حرية الفكر والقول والتعبير لم تكن موجودة وقابلة للممارسة منذ الأزل، بل اقتنصتها الحضارة الإنسانية بصراعات صعبة وأحيانًا دامية، وكان لهذه الصراعات ضحايا شكلوا وقود البشرية للتحرر من كل قيود الجمود والتقليد. تشعر المجتمعات أن وجودها يرتبط باجتماعها على مجموعة من الأفكار والمعتقدات التي تشكل المشترك الكافي لبقاء الجميع داخل دائرة الإيمان بالجماعة، ومن هنا يصبح الخروج عن هذه الأفكار والمعتقدات تهديدًا لروح الجماعة وتماسكها، ويكون صاحب المعتقدات والأفكار الجديدة محاربًا لتماسك المجتمع ولحمته في نظر الجميع.
ويُمكن القول بأن بعض من امتلكوا أفكارًا ورؤى جديدة، لم يمتلكوا الشجاعة للإعلان عن أفكارهم المخالفة للمجتمع، لكن على الجانب الآخر؛ هناك من امتلكوا هذه الشجاعة ووقفوا بلواء الحقيقة في وجه الجميع، بالرغم من معرفتهم أنهم سيكونون عرضة للتنكيل والتعذيب والقتل.
السطور التالية تسلط الضوء على بعض هذه النماذج التي دفعت حياتها ثمنًا للخروج عن السائد واختلاف الرأي.
1. هيباتيا.. عالمة الإسكندرية التي قتلها الغوغاء
عاشت هيباتيا ابنة الفيلسوف ثيون، حياتها في مدينة الإسكندرية، وتعد واحدة من نساء قلائل انخرطوا في الأكاديمية. لم يدون الكثير عن حياة هيباتيا ولا عن إنجازاتها العلمية الثورية في ذلك الوقت، لكن الاضطراب الديني والسياسي الذي سيطر على عصرها في الإسكندرية ساعدنا على رسم صورة واضحة عن ملامح قصة اغتيالها القاسية والملحمية. يرجح الكثير من المؤرخين أن معتقداتها الوثنية المخالفة للمجتمع قادتها إلى حتفها بهذه الطريقة الوحشية، إذ اجتمع الغوغاء عليها؛ فعذبوها وقتلوها بقسوة، مدفوعين بشائعات تدخل فيها خلاف ديني وسياسي بين أسقف الإسكندرية وحاكمها.
تقول بعض المصادر إن هذا الخلاف بين أسقف الكنيسة في الإسكندرية، وحاكمها الذي يمتلك علاقة وطيدة مع المجتمع اليهودي في المدينة رغم إيمانه الوثني، كتب الفصل الأهم من قصة مقتل هيباتيا. أصل الخلاف بين الرجلين هو أن أسقف الإسكندرية كان يحاول بكل الطرق الدفع نحو إجراء إصلاحات كنسية موسعة في المدينة. تطورت الأمور بشكل كبير عندما أصدر حاكم الإسكندرية مرسومًا يملي قواعد معينة لإقامة المراسم الراقصة اليهودية.
اندفع أحد المسيحيين المقربين من أسقف الكنيسة في الإسكندرية اسمه هيراكس، ودعم بشكل علني المرسوم، وهو الأمر الذي اعتبره اليهود استفزازًا لهم ورغبة في قلقلة غضبهم. قرر حاكم الإسكندرية تعذيب وقتل هيراكس أمام العامة، لكن غضبة اليهود لم تكن لتنتهي عند هذا الحد. خدع اليهود المسيحيين ليعتقدوا بأن كنيستهم تحترق في منتصف الليل؛ فهرعوا لإنقاذها لكنهم وجدوا أنفسهم ضحايا لمصيدة أقامها اليهود للانتقام منهم جميعًا؛ وترتب على هذه الحادثة قرار من أسقف الإسكندرية بحرمانهم من ممتلكاتهم ونفي الكثير منهم.
