ربما قد يختلط الأمر علينا عندما نذكر مصطلح الكاريكاتير السياسي ونخلط بينه وبين رسوم الكارتون، ولكن الحقيقة أن الأول هو مجرد تصنيف، وفئة من رسوم الكارتون بشكل عام؛ تعود بداية ظهورها بشكلها الحالي إلى القرنين السادس عشر والسابع عشر للميلاد، مع ظهور الدوريات المطبوعة في أوروبا، وكان المقصد الأساسي منها هو انتقاد شخص ما، أو السخرية مما يفعله وغالبًا ما يكون هذا الشخص حاكمًا، أو ملكًا أو مسئولًا رسميًّا.
ومن أشهر الأمثلة المبكّرة تاريخيًا؛ كانت أعمال الرسام البريطاني الساخر جيمس جيلاري الذي اشتهر برسوم الكاريكاتير السياسي التي تسخر من الإمبراطور الفرنسي نابليون بونابرت في أواخر القرن الثامن عشر، والذي اعتاد «جيلاري» تصويره شخصًا قصيرًا متعجرفًا بقبّعةٍ كبيرة مضحكة.
كرتون لجيمس جيلاري يصوّر نابليون بونابارت غاضبًا بسبب العلاقات الفرنسية الإنجليزية.
ثم صار «الرسم المبالغ فيه تشريحيًا» فيما بعد واحدًا من أكثر أشكال فنون الكارتون تعبيرًا عن الواقع ونقدًا له على مدار مئتي عام أو أكثر، ليس في العالم الغربي فقط؛ بل وفي عالمنا العربي الذي اشتهر بثراء محتواه من رسوم الكاريكاتير على مدار قرن وأكثر من الزمان.
الأصول.. من مصر القديمة إلى إيطاليا بعد النهضة
ربما ليس من السهل إرجاع الرسوم الساخرة إلى زمن بعينه، نظرًا لوجود الكثير من الدلائل أو الآثار القديمة التي تخبّر عن سخرية البشر قديمًا، إما بشكل كوميدي صرف يعتمد على الضحك النابع من الفانتازيا؛ مثلما فعل المصريون القدماء مثلًا حين رسموا قصصًا ورسومات خيالية بغرض الضحك والسخرية مثل بردية «دير المدينة» الساخرة التي صوّرت أسدًا يلعب لعبة لوحية تشبه الشطرنج مع غزال بري، والمحفوظة حاليًا بالمتحف البريطاني، ورسم حجري آخر محفوظ بمتحف بروكلين الأمريكي يمثّل قطًا يخدم فأرًا يجلس على عرش، ومن تلك التناقضات والسيناريوهات التخيلية تنشأ فكرة الكوميديا، أو السخرية بالرسم.
- جزء من بردية دير المدينة المحفوظة بالمتحف البريطاني.
أصول كلمة «كاريكاتير» أتت من المصطلح الإيطالي Carico أو Caricare والتي تعنى «التحميل الزائد» أو «المبالغة». وفي منتصف القرن السادس عشر – أعقاب عصر النهضة – اشتهر رسام إيطالي اسمه «آنيبل كاراتشي» بهذا النوع من الرسوم المبالغ فيها تشريحيًا بهدف السخرية من المقاييس البصرية الصارمة التي اشتهرت بها المدارس الفنية الإيطالية، وبخاصة أكاديمية «بولونيا» للفنون، بجانب النحات الإيطالي «جيان برنيني» الذي اشتهر أيضًا بصنع تماثيل لنفسه ولأصدقائه مبالغ في قياساتها بغرض السخرية، وظل فن الكاريكاتير مقرونًا بإيطاليا لما يزيد عن قرن من الزمان، ثم انتقل مع الحركة الفنية إلى باقي أنحاء أوروبا وعلى رأسهم فرنسا وبريطانيا.
الكاريكاتير السياسي.. السلاح الصامت
من أولى المحاولات التي رصدها التاريخ في السخرية السياسية باستخدام الكاريكاتير كانت في فرنسا في القرن الثامن عشر أثناء حكم الملك لويس السادس عشر وزوجته ماري أنطوانيت، عندما انتشرت العديد من الرسومات التي تنتقد الملكة بشكل ساخر؛ وخاصة أسلوب تصفيف شعرها المبالغ فيه، والذي ظن الشعب أنه من مظاهر البذخ الملكي الذي من المفترض أن يوجّه لخدمة الفقراء بدلًا من الملوك.
