«الشِّعر يشبه حيوانًا بحريًا يعيش على اليابسة ويرغب في أن يطير بالهواء»، هكذا وصف الشاعر الأمريكي الشهير كارل ساندبرج كتابة الشعر كما لو أنها تمنحك أجنحةً للطيران، والقدرة على تغيير جلدك كالحرباء؛ والشِّعر لا يمنح الشاعر فقط مساحةً للتعبير بقدرِ ما يمنحه وسيلةً مناسبة للهروب، كما قال الشاعر الإنجليزي الأصل تي إس إليوت: «الشَّعر ليس تحررًا من العاطفة بقدرِ ما هو هروب منها».
بالنسبةِ للسجناء الشِّعر كان وسيلة للكثير من مرهفي الحس منهم لاقتناص لحظاتٍ من الحرية، وهروب من القضبان التي تحد من حركة الجسد. فإذا كان الجسد مُقيد بالمكان؛ فالعقل ما زال حُرًا، وبإمكانه التجول كما يحلو له على المساحات البيضاء للورق، ومن هذا المُنطلق نخوض رحلة كاملة خلف قضبان السجون لنستعرض قصص شعراء السجون وأجمل قصائدهم.
من جحيم السجن إلى جنة الشِّعر
«لكي تكون شاعرًا، عليكَ أن تذهب إلى الجحيم أولًا وتعود منه»، هذا ما قالته الشاعرة كريستينا دومينيك التي تُعلم الشِّعر بإحدى سجون مدينة بوينس آيرس الأرجنتينية وهي تحكي عن تجربتها في مساعدة السجناء للتعبير عن أنفسهم، ببرنامج «TedX» الشهير. حكت كريستينا بلغتها الإسبانية عن الدور الذي يلعبه الشِّعر في تحرير الروح وفهم النفس، وكيف خلق من السجناء شعراء شغوفين، خاصةً وأن التعبير عن الذات نادرًا ما يُمارس خلف القضبان.
هذا التعبير عن الذات الذي نجده حاضرًا عند الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش في سجنه؛ عندما كتب قصيدته «إلى أمي» وهو في السجن بعد زيارة والدته له، مجسدًا تجربة السجن الأولى التي غيرت طبيعة علاقته بوالدته جذريًا. فيقول: «كتبت أحن إلى خبز أمي، للتصالح معها، فقد كنت أظن في السابق أن أمي تكرهني لأنني الولد الشقي، وذلك حتى زارتني في السجن»، حينها كتب:
«أحنُّ إلى خبز أمي
وقهوة أُمي
ولمسة أُمي..
وتكبر فيَّ الطفولةُ
يومًا على صدر يومِ
وأعشَقُ عمرِي لأني
إذا مُتُّ
أخجل من دمع أُمي !» *محمود درويش– من أشعار السجون
هذا التعبير البليغ عن مكنونات الذات هو الذي وصفته كريستينا بأنه هروب نفسي من جحيم السجن، يمكّن السجناء من تجربة حرية الكلمة المكتوبة؛ والتعبير عن مكنونات الروح المخفية؛ قائلة عمن تدربهم من السجناء: «عندما سألتهم أول مرة عن سبب رغبتهم في حضور دروس الكتابة، أجابوا أنهم يرغبون في وضع كل ما لا يمكنهم قوله أو فعله على الورق».
قيود السجناء لم تكن جسدية فقط، وفقًا لـ كريستينا، بل نفسية أيضًا؛ فهم المحرومون من الحُلمِ ومن البكاء، والوقت والمستقبل والأمنيات بالنسبةِ إليهم مجرد كلمات لا تعني أي شيء؛ ومن جحيم هذا الجو الخانق، بإمكان السجناء -بحسبها- أن يجدوا مادة خام لكتابةِ الشِّعر؛ وبإمكانهم أن يخلقوا من خلاله عالمًا كاملًا يتجاوز مخاوفهم.
(كريستينا دومينيك تحكي تجربتها في تعليم الشِّعر بالسجون)
في ورشِ كتابة مثل هذه، عادةً لا يعرف السجناء شيئًا عن ماهية الشِّعر، وهو ما يجعل المُدربين مثل كريستينا يعطون للطلاب الشغوفين بالتعلم مهام وواجبات خاصة بقراءةِ الشعر؛ فلكي تكتب شعرًا جيدًا عليك أولًا أن تصبح قارئًا جيدًا للِّشعرِ، وأن تقرأ كثيرًا. لهذا تبدأ كريستينا سلسلة المحاضرات بقراءة القصائد القصيرة التي بإمكانها أن تُغير من وجهات نظر السجناء عن الحياة.
