسجتها من الاستجابة المناعية للإنسان، مما يؤدي إلى زيادة بقاء أعضاء الخنازير المزروعة في نماذج الرئيسيات غير البشرية، وتُبشر النتائج مؤخرًا بإمكانية نجاح زراعة أعضاء الخنزير داخل البشر بعد النجاح الذي حققه زرع الكلية، وزرع القلب مؤخرًا. وكانت إدارة الغذاء والدواء قد وافقت في ديسمبر (كانون الأول) 2020، على استخدام خنازير «Galsafe» غذاءً ودواء للبشر.

جدير بالذكر أن الأبحاث التي أجريت على زرع أعضاء الخنازير في الرئيسيات غير البشرية، قد أسفرت عن بقاء القلب لمدة تصل إلى ثمانية أشهر، وتمكنت كلى الخنازير من البقاء لمدة تصل إلى ثلاثة أشهر تقريبًا، بينما كانت زراعة كبد الخنازير والرئتين في الرئيسيات غير البشرية أقل نجاحًا بشكل ملحوظ؛ إذ عملت الأعضاء المزروعة لأيام فقط.

2022: زراعة قلب خنزير معدل وراثيًّا في الإنسان للمرة الأولى

في ولاية ماريلاند الأمريكية، كان المريض ديف بينيت (57 عامًا) يعاني من قصور في القلب، وغير مؤهل لعملية زرع قلب بشري، ولم يكن أمامه خيار آخر غير عملية زراعة قلب خنزير. بعد الحصول على موافقة بينيت للخضوع للجراحة، طلب المركز الطبي في جامعة ميرلاند تصريحًا من إدارة الغذاء والدواء (FDA) بالاستخدام الرحيم للخنازير لاستكمال علاج المريض.

بالفعل حصل المركز على التصريح، وخضع بينيت لعملية زراعة قلب خنزير استمرت تسع ساعات، وجرى إعلام بينيت بمخاطر الجراحة كاملة، وأنه لم تكن هناك أي ضمانات مثبتة لهذا النوع من الزرع؛ إذ كانت هذه العملية مخاطرة كبيرة، فللمرة الأولى تُجرى زراعة قلب خنزير في جسم بشري.

المريض الخاضع لعملية زرع قلب خنزير

ديف بينيت، المريض الخاضع لعملية زرع قلب خنزير. مصدر الصورة: بي بي سي

كانت شركة «ريفيفيكور (Revivicor)» المملوكة لشركة «ثيرابيوتكس» المتحدة، قد أُسندت إليها مهمة تنشئة الخنزير المعدل جينيًّا ليتناسب مع عملية الزرع، خضع هذا الخنزير إلى تعديل 10 جينات قبل ولادته ليصبح مناسبًا لعملية زرع القلب، وأوقف العلماء ثلاثة جينات كان من المحتمل أن تؤدي إلى رفض فوري للعضو من جهاز المناعة، كذلك جرى إضافة ستة جينات بشرية للمساعدة في منع تخثر الدم في القلب، وتحسين التوافق وتقليل الرفض.

الجين الأخير كان يخص النمو، فقد عُدل الخنزير بحيث ينمو بمعدل أقل بالنصف تقريبًا بالنسبة للخنزير العادي، وهذا كي لا يستمر العضو المزروع في النمو مثلما كان يحدث في التجارب على قردة البابون، فقد كان العضو ينمو حتى يصبح كبيرًا جدًّا على تجويف الصدر.

الآن، أصبح بينيت أول من جرب هذا النوع من زراعة الأعضاء ويتناول دواءً تجريبيًّا مثبطًا للمناعة، كي لا يحدث رفض للعضو، وفي حين أنه من السابق لأوانه معرفة ما إذا كانت ستكلل العملية بالنجاح، فإنها تمثل خطوة في السعي المستمر منذ عقود لاستخدام أعضاء حيوانية يومًا ما في عمليات زرع منقذة للحياة.

2021: كلية خنزير تعمل بنجاح بعد زراعتها في إنسان

في أكتوبر 2021، وبموافقة الأسرة، أجرى الجراحون في معهد «لانجون هيلث» لزراعة الأعضاء في جامعة نيويورك بقيادة الدكتور روبرت مونتجمري، جراحة زرع كلية خنزير إلى مريض ميت دماغيًّا موضوع على جهاز التنفس الصناعي.

اختبار ناجح لكلية خنزير على إنسان

اختبار ناجح لكلية خنزير على إنسان. مصدر الصورة: رويترز

رُبطت الكلية بالأوعية الدموية في الجزء العلوي من الفخذ خارج البطن، وكانت مغطاة بدرع واقٍ للمراقبة، أخذ الأطباء عينات من أنسجة الكلى على مدار 54 ساعة من الدراسة، وطوال الإجراء وفترة المراقبة اللاحقة، كانت الكلية وردية وصحية، ولم تكن هناك علامات الرفض، كانت المؤشرات الرئيسية المتمثلة في إنتاج البول ومستويات الكرياتين، طبيعية ومكافئة لنتائج زراعة الكلى البشرية.