- كاريكاتير يسخر من شعر الملكة ماري أنطوانيت – المصدر: blogs.bu.edu
كما استخدمت بريطانيا الكاريكاتير السياسي أثناء حرب المستعمرات بينها وبين أمريكا للسخرية من فشل فكرة «اتحاد الولايات». واقعة أخرى مبكرة تسبب فيها النقد بالكاريكاتير في إثارة جدل كبير؛ ألا وهي الرسمة المسماة «أخيرًا جُندي كامل» التي نشرتها مجلة اجتماعية سياسية باسم Masses اشتهرت في أوائل القرن العشرين أثناء الحرب العالمية الأولى في الولايات المتحدة، والمحسوبة على اليمين المتطرف واشتهرت بدعايتها المضادة للحرب، الرسم الساخر الذي رسمه «روبرت مينور» عام 1916.
- رسمة «أخيرًا جندي كامل!» – المصدر موقع Pinterest
مثّل فيه ضابط جيش طبيب في غرفة فحص الجنود وأمامه جندى قوي ضخم بشكل مبالغ فيه وفي التعليق كتب «أخيرًا جندي كامل» في إشارة ساخرة إلى رغبة الجيش الأمريكي في جنود أقوياء يحاربون دون عقل يفكّر في تبعات الأوامر المعطاة إليهم. وأثار الكاريكاتير غضب أجهزة الدولة وقتها، وحاكم المدعي العام الرسام «روبرت مينور» وتم الزج به إلى السجن ومصادرة نسخ المجلة والتنويه في مكاتب البريد داخل الولايات المتحدة بعدم توزيع المجلة.
- إحدى الرسومات النازية المعادية لليهود. – المصدر: موقع alamy.com
كما كان للكاريكاتير دور كبير في الدعايات المضادة أثناء الحرب العالمية الثانية من قبل ألمانيا النازية في السخرية من اليهود وتشويه صورتهم، واتهام الولايات المتحدة بدعمهم لتدمير العالم، وفي المقابل استخدمت الصحف والمجلات الأمريكية الكاريكاتير السياسي الساخر الذي ينتقد هتلر وحزبه النازي وأطماعه التوسعية في أوروبا. بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، شهد العالم التوتر الدائر بين كُل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي فيما عُرف بالحرب الباردة والتي لم تتوانَ القوتان العُظميان عن استخدام الكاريكاتير النقدي بها، كما جاء في كتاب «تاريخ التصميم البصري» للرسامة الكندية إيرانية الأصل «جيتي نوفين».
العالم العربي.. بقعة ساخنة
بصفته مسرحًا لأحداث ساخنة لا تستقر إلا نادرًا؛ شهد العالم العربي محاولات مبكرة في ظهور فن الكاريكاتير السياسي مع نهايات القرن التاسع عشر، خصوصًا في مصر على يد الصحفي والمسرحي المصري يعقوب صنوّع الذي أنشأ جريدة «أبو نضّارة» التي تُعد من أولى الصحف التي احتوت رسوم الكاريكاتير السياسي الذي ينتقد الاحتلال الإنجليزي، والسلطة وقتها المتمثّلة في الخديوي إسماعيل وابنه الخديوي توفيق.
جريدة «أبو نضارة» المصرية النقدية الساخرة – المصدر the newyorker
وبحكم قربه من الطبقات الحاكمة في مصر وعمل والده في خدمة الأمير يَكَن، حفيد محمد علي باشا وأحد أهم أفراد الأسرة العلوية؛ استطاع «صنوع» استقراء الأوضاع في مصر بدقة وانتقادها سواء بالرسم بالكاريكاتير الساخر أو بالفن المسرحي الذي يعدّ من أوائل مؤسسيه في مصر، بعدها تم نفيه من قبل الخديوي إسماعيل إلى باريس عام 1872 وتوفي أثناء منفاه عام 1912.
شهدت سوريا أيضًا أولى التجارب العربية لفن الكاريكاتير على يد الرسام السوري «عبد الوهاب أبو السعود» عام 1921 بجريدة فكاهية ناقدة باسم «جراب الكردي» التي انتقد فيها بالكاريكاتير الكثير من الأمور السلبية الاجتماعية، والسياسية وبعض أفعال الحركات الصهيونية في فلسطين، وحتى حكومة الانتداب الفرنسي أحيانًا كثيرة، كما عمل على ابتكار العديد من الشخصيات الكاريكاتورية التي مثّلت المواطن السوري بمختلف أطيافه.
اعتبر الكثيرون مصر من أولى الدول العربية التي عرفت بثراء عالمها الصحفي والسياسي. وبعد إعلان الملكية في مصر على يد الملك فؤاد الأول، خلفه ابنه الملك فاروق الذي استخدم الكاريكاتير السياسي في حملته الكبرى ضد منافسه العتيد مصطفى النحاس باشا، زعيم حزب الوفد عام 1944 بواسطة رسّام الكاريكاتير المصري الكبير محمد رخا بمعاونة الصحفي مصطفى أمين، في تحول مفاجئ بعدما سُجن «رخا» عام 1933 بتهمة رسوم مسيئة للملك فاروق طبقًا لما رواه الكاتب والصحفي السوري «غسان الإمام» في مقالاته عن الكاريكاتير العربي في جريدة الشرق الأوسط، وقد شهدت بعدها حركة الكاريكاتير النقدي في مصر هدوءًا إجباريًا أثناء حكم الرئيسين جمال عبد الناصر وأنور السادات.