عمت الفوضى الإسكندرية عقب هذه الأحداث المتلاحقة. وتأزمت العلاقة بين حاكم الإسكندرية والمسيحيين فيها، بينما أشيع عن هيباتيا أنها تمارس السحر الشيطاني، وأنها وراء كل القرارات التي يتخذها حاكم الإسكندرية بسبب حقيقة تقريبه لها واستدعائها في كثير من الأوقات. أراد المسيحيون إنهاء هذا السحر الذي تمارسه هيباتيا على حاكم الإسكندرية. طبقًا لمجموعة من الروايات، قام أحد القضاة بخداعها واستدراجها إلى الكنيسة، وجردت من ملابسها بالكامل، ورُجمت بالحجارة ثم سُحلت في الشوارع حتى لفظت أنفاسها الأخيرة.
2. جوردانو برونو.. القول بـ«لا محدودية الكون» يستوجب الحرق حيًّا
عاش برونو في القرن السادس عشر، وهو فيلسوف إيطالي حُرق على وتد خشبي بسبب تمسكه الشديد بمعتقداته غير التقليدية في ذلك الوقت عن لا محدودية الكون ووجود أنظمة شمسية أخرى غير النظام الشمسي الذي نعرفه. دافع برونو عن أفكاره طيلة حياته، ولم يثنه عنها اعتراض الجميع، بل كان ذلك فيما يبدو دافعًا للاستمرار في عزف ألحان الحقيقة كما يراها.
دفع هذا الإصرار الكامل من برونو على نشر أفكاره والدفاع عنها محاكم التفتيش الرومانية إلى استهدافه وإنهاء رحلته ومقاومته إلى الأبد. حكمت محكمة التفتيش الإغريقية أن برونو «مهرطق» ومُصّر على آراءه ومعتقداته الإلحادية. رد برونو على اتهامات محكمة التفتيش قائلًا: «قد تكونوا أكثر خوفًا من الحكم بهذه العقوبة ضدي، أكثر من خوفي أنا لقبولها». أُحرق برونو حيًّا عام 1600، بعد أن جردوه من ملابسه وأزالوا لسانه.
3. مايكل سيرفيتوس.. حُرق حيًّا لأن المسيح إنسان
عاش سيرفيتوس بين عامي 1509 و1553، وكان طبيبًا في إسبانيا، ولاهوتيًّا وصانع خرائط وباحثًا مهتمًا بالإنسانيات. قدم سيرفيتوس أبرز ما قدمه في حقل الطب، إذ كان أول أوروبي يصف بدقة الدورة الدموية بين القلب والرئتين بشكل مستقل عن مكتشف الدورة الدموية ابن النفيس.
رفض سيرفيتوس المذهب الثالوثي الأرثوذكسي بشكل كامل، ودافع عن رفضه لهذا المذهب في وجه الكنيسة، وصرح سيرفيتوس بأن ما يعتقده هو أن الله واحد، وبحسب اعتقاده، فإن أشخاص الثالوث في المعتقد الأرثوذكسي هم «أشكال» (Forms) اختار الله أن يتجلى فيهم، وهكذا يكون المسيح هو إنسان خلقه الرب، وبشريته هذه تمنعه من أن يكون إلهًا. دفع سيرفيتوس حياته ثمنًا لتبني هذه المعتقدات، إذ حُرق على وتد خشبي في مدينة جنيف بسويسرا، وحُرقت معه كل مؤلفاته.
4. لوسيليو فانيني.. القول بتطور الرئيسيات يستوجب «قطع اللسان»
عمل فانيني طبيبًا بين عامي 1585 و1616، وكانت له آراء معارضة لسلطة البابوات، وعُرف عنه تأييده المبكر لصيغ معينة من التطور الخاص بالرئيسيات. عاش فانيني معظم فترات حياته متجولًا بين المدن الأوروبية بسبب خلافاته الدائمة مع السلطات. لجأ فانيني قبل مقتله بفترة قصيرة إلى حيلة الهوية المزيفة للتخلص من الملاحقة، لكن الأمر لم ينجح وتم القبض عليه بتهمة الهرطقة.

