بين ركود القطاع العقاري، والحديث عن اقتراب فقاعته من الانفجار، يبدو أن هناك قطاعًا جديدًا لا يضعه أغلب الاقتصاديين ضمن حساباتهم قد انفجرت أسعاره بالفعل، هذا القطاع الذي أصبح تجارةً رائجةً ومربحةً جدًا في مصر، وربما لا يدرك الكثيرون أن هذا النوع من التجارة موجود من الأساس، لكن في الواقع بات السمسار المحظوظ في القاهرة هو من تقع يده على قطعة أرض مخصصة لدفن الموتى (مقابر)؛ بل إن الأمر تخطى ذلك وأصبحت هناك سوق سوداء لهذه التجارة، ومجال واسع من الدعاية والإعلان سواء بالطرقات، أو شبكة الإنترنت، إذ يتحدث البائعون عن مميزات المقبرة وعلى أي منظر تطل، وغيره.

وفي أكتوبر (تشرين الأول) 2010، نشر موقع بي بي سي عربي، تقريرًا عن وجود سوق سوداء لبيع المقابر في مصر، إذ تحدث التقرير عن أن أسعار المقابر ترتفع باستمرار حتى باتت فوق طاقة الأسرة المصرية البسيطة، إذ يرفض الوسطاء والتجار الحديث علنًا عن الأسعار، إلا إذا تأكدوا أن السائل جاد في الرغبة بالشراء، وخلق الوضع الحالي فرصًا للاستثمار أدت لإنشاء شركات متخصصة في بناء المقابر وفقًا للمواصفات المرغوبة، إذ تتعامل هذه الشركات مع مقابر الموتى كما تتعامل مع الشقق السكنية من حيث الموقع.

إلى أين وصلت أسعار المقابر في مصر؟

من المعروف أن الشاب في مصر يعمل كثيرًا ويدخر، وينفق كل ما ادخره حتى يتمكن من الزواج، وذلك لزيادة التكاليف وارتفاع الأسعار، لكن الجديد أن موظفًا قد ينفق مكافأة نهاية الخدمة بعد المعاش للحصول على المقبرة، من خلال قرعة المقابر التي طرحتها وزارة الإسكان المصرية في منطقة السادس من أكتوبر، في مارس (آذار) الماضي، هذا ما نقلته صحيفة «الوطن» المصرية عن إبراهيم عبد المجيد، الذي تجاوز الـ60 عامًا، إذ كان من المحظوظين الذين شملتهم قائمة الفائزين بالقرعة ليدفع نحو 72 ألف جنيه مقابل الحصول على مقبرة من الدولة.

عبد المجيد، كان محظوظًا ووجد قبرًا له مدعمًا من الدولة، وهذا الأمر يصعب إيجاده عادةً، ولكن ماذا عمن لم يحالفهم الحظ؟

بالنظر إلى طريقة شراء مقابر من وزارة الإسكان المصرية، فإنه من الصعب الحصول على مقابر بالقاهرة وباقي محافظات البلاد، إذ لم تعد الحكومة تصدر تراخيص بناء مقابر جديدة داخل القاهرة منذ فترة طويلة، كما أن القانون لا يسمح بتملك المدافن ملكية مطلقة، فصاحب المدفن يتمتع بحق الانتفاع بالأرض فقط، كما يمنع قانون المقابر الصادر عام 1966 بيع هذا الحق، وهو ما يعقد فكرة تداول هذه الأرض، وتأتي الإجراءات في العادة كالتالي:

بالنظر إلى ما أعلنه جهاز تنمية مدينة السادس من أكتوبر، من طرح عدد من المقابر، كان على الراغبين في الحجز لشراء كراسة الشروط والمواصفات سداد مبلغ 100 جنيه، كما يتم سداد مبلغ 30 ألف جنيه تحت مسمى دفعة حجز، وذلك مع استمارة الحجز، ثم دفع نحو 38 ألف جنيه باقي قيمة المقبرة عند الاستلام، وكذا مبلغ 5 آلاف جنيه قيمة وديعة للصرف من عائدها على أعمال الصيانة والحراسة.

لكن لا يتوقف الأمر عند هذا الحد، إذ يشترط في المتقدم لحجز المقبرة أولًا أن يكون شخصًا طبيعيًّا (مصري الجنسية)، وليس شخصًا معنويًّا (شركة أو مؤسسة)، ومن قاطني المدينة التي يتم بها الطرح، ولا يكون قد سبق تخصيص مقبرة -سواء جاهزة أو أرض- له أو لأحد أفراد أسرته (الزوج- الزوجة – الأولاد القصر)، وتنص كراسة الشروط على أنه لا يحق للأسرة الواحدة (الزوج – الزوجة – الأولاد القصر) التقدم لحجز أكثر من مقبرة.

ولا يعني انطباق تلك الشروط على الشخص أنه يمكن أن يحصل على المقبرة؛ بل إن التخصيص يتم بالقرعة العلنية اليدوية للذين تنطبق عليهم الشروط، وبالطبع نسبة صغيرة جدًا من المتقدمين هم من يكونون أصحاب الحظ السعيد ويحصلون على مقبرة بسعر رائع مقارنةً بالأسعار المعروضة من قبل السماسرة.

