ما فعله النازيون خلال الحرب العالمية الثانية هي أمور تتحدث عنها الكتب والأفلام حتى يومنا هذا، وما حير علماء النفس والاجتماع هو رضا قطاع عريض من الشعب الألماني حينها عن تلك الأفعال – التي صُنف بعضها «جرائم حرب» – والتصالح معها نفسيًا؛ حتى اعتنق معظم الشعب الألماني مبادئ النازية، ووقف رافعًا يده  بتحية النازي الكبير، الذي يرفع بدوره يده ليحمسهم، وصيحة «هايل هتلر!» تصدح في الأجواء.

فما هو الدافع النفسي والمعايير الاجتماعية التي حركت الحناجر التي مجدت هتلر؟ في هذا التقرير نذكر لكم بعض الحيل النفسية التي اتبعها هتلر في محاولته للسيطرة على العالم.

روبرت فيسك: بعد زيارة مكتب هتلر.. هناك دروس لم نتعلمها من ألمانيا النازية

1- التلويح بالعقاب ومُداعبة حلم التفرد

في العام 1967 بالولايات المتحدة الامريكية شغل هذا السؤال رون جونز أستاذ علم النفس والاجتماع بإحدى المدارس الثانوية، وكان لديه الفضول للوصول لإجابة توضح له كيف استطاع النازيون السيطرة بهذا الشكل على الشعب الألماني لقناعته أن الشعبية التي تمتع بها النازيون بين صفوف الشعب تستحق أن تكون درسًا في علم النفس والسيطرة على الجموع.

ولذلك أجرى تجربة بدأت بكونها لعبة صغيرة بينه وبين طلابه؛ حتى تحولت إلى تجربة تُدرس حتى الآن في مناهج علم النفس والاجتماع بأمريكا. وشرحها الفيلم الوثائقي «Lesson Plan: The Story of the Third Wave» (أي قصة الموجة الثالثة) بوضوح من خلال شهادة المشاركين في التجربة.

لقطة من فيلم «The Wave» الذي جسد قصة تلك التجربة النفسية

أربعة أيام فقط، هذا كل ما تحتاجه للسيطرة على مجموعة من البشر وتحويلهم إلى أعداء للديمقراطية. تلك النتيجة التي أفزعت جونز نفسه. في اليوم الأول من تجربته أخبر طلابه عن تنظيمه حركة للقضاء على الديمقراطية وأطلق عليها اسم «الموجة الثالثة»، وغيّر أسلوبه الودود معهم إلى أسلوب فظ، مؤكدًا عليهم أن من تلك الساعة عليهم تنفيذ أوامره حرفيًا، ومن يتبع خطاه يحصل على الدرجة الأولى في مادته، ومن يحوز عنه فلا مصير له سوى الرسوب.

شاهد إعلان الفيلم الوثائقي «Lesson Plan: The Story of the Third Wave».

وكانت أوامر اليوم الأول بسيطة، مثل اختصار أسئلتهم وأجوبتها لثلاث كلمات فقط، والجلوس باعتدال على المقاعد، وتحية بعضهم البعض بنفس تحية النازي، وفي نهاية اليوم ظن جونز أن تلك التجربة قد تكون محض سخافة، وعاد للمدرسة في اليوم التالي ليفاجأ بالطلاب ينفذون كل أوامره التي أملاها عليهم بالأمس؛ طمعًا منهم في الدرجة الأولى؛ الأمر الذي شجّع جونز على استكمال التجربة.

وفي اليوم الثاني زادت الأوامر، وأصبحت أصعب، واليوم الثالث الشيء نفسه، وأكد جونز على طلابه الذين لا يعرفوا أنها مجرد تجربة بأن قوانين الموجة الثالثة لا تنطبق على الفصل الدراسي فقط، أو المدرسة، بل في المنزل والطرقات أيضًا، وحذرهم من عقابه إذا علم أن أحدهم حيا زميلة بغير تحية النازية.

وضع جونز حراسًا من الطلبة على كل فصل بالمدرسة، ومنع أي تجمعات طلابية تزيد عن ثلاثة أشخاص، وطلب منهم أن يقيدوا أيديهم من الخلف في حصته الدراسية، وأنشأ شرطة سرية تحاكم من يتمرد على تلك الأوامر.

ولكن ما وجده جونز غريبًا في الأمر ومخيفًا أن تنفيذ الأوامر بدأ مع الطلاب بغرض النجاح في الدراسة، ولكنهم لم يستغرقوا وقتًا طويلًا حتى لاحظ استمتاعهم بالأمر، وحديثهم عنه في المدرسة بفخر، وعليه طلب طلاب آخرون الانضمام للحركة، والتي ليس لها أي وجود من الأساس، وحين وصولهم لليوم الرابع حاول جونز وقف التجربة؛ وقتها خرج الأمر عن سيطرته، خاصة أن أجواء الشك والخيانة وجدت طريقها بين الطلاب في ثلاثة أيام فقط، وكأنهم مجسم صغير من الحياة في ظل النازية؛ فإما أنت معهم، وإما أنت ميت.

«كنت في الخامسة عشرة من عمري، وأردت أن أكون ضمن الجماعة المختارة للدرجات النهائية، وانضم لهؤلاء الثائرين التابعين لمستر جونز، ولكن سريعًا ما أصبح الأمر أكبر من كونه يخص درجات الدراسة، وأصبح مخيفًا لدرجة جعلتني أخشى على حياتي» تصريح لأحد الطلاب المشاركين في التجربة.