لوسيليو فانيني. مصدر الصورة:alchetron
أعدم فانيني عام 1619 من قبل سلطات مدينة تولوز الفرنسية، وحكمت عليه السلطات بالموت شنقًا، كما أُزيل لسانه، ثم أُحرقت جثته عقب موته على المشنقة. لم تكن أسباب الحكم على فانيني بالموت بهذه الطريقة القاسية معروفة بشكل واضح، لكن الحقائق حول مقتله لم تكن محل خلاف. ويمكن القول بأن الكنيسة لم تكن بصفتها الإسمية ضالعة في مقتله، بل كانت الحكومة والبرلمان في مدينة تولوز الفرنسية بعدما اتهموه بالتجديف والإلحاد.
5. كارل هاسلر.. الموت متجمدًا عقابًا على معاداة النازية
مواطن تشيكي عمل مؤلف أغان وممثلًا ومخرجًا وكاتبًا، بدأ حياته الفنية على المسرح وفي الأفلام الصامتة على غرار سينما شارلي شابلن. تحول هاسلر إلى غناء كلماته في ثلاثينات القرن الماضي، بعد أن انتشرت السينما الحوارية وانتهى عصر السينما الصامتة. كان هاسلر يحمل كرهًا كبيرًا للنازية الألمانية، ودفعه هذا الكره لكتابة العديد من الأغاني التي كانت تظهر قبح السياسات النازية في ألمانيا، وهي الأغاني التي تحولت إلى أيقونات في أوساط المجتمع التشيكي.
أشهر أغانيه كانت أغنية «Freedom» (الحرية) وأغنية «Our Czech Song» (أغنيتنا التشيكية)، ووضعته هذه الأغاني مع الكثير من الأغاني الأخرى عرضة لغضب السلطات النازية في ألمانيا. دفع هاسلر حياته ثمنًا لفنه، عندما قاده زميل إلى البوليس السري الألماني عام 1941. احتجز هاسلر في أحد المعسكرات التابعة للشرطة السرية الألمانية في عمر 62 عامًا، والمرجح أن أفراد من الشرطة الألمانية سكبوا عليه ماء مثلجًا ودفعوا به إلى الخلاء ليتجمد موتًا.
6. مالكوم إكس.. أن يقتلك الأصدقاء القدامى
ولد مالكوم إكس في مدينة أوماها بولاية نبراسكا عام 1925، وكان والده جيمس إيرل ليتل أحد أشهر الدعاة الذين دافعوا عن الأدوار العظيمة التي قدمتها شخصيات من ذوي البشرة السوداء في التاريخ الحديث للولايات المتحدة الأمريكية. تعرض والد مالكوم إلى الكثير من الملاحقات من بعض الحركات المتطرفة التي تخصصت في ملاحقة وإيذاء السود المحررين حديثًا في الولايات المختلفة، وهو الأمر الذي دفعه للانتقال مع عائلته إلى ولاية ميتشجان ليتمكن من الاستمرار في إقامة خطبه ونشاطاته.
على خلفية استمرار نضاله في بيئته الجديدة، تعرض جيمس للقتل بطريقة وحشية عام 1931 على يد متطرفين للعرق الأبيض، بينما رفضت سلطات المدينة محاكمة المتورطين في عملية الاغتيال. بعد اغتيال والده، ذهب مالكوم رفقة الأخصائيين الاجتماعيين بعيدًا عن أسرته ليلتحق بالمدرسة الثانوية وينخرط في تناول المخدرات وبعض النشاطات الإجرامية.
في عمر البلوغ، قضى مالكوم ست سنوات في السجن، تعرف خلالها على تعاليم إليجا محمد، قائد جماعة «أمة الإسلام» التي آمنت بالقومية السوداء وحملت مشاعر الكراهية للأمريكيين من أصول أوروبية واعتبرتهم شياطين يساهمون في زيادة معاناة ذوي البشرة السمراء في الولايات المتحدة. عقب خروجه من السجن بينما أصبح يبلغ 27 عامًا، انخرط مالكوم في جماعة «أمة الإسلام» وأصبح أحد أهم الفاعلين فيها بمدينة هارلم في نيويورك. كانت أفكار مالكوم تتسم بالندية، فقد آمن بحق الدفاع عن النفس أمام العنصريين واكتساب الحرية بأي وسيلة ممكنة. كان مالكوم خطيبًا مفوهًا، وأكسبته موهبته الاستثنائية شهرة واسعة في مجتمعات الأمريكيين من أصول أفريقية.