وبالنسبة لمن لم تخترهم القرعة، عليهم بالطبع البحث عن مقابر بأسعار جيدة، ولكن في الواقع تضاعفت الأسعار في السنوات الأخيرة، وخاصةً مع موجة الغلاء التي ضربت البلاد خلال العامين الماضيين، إذ بلغت أسعار بعض المقابر مئات الآلاف من الجنيهات، وتتباين الأسعار من محافظة مصرية إلى أخرى، وتكون مرتفعة في المدن أكثر من القرى، التي لا يجد سكانها صعوبة في توفير قطع أراضٍ، لاستخدامها في بناء المقابر، بحسب عاملين في المجال.

وارتفع متوسط سعر المقبرة الجاهزة والمرخصة، والبالغة مساحتها 40 مترًا، في مدينة السادس من أكتوبر، إلى أكثر من 145 ألف جنيه، مقارنةً بنحو 75 ألفًا، قبل عام من الآن، بينما يبلغ سعر المقبرة، التي تتراوح مساحتها بين 60 و80 مترًا، ما بين 195 ألفًا و215 ألف جنيه، حسب درجة تشطيب المقبرة، مقارنة بنحو 95 ألف جنيه، قبل عام.

نوع آخر من المقابر، والذي بات تجارة ضخمة، هو ما تحدث عنه، عبد الله حمدي (سمسار مصري) لوكالة أنباء «الأناضول»، الذي قال إن بعض المدافن تصل أسعارها إلى 500 ألف جنيه، إذا كانت بجوار مدافن مشاهير من فنانين وإعلاميين، موضحًا أن بعض «الحانوتية تحولوا إلى سماسرة للمتاجرة في المدافن».

لا يقف الأمر عند هذا الحد، حسب ما قال محمد رمضان، صاحب مكتب تسويق عقاري في مدينة السادس من أكتوبر، لصحيفة «اليوم السابع» المصرية، فإن مقبرة بالمدينة وصل سعرها إلى 600 ألف جنيه، موضحًا: «تقع على ثلاث نواصٍ، وكلها مقامة بحجر هاشم».

بينما يقول محمد توفيق، الذي يعمل في مجال مقاولات المقابر منذ 15 عامًا، حسبما نقلت عنه صحيفة «الوطن» المصرية، إن مقابر الوفاء والأمل الشهيرة في مدينة نصر هي الأعلى سعرًا في مصر، إذ تبدأ أسعارها من 350 ألف جنيه لمقبرة على مساحة 21 مترًا، و500 ألف جنيه لمساحة 40 مترًا، وتصل إلى 800 ألف ومليون جنيه، بحسب الموقع الجغرافي للمقبرة.

لماذا ترتفع أسعار المقابر بقوة؟

تسبب ارتفاع الأسعار في مصر، بعد تحرير سعر صرف الجنيه مقابل العملات الأجنبية، في الثالث من نوفمبر (تشرين الثاني) 2016، في حدوث قفزة كبيرة في أسعار المقابر، إذ تخطت الزيادة نسبة 100%، وفق عاملين في المجال، وذلك بعد قفزة قوية في أسعار كل مواد البناء، والتي ارتفعت أسعارها أكثر من الضعف، ويأتي هذا مع استمرار معدل التضخم في تسجيل مستويات قياسية خلال الأشهر الماضية، وساهمت تداعيات ما تسمى الإصلاحات الاقتصادية التي تطبقها الحكومة، منذ نهاية 2015، أو برنامج الإصلاح الاقتصادي الذي يرعاه صندوق النقد الدولي، بشكل أساسي، في تفاقم مثل هذه الأزمات.

وكان معدل التضخم في مصر قد شهد موجة صعود حادة بعد تحرير سعر صرف الجنيه، وخفض دعم الوقود مرتين خلال ثمانية أشهر، ورفع أسعار الكهرباء مرتين خلال عام، وزيادة أسعار مياه الشرب للاستخدام المنزلي، ورفع ضريبة القيمة المضافة إلى 14%، وغير ذلك من القرارات التقشفية التي لجأت إليها الحكومة المصرية، وسجل معدل التضخم السنوي في مصر 32.9%، في سبتمبر (أيلول) الماضي، حسبما أظهرت بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء (حكومي)، وبالرغم من أن هذه النسبة مرتفعة جدًا، إلا أنها أقل كثيرًا من المستويات السابقة، إذ سجل في أغسطس (آب) الماضي نحو 33.2%.

للمزيد عن التضخم في مصر اقرأ:

وبعيدًا عن التضخم، وبالعودة إلى العرض والطلب بالبديهيات الاقتصادية، نجد أن هناك طلبًا متزايدًا على المقابر في مصر في ظل ثبات المعروض أو تناقصه خاصةً في المدن، وهو الأمر الذي يرفع الأسعار، ويجعلنا نجد أرقامًا خيالية لأسعار المقابر، والطلب في هذا المجال يرجع إلى زيادة أعداد الوفيات في البلاد، فبحسب بيانات المركزي المصري للإحصاء، سجل عدد الوفيات في مصر 556.1 ألف، خلال عام 2016، مقابل 573.9 ألف، عام 2015، في بلد ضمن أعلى نسب حوادث في العالم. ووفقًا للرسم البياني التالي، نجد أن القاهرة احتلت المرتبة الأولى بين المحافظات المصرية من حيث حالات الوفيات، بعدد 85.7 ألف حالة، عام 2016، مقابل 89.8 ألف حالة، في 2015، وهو ما يجعل الأزمة في القاهرة أعنف من غيرها في المدن الأخرى.