الموت وتكسير الأصابع.. العلي وفرزات
كلما جاء ذكر الكاريكاتير السياسي العربي قفز إلى الأذهان اسم الرسام الفلسطيني الشهير ناجي العلي الذي اغتيل برصاص مجهول عام 1987 في لندن بعد حياةٍ لم تكن بالطويلة، ولكنها كانت مزدهرة صاخبة مليئة بالنقد اللاذع والتعبيرات الصادقة حيال القضية الفلسطينية، عندما رسم أشهر شخصية كاريكاتيرية عربيّة «الطفل حنظلة» الذي كان بمثابة نبض حي يذكر به «العلي» العالم بقضيته وقضية الفلسطينيين الحالمين بعودتهم إلى وطنهم المُحتل، وناقدًا في الوقت نفسه للأنظمة العربية التي تمارس القمع على شعوبها وتتناسى قضيتها الكبرى، ولكن الأمور لم تسر كما تمنّى العلي؛ بل كانت رسوماته تلك التي ناضل بها هي نفسها سبب انتهاء حياته بشكل مأساوي.
- شخصية حنظلة الشهيرة للرسام ناجي العلي.
رسام الكاريكاتير السياسي السوري علي فرزات اشتهر بأعماله الساخرة وانتقاده للأوضاع في سوريا لفترة كبيرة، وكان أحد أهم مؤسسي الصحف المستقلّة في سوريا عام 2001، والتي عرفت باسم «الدومري» وحصد عدة جوائز صحفية، أهمها الجائزة الأولى في مهرجان صوفيا الدولي في بلغاريا (1987)، وجائزة الأمير كلاوس الهولندية (2003)، وجائزة «ساخاروف» لحرية الفكر عام 2011 بعد تعرضه للاعتداء وكسر أصابع يديه في أغسطس «آب» من العام نفسه، أثناء عودته من مقر عمله بواسطة ملثمين اتهمهم فرزات بالانتماء إلى قوات الأمن التابعة لرئيس النظام السوري «بشار الأسد» نتيجة نقده لنظامه.
كارلوس لاتوف.. الريشة الثائرة من جذور عربية
كارلوس لاتوف هو رسام برازيلي من مواليد 1968 من أصول عربية، واشتهر في الأعوام التي سبقت ثورات الربيع العربي برسوماته المعادية لسياسات الغرب في الشرق الأوسط، والعالم العربي، وتحديدًا كُل من الولايات المتحدة الأمريكية، وإسرائيل. ولم يكتفِ لاتوف بانتقاد تلك السياسات فقط؛ بل وجه ريشته لانتقاد رؤوس السلطة في الكثير من الدول العربية قبل وأثناء اندلاع ثورات الربيع العربي.
- كاريكاتير لاتوف تعبيرًا عن صمود الثورة المصرية ضد المجلس العسكري عام 2011.
وبينما احتفى الكثير من العرب بانتقادات لاتوف اللاذعة؛ تجاهلت رسوماته الكثير من وسائل الإعلام الغربية ووجهت له اتهامات بالعنصرية، ورهاب المثلية الجنسية، ومعاداة السامية مثله مثل الكثير ممن يقتربون بأقلامهم من انتقاد أقطاب السياسة الغربية أو الممارسات الصهيونية في العالم؛ لدرجة تخصيص وإنشاء موقع وأكثر من صفحة بعينها لوصمه بتلك التُهم مثل صفحته على ما يعرف بـbad comics wiki أو موسوعة الرسومات السيئة، وأخرى على موقع Latin Arabia خصصت جميعها لاتهامه بمعاداة السامية والعنصرية، بالإضافة إلى كل هذه الاتهامات لم تنسَ تلك الصفحات المعادية له أن تشير إلى «جذوره العربية» مما يفسر الكثير من تلك التُهم بالنسبة لهم.
أصبح فن الكاريكاتير السياسي الآن واحدًا من أكثر أشكال التعبير شعبية في العالم، وواحد من أكثرها سخرية، ولا يزال هو الفن الأكثر عرضة للهجوم والقمع من قبل السلطات أو الأشخاص الذين يتم انتقادهم رغم اختلاف الكثير من الناس، وخصوصًا في المنطقة العربية على الفرق ما بين الإساءة وحرية التعبير أو النقد الساخر.