ترك مالكوم جماعة «أمة الإسلام» مع بداية الستينيات على إثر خلاف بينه وبين إليجا محمد بسبب التهور في خطاب مالكوم كما يراه إليجا محمد. عام 1964، أسس مالكوم منظمة جديدة تحت اسم «منظمة الوحدة الأفريقية الأمريكية» التي دعمت الهوية الأمريكية السوداء، وجاهدت العنصرية باعتبارها أهم عدو يواجه الأمريكيين الأفارقة. تدافع المتعاطفون على منظمة مالكوم الجديدة وهو الأمر الذي جعل مشاعر الغيرة والحنق تسيطر على أعضاء جماعة «أمة الإسلام» الذين وجدوا دعوة ضمنية في خطاب إليجا محمد لاغتيال مالكوم على خلفية انفصاله عن الجماعة.
أدى الخطاب العدائي لقائد «أمة الإسلام» في النهاية إلى كتابة النهاية في قصة مالكوم إكس، إذ تحول الاقتناع الكامل بقدرة مالكوم على التعبير عن أفكار الجماعة، إلى قناعة راسخة بأنه لا يستحق هذه المكانة التي اكتسبها بسبب انضمامه إلى الجماعة بالأساس. انتهت حياة مالكوم إكس عام 1965 على يد أعضاء من جماعة «أمة الإسلام» بينما يلقي خطابًا حماسيًا في أحد المؤتمرات الخاصة بمنظمته الجديدة في مدينة نيويورك.
7. أبراهام لينكولن.. تحرير العبيد يستوجب رصاصة في الرأس
أبراهام لينكولن الرئيس السادس عشر للولايات المتحدة الأمريكية الذي قاد بلاده خلال الحرب الأهلية الأمريكية، وقاوم قوانين العبودية المعمول بها في ذلك الوقت لتنتهي تمامًا في ولايته. كانت أكبر المعارك التي على لينكولن خوضها في فترته الرئاسية إلى جانب حربه في مجلس الشيوخ ضد قوانين العبودية، هي حربه ضد الولايات الانفصالية.
حاول لينكولن طول فترة رئاسته إقناع الشعب الأمريكي بالعيش في أمن وسلام بين الجميع، وأن القضاء على العبودية في الولايات المتحدة وضمان حقوق الأمريكيين من أصول أفريقية لن يؤدي إلى تفكك المجتمع الأمريكي. اغتيل لينكولن في مسرح فورد في العاصمة واشنطن مساء يوم 14 أبريل (نيسان) 1865 برصاصة في الرأس أطلقها جون ويلكس بوث أدت إلى وفاته في الصباح التالي.
8. مارتن لوثر كينج.. إنهاء الفصل العنصري جزاؤه القتل
كان لوثر كينج رجل دين أمريكي ومناضل من أجل حقوق الأمريكيين من أصول أفريقية، قاد حركة الحقوق المدنية الأمريكية مستخدمًا أفكار العصيان المدني للضغط على السلطات من أجل الاعتراف بحقوق مجتمع ذوي البشرة السمراء في الولايات المتحدة. لوثر كينج هو أصغر شخص يحصل على جائزة نوبل للسلام من أجل مجهوداته في إنهاء الفصل العنصري في المجتمع الأمريكي بين ذوي البشرة البيضاء وذوي البشرة السمراء من خلال أدوات سلمية.
اغتيل كينج في مدينة ممفيس بولاية تينيسي في شهر أبريل عام 1968 في حادث دموي اهتزت له أرجاء العالم أجمع. تعرض كينج إلى إطلاق النار من شرفة غرفته في أحد فنادق المدينة بينما كان يتحدث إلى أحد رفقائه، أصابت الرصاصة حنجرته فسقط مباشرة على أرضية الغرفة. لم تسعف الجراحة السريعة أطباء مستشفى سانت جوزيف لإنقاذ حياته، إذ توفي أثناء العملية الجراحية للسيطرة على الجرح الذي تسببت به الرصاصة الغادرة.
علامات
أبراهام لينكولن, الرأي, برونو, بينظير بوتو, تاريخ, حرية الفكر, سياسة, علوم, كارل هاسلر, لوسيليو فانيني, مارتن لوثر كينج, هيباتيا