قبل أيامٍ، في أحداثٍ وثقتها عدسة الكاميرا المباشرة، ظهرت قوات الاحتلال الإسرائيلي وهي تتعدى بالضرب على مراسلة الجزيرة، جيفارا البديري، ثم تقتادها بعنفٍ للاعتقال دون تهمة، وذلك يوم السبت الموافق 5 يونيو (حزيران) 2021.
وفي قسم الشرطة اتُّهمت جيفارا بالاعتداء على جندي من قوات الاحتلال، إلا أن الأدلة أثبتت عكس ذلك، فأطلقوا سراحها بعد حوالي سبع ساعات أمضتها في التحقيقات.
وبعدها بيومٍ اعتقلت شرطة الاحتلال المناضلة الفلسطينية منى الكرد، التي تحوَّلت لرمزٍ عالميٍّ في دفاعها عن حي الشيخ جراح وأهله، واتهمها الاحتلال بالقيام «بأعمال تخل بالنظام والسلم وتثير الشغب». تهمةٌ مألوفة في العالم العربي، في إسرائيل، الدولة التي تصوِّر نفسها على أنها «الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط»، وفي باقي الدول العربية التي تكاد تنعدم فيها حرية الصحافة بالكامل.
في هذا التقرير نستعرض ثلاث قصصٍ بارزة لمواجهات بين الإعلام والصحافة الأمريكية وبين مؤسسات الدولة، مثل البنتاجون والبيت الأبيض، وكيف وظَّفت فيها الأخيرة حجج «الأمن القومي» والسلم المجتمعي ضدَّ الإعلام لتعطيل مساعي كشف الحقائق للجمهور.
«واشنطن بوست» أمامَ البنتاجون
لربما تكون قصة معركة صحيفة «واشنطن بوست» هي الأشهر، والتي مثَّلها فيلم «ذا بوست – The Post»، وأحد أبطاله يمثِّل بن برادلي، رئيس تحرير الصحيفة، ومالكتها وناشرتها كاثرين جراهام، اللذَين سمعا بشأن قصة صحفية كبيرة تعمل عليها صحيفة «نيويورك تايمز».
وسعيًا وراء القصة الصحفية الكبيرة، وفي جو المنافسة للـ«واشنطن بوست» مع «نيويورك تايمز»، تقصَّى برادلي وراء القصة التي تعمل عليها صحيفة «التايمز» ليعرف ما هي. تبدأ الحكاية في 13 يونيو (حزيران) 1971، حين صوَّر دانيال إلسبيرج، الناشط والمحلل العسكري الأمريكي، أوراقًا شديدة السرية تتبع البنتاجون، وزارة الدفاع الأمريكية، وتكشف عن معلومات صادمة عن حرب فيتنام والأداء الأمريكي السيئ فيها.
استطاع إلسبيرج نقل هذه الوثائق إلى صحيفة «التايمز»، وبالرغم من كشفها لأسرار ومجموعة من الأحداث في فترة رئيسين رحلا عن البيت الأبيض، هما هاري ترومان (1945-1953) وليندون جونسون (1963-1969)، وبالرغم من عدم كشف الوثائق لأيٍّ من أفعال إدارة ريتشارد نكسون، الرئيس في ذلك الوقت، فإن البيت الأبيض لم يقبل الكشف عن هذه المعلومات السرية التي كانت تكشف أكاذيب روجتها الإدارات الأمريكية أثناء الصراع في فيتنام، وتابعت إدارة نيكسون ترويجها، واعتبرته إدارته تهديدًا للأمن القومي الأمريكي.
وبناءً على ذلك، أرسل المدعي العام الأمريكي إلى «التايمز» بلاغًا بأنهم ينتهكون قانون التجسس، ويعرضون مصالح وزارة الدفاع الأمريكية للخطر، ولكن الجريدة رفضت التوقف عن النشر حتى صدرَ قرارٌ قضائي يحظر عليها النشر.
كاثرين جراهام، مالكة صحيفة «واشنطن بوست»، وبن برادلي، مدير تحرير الصحيفة، وأحد أهم وجوه الإعلام في الولايات المتحدة في القرن الماضي
وفي الفترة نفسها، وتحديدًا في 16 يونيو (حزيران)، حصلت صحيفة «واشنطن بوست» على الوثائق وبدأت العمل لنشرها، إلا أن محامي الجريدة رفض ذلك، قائلًا إنه سيُعرض الجريدة لخسائر مالية ضخمة وسيَجُرُّها للخطر القانوني والمساءلة القضائية، ودخلَ الصحافيون ورئيس تحريرهم في جدال مع الفريق القانوني ومالكة الصحيفة، كاثرين جراهام، واستعدَّت صحفٌ أخرى للنشر، ولم يرغب مجلس التحرير في «واشنطن بوست» أن يتخلفوا عن هذه المهمَّة التاريخية، والمُفيدة، وبضغطٍ مستمرٍّ وافقت كاثرين على النشر.