بقراءة مثل هذه القصائد القصيرة، يتعلم السجناء كيف يمكن للغة الشعرية كسر منطق الأشياء واستبداله بمنطق جديد وأنظمة جديدة، وهو ما يجعل السجناء قادرين على كسر أنظمة السجون الصامتة وقول ما يريدون من خلال اللغة الشعرية، «وهو أمر يشبه الصمت الخبيث» بحسبِ كريستينا، لأن المباشرة ليست من صفات الشِّعر، وبالتالي يمكن للسجناء قول «المسكوت عنه»، بالموارة.
« الشعر يمنحك مُتعة -لا يمكن قهرها- للتفكير بحرية». *كريستينا دومينيك – شاعرة الأرجنتين
يتعلم السجناء في «ورش الكتابة» وبرامج الشعر في هذه البلاد – وهي الرفاهية التي لا يمتلكها العديد من سجناء الرأي في العالم العربي- كيف يمكن للجدران أن تصبح غير مرئية، وبالتالي يتعلمون قهر القضبان التي تقهرهم؛ وبدلًا من الغرق داخل جحيم السجن، يمنحهم الشعر متعة الاستيلاء على الجحيم وامتلاكه، بل واستخدامه أداةً للتعبير في التشبيهات والاستعارة. وتستشهد كريستينا ببيتٍ من إحدى قصائد السجون لشاعرٍ يقول: «أنا بحاجةٍ لخيط لا نهائي، لأخيط هذا الجرح الضخم».
بأصواتٍ مكسورة وأياد ترتجف، يحمل السجناء الأوراق التي كتبوا عليها قصائدهم، ويستعدون لإلقائها بصوتٍ عالٍ أمام بقية النزلاء وأفرادٍ من العائلة والأصدقاء. وهي لحظات عادةً ما تكون عاطفية؛ «لا يهم حينها إن كان السجين مراهقًا، أم رجلًا ضخم الجثة. الجميع يتصببون عرقًا إلا أنهم رغم ذلك يشعرون بالفخرِ». هذا ما قالته كريستينا عن جلسات إلقاء الشعر التي عادةً ما تختتم بها ورش الكتابة، وقد أنهت حديثها قائلة: «كنتُ أشاهدهم وهم يتحولون أسبوعًا بعد أسبوع إلى أشخاصٍ مختلفين؛ بعد أن منحتهم كلمات الشعر نوعًا من الكرامة لم يعرفوا من قبل بوجودها».
«الشِّعر فعل مقاومة».. قد يؤدي إلى الإبداع أو الموت
يقول الشاعر الأردني، أيمن العتوم، إن السجن قد أسدى إليه نعمة ومنحه بحرًا من حنان، عندما جعل شاعريته تتدفق رغمًا عن القضبان، واصفًا الشعر أنه حرية للروح. وكان العتوم قد أصدر مجموعته الشعرية «نبوءات الجائعين» عام 2012، جامعًا فيها ما كتبه من قصائد داخل محبسه وتعتبر من أدب السجون.
كتب العتوم إهداءً في بداية كتابه، يقول: «إلى الذين استعذبوا قيودهم كي لا يصبحوا عبيدًا»، وقد سجن العتوم حوالي أربع مرات بسبب كتاباته، التي لم يخف الشاعر الأردني فيها من انتقاد السلطة. ونجده في سجنه قد كتب ضمن أبيات الديوان:
«في بلادي
يحكم الأمن الخرافي
وأرباب الملاهي
والكلاب السائبة
كلها تعتبر الشعب أجيرًا ومدانًا».
قد يجعلك هذا الجزء الفائت تظن خطأً أن السجناء يمكنهم بسهولة نشر قصائدهم أو حتى إرسالها إلى العائلة والمُقربين، لكنك ستفاجأ أن الأمر لا يخضع فقط لسُلطة المنع؛ بل من الممكن أن يعرض حياة السجين للخطر. خاصةً وإن كانت قصائده تلك تتناول أمورًا شائكة، مثل الدفاع عن الحقوقِ والحريات، أو الأعمال السياسية، مثلما صرح العتوم بسجنه بسبب ما يكتب.
لكن الكتابة الوطنية وقصائد المعارضة السياسية قد تؤدي في بعض السجون إلى الموت، وهذا ما حدث في سجون الولايات المتحدة الأمريكية في فترة السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، وهذا ما تناولته عدة مقالاتٍ نُشرت على منصة «JSTOR» البحثية؛ أحدهما كان بعنوان «كتابة الشِّعر في السجن فعل مقاومة». وقد كتب في المقال: «على شِعر السجون أن يكون مهذبًا كفاية لتأمين نشره بطريقةٍ تقليدية، أما الأفكار الراديكالية المتمردة التي تهدف لإطلاق الحريات العامة والمطالبة بالحرية الفكرية؛ فإنها عادةً ما تخضع للتدقيق والمصادرة من قبل إدارات السجون».