كانت الكلية المستخدمة في الإجراء الجديد مأخوذة من خنزير خضع للهندسة الوراثية في شركة «Revivicor» عن طريق القضاء على جين الخنزير «alpha-gal» الذي يشفر جزيء السكر الذي يثير استجابة رفض بشرية للعضو المزروع.

جلد وقرنية وإنسولين أيضًا: الخنزير وأعضاؤه في خدمة الإنسان

تستمر الأبحاث والدراسات من أجل الاستفادة من جميع أعضاء الخنزير في زراعة الأعضاء البشرية، ولأن إنسولين الخنازير يختلف عن الإنسولين البشري بحمض أميني واحد فقط، فقد استخدم إنسولين الخنازير بنجاح لعلاج مرضى السكري لعقود حتى أصبح الإنسولين البشري متاحًا.

خنازير في بحث معملي

خنازير في بحث معملي. مصدر الصورة: بيوتك هيلث

وهناك اهتمامات بزرع خلايا البنكرياس البشرية التي تنتج الإنسولين في مرضى السكري من النوع الأول الشديد، بسبب تشابه الإنسولين البشري مع إنسولين الخنزير، ويتوقع الأطباء أن نجاح هذا الإجراء سيؤدي إلى انتهاء مرض السكري من النوع الأول، جدير بالذكر أن فريقًا سويسريًّا برئاسة كارل جروث، قد حاول زرع بنكرياس الخنازير في مرضى السكري عام 1993، لكن رغم وجود إشارات نجاح الإجراء في دم المرضى، فإنه لم تكن هناك فائدة سريرية.

من ناحية أخرى، حققت عملية زرع القرنية التجريبية تقدمًا كبيرًا في السنوات الأخيرة؛ فقد نجحت الرقائق المأخوذة من الخنازير عند زرعها في القردة لفترات تزيد على عام واحد، وذلك مع تلقي القردة حقن كورتيكوستيرويد في العين. كما أن زرع صمامات قلب الخنزير يحدث بشكل روتيني في البشر، ويستخدم جلد الخنزير ترقيعًا مؤقتًا لمرضى الحروق، فيما  «الهيبارين المميع للدم» مشتق من أمعاء الخنزير.

لكن.. لماذا الخنازير؟

تعد الخنازير الخيار الأفضل لزراعة الأعضاء، وذلك لعدة أسباب؛ أهمها أنها أسهل في التربية، وتصل إلى النضج بشكل أسرع، وتحقق حجم أعضاء الإنسان البالغ خلال ستة أشهر فقط، كما أن فترات حملها قصيرة، وأعضاءها مماثلة للإنسان، بهذه الطريقة، سيكون هناك إمداد غير محدود من الأعضاء، والتي من شأنها حل النقص الحالي المتزايد والشديد في الأعضاء البشرية.

من جهة أخرى، فإن أغلب الأعضاء التي تؤخذ من البشر للزراعة تكون من أشخاص مصابين بالموت الدماغي، وهذه الحالة لها آثار ضارة عديدة على أعضاء المتبرع، وخاصة القلب، والتي قد تؤدي إلى عدم عمل العضو بطريقة صحيحة عند زرعه. في حالة زرع أعضاء الخنازير، يمكن تجنب ذلك؛ إذ يجري استئصال الأعضاء من خنزير سليم تحت التخدير.

وكما يحدث حاليًا، فقد أدى الاستنساخ والتعديل الجيني إلى إنتاج أعضاء خنازير معدلة وراثيًّا، وكما نجحت عمليات زرع قلوب الخنازير والكلى في القردة والبابون، فقد بدأ الأمل في الإشراق عند استخدامها في الإنسان.

علوم

منذ سنة واحدة
منها زراعة ذراعين ومضاد حيوي للبكتيريا المقاومة: أهم الأحداث العلمية في 2021

جدير بالذكر أن الخنازير المراد استخدامها في زراعة الأعضاء، تخضع إلى ظروف حجز صارمة، كما تخضع للفحص الدوري خشية إصابتها بالكائنات الدقيقة المسببة للأمراض. لذلك؛ فإن أعضاء هذه الخنازير وخلاياها أكثر أمانًا من الأعضاء المأخوذة من إنسان ميت مؤخرًا، حيث لا يكون هناك وقت كافٍ لرصد جميع العوامل المعدية المحتملة.

وجمعيات حقوق الحيوان تشجب وتدين!

أدانت منظمة «PETA» وناشطون آخرون في مجال حقوق الحيوان نقل أعضاء الخنزير إلى الإنسان، ووصفوها بأنها غير أخلاقية وخطيرة بسبب خطر انتقال فيروس غير معروف، مشيرين إلى جائحة كوفيد-19.

وأشار البيان الصادر عن المنظمة إلى أن الحيوانات كائنات ذكية ومعقدة، ولا يجب أن تقع تحت حد الأدوات الجراحية، وسيكون من الأفضل لهم ومن الأفضل لصحة للبشر تركهم وشأنهم والبحث عن علاجات باستخدام العلم الحديث.

المصادر

تحميل المزيد