ظهر أول تقرير عن أوراق البنتاجون السرية في 18 يونيو (حزيران) 1971، وسرعان ما حذرت وزارة العدل الصحيفة من أنها انتهكت قانون التجسس، وبأنها تهدد مصالح البنتاجون، وبينما كانت القضية تشق طريقها عبر المحاكم، جادلت الإدارة الأمريكية بأن الأمن القومي والعلاقات الدبلوماسية قد تعرضت للخطر في حال نشر المعلومات، على الرغم من أن صحفيي «واشنطن بوست» أثبتوا أن كثيرًا من المعلومات التي اعترضت عليها الحكومة مُعلنةٌ بالفعل.
وطلبت وزارة العدل من المتهمين عدم حضور جلسات الاستماع بسبب مخاوف أمنية، إلا أن القاضي رفض هذا الأمر، ومع ذلك حوفظ على سرية المحاكمات إذ عُقدت في غرف ذات تجهيزات خاصة تحافظ على سريتها.
وفي 30 يونيو (حزيران) أصدرت المحكمة العليا قرارًا يؤيد حق الصُّحف في النشر، وكان هذا إعلانًا بانتصار حرية الصحافة، ولم يؤد نشر أوراق البنتاجون لزيادة مبيعات الصحيفة فحسب، بل قادها لبداية تحقيق فضيحة «ووترجيت» التي أسقطت الرئيس نيكسون، الذي سعى لمنع نشر تسريبات تضرُّ بمصالحه السياسية الشخصية، مثلما سعى من قبل لمنع نشر أوراق البنتاجون.
أثار نشر أوراق البنتاجون جدلًا على مستوى الولايات المتحدة، ورافقه جدلٌ دوليٌ لأنه جاء بعد سنوات من المعارضة المتزايدة للحرب ومهاجمة جدواها وأهدافها غير الواضحة. وكان الكشف عن المعلومات واستمرار نشرها على الرغم من تصنيفها بأنها «شديدة السرية» محرجًا لإدارة نيكسون الذي كان يتجهز لإعادة انتخابه عامَ 1972.
كانت هذه التسريبات فاضحةً من جهة أخرى لنيكسون الذي سمح باتخاذ إجراءات غير قانونية لتشويه سمعة إلسبيرج، والتي كان من بينها السطو على مكتب الطبيب النفسي الذي يزوره، في محاولة للكشف عن معلومات محرجة عنه، وانكشفت هذه الحقائق خلال التحقيق في فضيحة «ووترجيت»، أما عن الوثائق، فقد نُشرت لاحقًا في كتاب باسم أوراق البنتاجون، ومع ذلك كانت الوثائق المسربة غير مكتملة، وظلت أجزاءٌ معينةٌ سريةً حتى عام 2011؛ إذ إن الوثائق الكاملة نُشرت للجمهور في العام نفسه.
سنودن وتسريب وثائق وكالة الأمن القومي
في 2006، حصلَ إدوارد سنودن على عملٍ في «وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي إيه)»، متخصصًا في تكنولوجيا المعلومات. وبعدَ الاشتباه في محاولته الحصول على ملفات سرية عامَ 2009، غادرَ سنودن الوكالة للعمل في شركة «Dell»، والتي عملَ أثناء وجوده فيها مُتعاقدًا لصالح «وكالة الأمن القومي الأمريكي (NSA)».
وبعد فترة قصيرة انتقل سنودن للعمل في شركة «Booz Allen Hamilton»، وهي شركةُ استشارات تقنية عملَ فيها مقاولًا مرةً أخرى لصالح وكالة الأمن القومي الأمريكي. وخلال سنوات عمله في المجال، لاحظَ سنودن كثافة المراقبة على المواطنين الأمريكيين، وبانتقاله لعمله الجديد بدأ سنودن بنسخ وثائق «سرية للغاية» لوكالة الأمن القومي ولعمليات التجسس على المواطنين، وعمل على بناء ملف حول الممارسات التي وجدها «مفزعةً ومزعجةً» على حد وصفه.
وبعد تجميع مخزون كبير من الوثائق، أخبرَ سنودن مشرفه في الوكالة أنه بحاجة لإجازة لأسباب مرضية، وقال إن إصابته شُخِّصت بالصرع. وفي 20 مايو (أيار) 2013 رحل سنودن في طائرة إلى هونج كونج، ورتَّب فيها اجتماعًا سريًا مع صحافيين من صحيفة «الجارديان» البريطانية، ومع المخرجة لورا بويتراس، التي تعرَّضت لاحقًا لضغوط أمريكية وملاحقات مستمرة.