كاتبة المقال كانت باني مكفادين، وهي مؤلفة خيال علمي ورعب ومحرر مساعد لإحدى مجلات السجون، لكنها أرادت أن تروي من خلال تلك القطعة بالتحديد عن تجارب عمِّها مع كتابة الشعر في السجن، والتي أودت في النهاية بحياته، وهو الشاعر بوبي جين جارسيا، مواطنٌ أمريكي ذو أصول مكسيكية.
كان بوبي جارسيا مُدانًا بجريمة قتل، فتقول باني مكفادين عن ذلك: «كان الشِّعر عزاءه الوحيد من السجن ومن نفسه ومن الجرائم التي ارتكبها». ويمكننا الاطلاع على أعماله في أرشيف جرائد السجون الأمريكية بفترة السبعينيات من القرن الماضي، والتي كان منها مجلة «التنين الأسود الأناركي»، وهي إحدى مجلات السجون الشهيرة التي تأسست في سجن مدينة «والا والا» بولاية واشنطن عام 1977، وناقشت فكرة إلغاء السجون وإلغاء عقوبة الإعدام.
مشاركة بوبي جارسيا في كتابة تلك المجلة التي اشتهرت بنشاطها الشرس والمتمرد ضد إدارة السجون، جعلت منه شخصية معروفة داخل السجن، خاصةً في الفترة التي منع فيها السجناء من كتابة الشعر وممارسة الأنشطة الثقافية باعتبارها ترفًا، حينها ناضل جارسيا كثيرًا من أجل استمرار تلك الأنشطة؛ وبالتأكيد لم يتوقف عن كتابة الشِّعر.
«ليس هناك من أخبارٍ قادمة من العالم الحُر
لا اليوم ولا غدًا
أخذوا آلتي الكاتبة
لأنني أكتب الشِّعر». *بوبي جين جارسيا
عُرف جارسيا داخل السجن ناشطًا سياسيًا في الدفاع عن حقوق الهنود من السكان الأصليين، إذ وعلى الرغم من أن القانون الأمريكي يكفل للسكان الأصليين حرية ممارسة طقوسهم في السجون؛ فإن إدارة السجون الأمريكية كانت لا تسمح لهم بذلك، كما منعوهم هم وأعضاء طائفة «الشيكانوس» -وهي طائفة من ذوي الأصول المكسيكية كان ينتمي إليها جارسيا نفسه- من إطالة شعرهم كما هو معتاد في تلك الثقافات.
كل ما أراده جارسيا وزملاؤه من السجناء هو فسحة تسمح لهم بممارسة معتقداتهم الروحانية بسلام وكتابة الشِّعر، الذي استخدمه في نهاية حياته للتصالح مع نفسه والتكفير عما ارتكبه من ذنوب؛ إلا أن إدارة السجون قابلت تلك المطالب البسيطة بالمقاومة. قص شعره حتى منبته، وصودرت آلته الكاتبة، أما عن كلمات أشعاره فقد تعرضت على الدوام للتدقيق والمصادرة، كما رُفضت طلباته بنشرِ ديوان شعر خاص به. كان ذلك بالنسبة إلى جارسيا يتجاوز سجن الجسد إلى سجن العقل والروح.
حتى محاولة جارسيا في الهربِ من السجن ستفشل، ويضعونه على إثرها في حبسٍ انفرادي مُشدد؛ حيث جرى التخلص منه سريعًا في مشهد نهاية يشبه الانتحار. تقول باني مكفادين أن عمّها وجد مُعلقًا من رقبته بملاءة سرير في زنزانته، وذلك على الرغم من أن إدارة السجون كانت تمنع وضع الملاءات في الزنازين الانفرادية ذات الحراسة المشددة القصوى. ونُشر نعي وفاته في الكثير من صحف السجون. منها نشارك معكم نعي زملائه من محرري «التنين الأسود الأناركي» في 21 ديسمبر (كانون الأول) 1980:
«بالنسبة لأولئك الذين عرفوا بوبي، فهم يعرفون أنه كان رجلًا يتمتع بشخصية قوية ودافئة للغاية. هو مناضلٌ من أجل العدالة. فنانٌ مجتهدٌ. رجلٌ مُحب للطبيعة … لقد كان من نوعِ الرجال الذين لن ينتحروا أبدًا».
«لو أستطيع نقل وحشيّتي»..من أجمل قصائد السجون
عادةً ما تُنشر «قصائد السجون» مُهربة، مثل أدب السجون التونسي في زمن حكم الحبيب بورقيبة، الذي استخدمه الكتاب والمثقفون لكسرِ عزلة السجن المعنوية. ومن أشهر الأمثلة على ذلك كتابات المناضل السياسي والشاعر عمّار منصور الذي ولد في خمسينيات القرن الفائت؛ إذ حملته أفكاره المعارضة إلى ظلمات السجن الذي قضى فيه قرابة ثلاث سنوات بين عامي 1973-1976.