من جانبه يرى ممدوح الولي، الصحافي المتخصص في الشأن الاقتصادي، نقيب الصحافيين سابقًا، أن «الأزمة الحقيقية بالنسبة للمقابر تحديدًا لا تكمن في قلة المساحات، فالصحراء المصرية مترامية بلا نهاية، ولكن المشكلة أنها تقع في حيازة جهات ووزارات عديدة لا تريد التفريط فيها باعتبارها ملكًا لها، ويبقى الأمل في جهاز تخطيط استخدامات الأراضي للاتفاق مع تلك الجهات لترك مساحات لبناء مقابر عليها».

بينما يقول صلاح حجاب، رئيس جمعية التخطيط العمراني السابق، إن الطلب المبالغ فيه للحصول على مقابر وارتفاع أسعارها يأتي في الأساس بسبب «سياسة التصرف في الأراضي، والتي لا تتم الآن إلا من خلال قانون المناقصات والمزايدات والقرارات الوزارية، والتي أدت إلى خلل في السوق العقارية؛ فنجد عجزًا شديدًا في وحدات محدودي ومتوسطي الدخل والمقابر، وزيادة كبيرة في الإسكان الفاخر الذي لا يوجد عليه طلب كبير».

ويبدو أن الفساد له دخل كبير في هذه الأزمة؛ إذ يتحدث البعض عن فساد وتلاعب في إنشاءات حكومية يتم تداولها لدى الشركات الخاصة بأسعار خيالية، بعد أن تحصل عليها بأسعار مخفضة من الدولة، مع غياب أجهزة الرقابة، بالإضافة إلى شراء المقاولين لأراضي الدولة من الباطن بأسعار منخفضة، ثم يتركونها حتى ترتفع الأسعار، ويبدؤون بناء مقابر ويبيعونها بأسعار خيالية في غيبة من الرقابة، وهنا يضطر المواطن لشرائها نظرًا لطول انتظار ما يعرض من مقابر حكومية.

وضرب عبدالقادر مثالًا على ذلك بمقابر القوات المسلحة، التي تطرح على أبناء القوات المسلحة بأسعار زهيدة لا تذكر، فيشتريها المقاولون من الباطن ويبيعونها بأسعار تقترب من 500 ألف جنيه، خاصةً تلك الموجودة في مدينة نصر.

طرائف وغرائب.. هكذا أصبحت الدعاية والحلول

بين صفحات فيس بوك، والمنتديات، وحتى الإعلان في الصحف الورقية، واللافتات على الطرق، باتت سوق الإعلان عن مقابر للبيع واسعة بشكل كبير جدًا، بل أصبح استخدام الألفاظ في هذا النوع من الإعلان ربما لا يشبه كثيرًا طبيعية السلعة، أو غريب بعض الشيء عن الترويج الذي نعرفه، ولكن هذا الأمر أصبح واقعًا لا يمكن إنكاره، فلك أن تتخيل أن تكون هذه الجملة المأخوذة من حديث نبوي «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا.. ولآخرتك كأنك تموت غدًا» هي الشعار الترويجي لإحدى شركات بناء المقابر للمسلمين في مصر هدفها البيع والاستثمار.

الأمر لا يتوقف عند استخدام مثل هذه الشعارات، ولكن لجأ سماسرة إلى طرق جديدة لجذب المواطنين إلى شراء مدافن ينشئها القطاع الخاص دون تراخيص بناء، على رأسها إتاحة نظام التقسيط، بينما زادت مشاهد الاحتيال كثيرًا في هذه التجارة مؤخرًا، إذ أصبحت ظاهرة بناء المقابر وتزيينها بنظام «اللوكس» بطريق السلام– الخانكة، المشهور بالعاصمة المصرية، يحقق الأرباح والثراء السريع للشركات العاملة في هذا المجال، إذ يتم بناء هذه المقابر وتشطيبها بشكل سريع، حتى يتم بيعها قبل أن تزيلها الحكومة بدعوى عدم الترخيص، وفي النهاية يضيع حق المشتري الذي في الغالب لا يملك أن يستعيد أمواله.

حل آخر يلجأ إليه البعض لحل الأزمة، وهو بناء طوابق أخرى للمقبرة، وهذا الأمر بات منتشرًا في صعيد مصر، إذ يتم تجميع عظام الموتى الموجودين في الدور الأرضي للمقبرة، ووضعها في الدور الثاني، واستغلال الدور الأول في دفن الموتى الجدد، وذلك في محافظات أسيوط، وبني سويف، وغيرها.

المصادر

تحميل المزيد