إدوارد سنودن
في 5 يونيو (حزيران) نشرت صحيفة «الجارديان» الوثائق السرية التي كانت بحوزة سنودن، وكشفت عن أن محكمة مراقبة الاستخبارات الأجنبية، أصدرت أمرًا لشركة «Verizon»، وهي شركة اتصالات كبيرة، يُلزمها بالإفصاح عن معلومات لبعض زبائنها الأمريكيين، وتقديمها لوكالة الأمن القومي بشكل «مستمر ويومي».
في اليوم التالي، نشرت صحيفتا «الجارديان» وَ«واشنطن بوست» معلومات سنودن المسربة عن برنامج «PRISM»، وهو برنامج تابع لوكالة الأمن القومي يسمح بجمع المعلومات إلكترونيًّا، ثم تتابع سيلٌ من المعلومات حول الوثائق التي بحوزة سنودن، وانفتح معها نقاش محلي ودولي على نطاق واسع.
قال سنودن حينها، في لقاء معه بغرفته الفندقية في هونج كونج أنَّه «على استعداد للتضحية بحياتي السابقة، لأنني لا أستطيع بضمير حي أن أسمح للحكومة الأمريكية بتدمير الخصوصية وحرية الإنترنت والحريات الأساسية للناس حولَ العالم، باستخدام آلة المراقبة الضخمة هذه التي يبنونها سرًّا».
وسرعان ما ردت الحكومة الأمريكية على ما نشره سنودن، واعتبرته غير قانونيٍّ، وافتتحت قضايا ضدَّه تتهمه بتهديد الأمن القومي الأمريكي، وفي 14 يونيو (حزيران) 2013، اتهم المدعون الفيدراليون سنودن بـ«سرقة ممتلكات حكومية»، و«نقل غير مصرح به لمعلومات الدفاع الوطني»، و«نقل متعمد لمعلومات استخبارات واتصالات سرية» إلى جهات غير مصرَّحٍ لها، وبالطبع اتُّهم بأنه «خائن» وما زال من أهم المستهدفين للمجتمع الأمني الأمريكي.
ظل سنودن مختبئًا لأكثر من شهر، وخطط للانتقال إلى الإكوادور للجوء فيها، ولكن انتهى به المطاف في مطارٍ روسيٍّ، بعد أن ألغت الحكومة الأمريكية جواز سفره، ورفضت الحكومة الروسية الطلبات الأمريكية بتسليم سنودن، وهذا عقَّد موقفه إعلاميًّا وأمام الجمهور الأمريكي إذ بدا وكأن الكرملين هو حامي وراعي سنودن.
وفي يوليو (تموز) 2013، احتل سنودن الأخبار مرةً أخرى بحصوله على حق اللجوء في فنزويلا ونيكاراجوا وبوليفيا، ولكن سنودن قرَّر البقاء في روسيا، وصرح أحد محاميه أنَّ سنودن سيطلب اللجوء المؤقت في روسيا، وربما يتقدم بطلب للحصول على الجنسية لاحقًا.
في أكتوبر (تشرين الأول) 2013، صرَّح سنودن بأنه لم يعد يمتلك أيًّا من ملفات وكالة الأمن القومي التي سربها للصحافة، وأنَّه سلم ما لديه من مواد للصحافيين الذين التقى بهم في هونج كونج، ولم يحتفظ بنسخ منها لنفسه، وأوضح أنه لم يُحضر الملفات إلى روسيا، وفقًا لصحيفة «نيويورك تايمز». وفي نوفمبر (تشرين الثاني) 2013، رفضت الحكومة الأمريكية التماسًا من سنودن للعفو عنه، وفي يناير (كانون الثاني) 2014، سعى الرئيس أوباما لتهدئة المخاوف بشأن تجسس الحكومة على المواطنين، وأمر المدعي العام الأمريكي بمراجعة برامج المراقبة في البلاد.
مع مرور السنوات تابع سنودن نقده للرقابة الحكومية والأمريكية تحديدًا، وكشفَ الجيش الأمريكي أن المعلومات التي سربها أوقعت أضرارًا أمنية كُلفتها تصلُ إلى مليارات الدولارات. وفي مايو (أيار) 2014، صرَّح بريان ويليامز، وهو مذيع أمريكي شهير يعمل في قناة «NBC News»، بأنَّ سنودن أخبره بأنه دُرِّب ليكون جاسوسًا يقدر على العمل المتخفي في «سي آي إيه»، وفي وكالة الأمن القومي، ولكن نفت مستشارة الأمن القومي سوزان رايس ذلك.