كتب عمّار منصور ليهرب من حيرة ضميره الحائر والمعذب بقضايا الوطن، كما تعتبر تجربة السجن لديه مختلفة عن السجناء الجنائيين، لأنها محنة سببها قناعاته الفكرية، وذلك بحسب تصريحاته الخاصة، فقد كان منصور مستميتًا على الكتابة، حتى نجد قصائد السجن الأولى لديه قد كتبت على أوراق التبغ بواسطة أعواد الثقاب المغموسة في رماد السجائر، وهي القصائد المكتوبة بين عامي 1974-1976، وكان قد كتبها في السجن المدني التونسي، أما أوراق الكتابة هذه فقد كانت وسيلة مناسبة حينها لتهريب القصائد خارج السجن، وهكذا كتب عمار منصور في سجنه هذه الأبيات:
«لو أستطيع نقل وحشيّتي
لو أستطيع نقل حيرتي
لو أنقل الإحساس بالعدم
لو أنقل الإحساس بالألم
لو أنقل الاحساس بالإهانة
إلى جميع النّاس
من هذه الزنزانة..» *عمّار منصور
لم تكن تجربة عمّار منصور هي الوحيدة في كتابة شعر السجون السياسي؛ ففي مصر نجد الشاعر عبد الرحمن الأبنودي وقد كتب إبان سجنه في فترة حكم جمال عبد الناصر الجزء الثاني من القصيدة الطويلة «أحمد سماعين: سيرة إنسان»، والتي نشرت في كتاب كامل، ويقول الأبنودي أن من ساعده في كتابتها كان أحد المعتقلين بعدما سرب إليه «ورق بفرة» وقلم كوبيا ليتمكن من كتابتها.
«التعب الأكبر حزن النفس في آخر العمر
لما تلقاك قضيت عمرك كله لم دقت إلا الحزن.
والعمر بيخلص قدامك.
ومحطته علي بعد الرِّجل
وأنت طالع منها بلا ضحكة..
وبلا حاجة تسر القلب.
تزعل.. وتموت وأنت ماشي..
قلبك ييبس. ولسانك يقعد على القول ما يقومش». *الأبنودي- أحمد سماعين
أما بالنسبةِ للسجناء الجنائيين كاتبي الشعر، فنجد تلك التجربة حاضرة أكثر في الدول الغربية والولايات المتحدة الأمريكية، التي يعتبر الشعر فيها أحد نشاطات السجون، لكن رغم ذلك، نجد هناك أيضًا تجارب القصائد المهربة، للشعراء المساجين الذين أرادوا الاعتراض على السلطة والسجانين، وخشوا على ما قد يتعرضون إليه، وفيما يلي نجد بعض قصائدهم التي وصلت إلينا وقد ذُكرت في بعضها الأسماء الأولى فقط للشعراء من السجناء، للحفاظِ على خصوصيتهم ومجهولية شخصياتهم الحقيقية؛ فلم نعرف عنهم أي سيرة مسبقة، وفي بعض الأحيان اكتفى فقط بذكر اسم السجن وسنة النشر حفاظًا على حياة من هم خلف القضبان.
«تنجرفُ بلا هدفٍ في بحرِ الغيظ
بالكادِ تطفو من بين الكُتلة البشرية
تنقلبُ بسهولة في بحرِ الحزنِ
كل يوم تعيشه بلا أدنى فكرة عن غدٍ» *سجين كاليفورنيا – سبتمبر (أيلول 2006)
____________________
«ليالي وافرة
تمرُ في زنزانتك
بينما تتعفن أنت وتموت في الجحيم
خنازير بلا قلبٍ
تحمل المفاتيح
وفي لمحِ البصر
يركعونك على ركبتيك
لُعبة حياة وموت
حتى روحك رهن الاعتقال
معركة
قلة يفوزون بها
لكن
لزامًا على المرءِ أن يدخلها». *سجين كاليفورنيا – يونيو (حزيران) 2006
_____________________
«البعض يقولون صلّ للمسيح
وفي كل مرة أفكر
أعود للكتابةِ بالقلمِ
تعبتُ
بداخلي مشاعر كثيرة
ولا أحد لأتحدثُ إليه
من يمكنني أن ألجأ إليه
سوى قلمي». *ديكاريو – قصيدة مدمن القلم
____________________
«أتيتُ من الألمِ
ألمٌ داخلي
إنه سبب وجودي
وكيف أصبحتُ رجلًا لا يُلام». *هوسيا- قصيدة أتيت من الألم