ويرى سنودن أنه «وطني» وأن ما يفعله مفيد في المستقبل للولايات المتحدة والعالم، ويرى أن تسريبه للمعلومات أثار نقاشًا كبيرًا وساهم في خلق «تدابير حماية جديدة في الولايات المتحدة وخارجها لحقوقنا، للتأكد من عدم انتهاكها».
الرجل الثاني في «إف بي آي» وفضيحة «ووترجيت»
في عام 1942 بدأ مارك فيلت التدريب اللازم ليصبح عميلًا لـ«مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي (إف بي آي)»، وبعد سنوات انتقل فيلت إلى واشنطن ليعمل ضمنَ مجموعة التجسس في قسم المخابرات الداخلية لتعقب جواسيس المحور، وهي مجموعة الدول ألمانيا، وإيطاليا، واليابان التي شاركت في الحرب العالمية الثانية ضد الحلفاء: أمريكا وبريطانيا، وفرنسا، وروسيا السوفيتية.
وفي عام 1964 عُين فيلت رئيسًا لقسم التفتيش بالمكتب، وظل في منصبه حتى 1971، حين قرَّر ترقيته إدجار هوفر، مدير «إف بي آي» الشهير، ليصبح فيلت نائب المدير المساعد، وهو ثالث أعلى منصب في المكتب، وفي مايو (أيار) 1972، توفي هوفر وعين الرئيس ريتشارد نيكسون مكانهُ باتريك جراي، مديرًا بالإنابة، ليُصبح فيلت في منصب المدير المساعد والرجل الثاني في قيادة المكتب.
لاحقًا بعد شهرين، في 17 يونيو (حزيران) 1972، أُلقي القبض على خمسة رجال اقتحموا مقر اللجنة الوطنية الديمقراطية، وهي أعلى هيئة تنسيقية للحزب الديمقراطي الأمريكي وفي مقرها خطَّط الحزب للانتخابات المقبلة ضد نيكسون، وتحوَّل الاقتحام إلى فضيحة وطنية أطلق عليها اسم «ووترجيت»، نسبةً إلى مجمع المكاتب الذي وقعت فيه الأحداث.
وبصفته الثاني في قيادة مكتب التحقيقات الفيدرالي، طُلب من فيلت أن يرأس التحقيق في عملية الاقتحام، لتحديد مدى تورُّط البيت الأبيض إن وجد، وبعدها بأيام قليلة تلقى صحفيو «واشنطن بوست» معلوماتٍ من مسؤول حكومي رفيع المستوى لُقِّب بـ«الحلق العميق»، وأفادت معلوماته بتورط البيت الأبيض في فضيحة التجسس على الحزب الديمقراطي واقتحامه.
وخلال المكالمة الهاتفية، أخبر «الحلق العميق» الصحافيين بأن عميل وكالة المخابرات المركزية السابق، وموظف نيكسون، هوارد هانت، متورطٌ في «ووترجيت». وقدَّمت تسريباته للصحافيين القوة الكافية للدعوة لإجراء تحقيق واسع النطاق في أنشطة البيت الأبيض وإدارة نيكسون، مما أدى إلى تسريع المحاكمة التي لولا ذلك لكانت بطيئة وطويلة.
مارك فيلت، الصورة عام 2005
كشفت المحاكمات المتلفزة في عام 1973 عن سلسلة من الأعمال الإجرامية شملت تزوير الحملات، والتجسس السياسي، واقتحام المقرات، والتنصت على المكالمات الهاتفية بشكلٍ غير قانوني، والتي تعود جميعها إلى الرئيس نيكسون وموظفيه، ما أدت في النهاية إلى استقالة نيكسون في 9 أغسطس (آب) 1974، ولكن حتى بعد المحاكمة، ظلت هوية الرجل المعروف باسم «الحلق العميق» غامضة.
وفي 22 يونيو (حزيران) 1973 تقاعد فيلت من عمله، وبعد عقود، بعد أن أصيب بجلطة دماغية، أقنعته ابنته جوان بالتصريح للجمهور عن دوره في فضح وتفجير قضية «ووترجيت»، وفي 31 مايو (أيار) 2005، كسر فيلت صمته وكشف هويته، وبعدها بيومٍ أكدت صحيفة «واشنطن بوست» صحَّة المعلومة.
وفي 18 ديسمبر (كانون الأول) 2008، توفي فيلت أثناء نومه بعد معاناته من قصور في القلب، لتكون قصته بمثابة حلقة من الصراعات المستمرة بين الصحافة الحرَّة والسلطات وادعاءاتها المرتبطة بالأمن القومي والسلم المجتمعي، التي تخفي كثيرًا من الفضائح تحت بند «سري جدًّا».