 

قرر جونز في نهاية اليوم الرابع أن تلك التجربة يجب أن تنتهي؛ فأخبر الطلاب أن هناك اجتماعًا مُهمًا لأعضاء الموجة الثالثة التي تحارب الديمقراطية، وحينما اجتمع الطلاب مع جونز في إحدى المدرجات كشف لهم عن الأمر، ووضح لهم أنهم كانوا مجرد تجربة من صنعه للكشف عن قدرة من له منبر وسلطة في السيطرة على جمهوره، وأنهى الاجتماع بفيلم تسجيلي عن الأفعال النازية.

مترجم: مذكرات سرية لمسؤول ألماني معارض للنازية.. ماذا قال عن جرائم هتلر؟

 

2- «إننا نتبع الأوامر فقط!».. اجعلهم أداة في يدك

أصبحت تجربة الموجة الثالثة جزءًا دراسيًا من مناهج التاريخ وعلم النفس في أكثر من 32 دولة، منها ألمانيا، واسترعت اهتمام الكثير، سواء من صُناع الأفلام الألمانية والوثائقية، أو على صعيد التحليل النفسي، والذي أظهر أن الدرس المستفاد من تلك التجربة أن النفس البشرية من الصعب عليها مقاومة إغراء مفهوم «العضوية» في جماعة خاصة منعزلة، والتشويق النابع من احتمالية استبعاد الفرد من المجتمع، والتي تغريه – دون وعي – بحلم التفرد.

إلى جانب راحة البال الناتجة عن اتباع الانضباط وتنفيذ القواعد، وكأنه ليس عليه أن يتحمل نتيجة اختياره؛ لأن هناك من أعلى منه مرتبة، وقرروا أن يختاروه فيما بينهم بعضوية نازية، ويأخذوا القرارات بدلًا عنه، ولهذا فإن طاعة الشعب الألماني لقيادات النازية جعلتهم يشعرون براحة كبيرة؛ لأنهم غير مسؤولين عن أفعالهم، وهو الأمر الذي شرحته «تجربة ميلجرام» شرحًا علميًا على عكس تجربة مستر جونز، والتي حظيت بشعبية كبيرة، إلا أنها ظلت حتى الآن تجربة صُنعت على يد هاوٍٍ، ولكن تجربة ميلجرام كان أكثر دقة.

أدولف إيخمان أثناء محاكمته. مصدر الصورة موقع «timesofisrael»

في رسالة أخيرة له بالعام 1962 طلبًا للرأفة كتب منظم الهولوكوست أدولف إيخمان للمحكمة موضحًا أنه وزملاءه الضباط المسئولين عن قتل اليهود لم يكونوا مسئولين عن أفعالهم، بل كانوا مجرد «أدوات تنفذ الأوامر فقط»؛ تلك الحجة التي انتشرت سريعًا في محاكمات النازيين تبريرًا للتهم الموجهة ضدهم.

وفي العام نفسه، وبوحي من كلمات النازيين بدأ عالم النفس الأمريكي ستانلي ميلجرام سلسلة تجارب لاقت شهرة في مجال علم النفس تحت عنوان «دراسة سلوكية عن الطاعة» وكان الغرض منها اكتشاف ما إذا كان البشر لديهم القدرة على إيذاء شخص لا يمت لهم بصلة ولا يعرفونه شخصيًا، إذا كانوا تحت إمرة شخص آخر يأخذ القرارات بدلًا عنهم، وما وجده مليجرام في تجربته هو أن البشر قادرون على ارتكاب القتل والجرائم الأخرى طالما تلقوا الأوامر من شخص يهابونه أو يثقون فيه.

وهو ما أكده طبيب الأعصاب المشارك في الدراسة باتريك هاجارد موضحًا أن تصرف الفرد وفقًا لأوامر شخصًا غيره تضع بينه وبين نتائج تصرفاته حاجزًا نفسيًا، فلا يدرك ما تسبب فيه إدراكًا واضحًا، وينفصل تمامًا عن تلك الأفعال وكأنها من صنع مصدر الأمر، وهو مجرد «أداة»، كما التمس منفذ الهولوكست العذر واصفًا نفسه بذلك.

علم النفس يخبرك: هذه الحيل يمارسها عليك عقلك يوميًّا وقد تسبب لك الاكتئاب

 

3- اقنع نفسك أنك أسمى منهم

كيف يكون ذلك ممكنًا؟ ما هي السياقات الشخصية والمهنية والسياسية التي سمحت للأطباء باستخدام مهاراتهم في التعذيب والقتل بدلًا عن الشفاء؟ ما هي الخصائص النفسية التي دفعت الأطباء للمشاركة في انتهاكات حقوق الإنسان؟ تلك التساؤلات بدأ بها مجموعة من الأطباء النفسيين دراسة بعنوان «الأطباء والتعذيب: دروس من النازية» والتي حاولت فهم الأبعاد النفسية التي عاش فيها أطباء النازية الذين كانوا مسؤولين عن إجراء تجارب على البشر.

وفي كتابه «The Nazi Doctors: Medical Killing and the Psychology of Genocide» (أي الأطباء النازيون: القتل الطبي والإبادة النفسية»؛ أجاب الطبيب النفسي روبرت ليفتون عن تلك الأسئلة أو ما أمكن منها، وكان هذا من خلال محاورة مجموعة من الأطباء السابقين التابعين للنازية والذين تولوا تجارب النازية على البشر والتي وصفت بالوحشية، والتي كان غرضها تقدم الطب،  وحاور – ليفتون – أيضًا مجموعة ممن نجوا من يد هؤلاء الأطباء.

هتلر بين جنوده

ووفقًا لوصف أحد الناجيين لهؤلاء الأطباء فإنهم لم يكونوا «شيطانيين» كما يتخيلهم البعض الآن، ولكنهم على حد وصفه «لم يكونوا ساديين أو متعصبين مثل القتلى الذين تراهم في الأفلام» بل كانوا بشرًا عاديين، وهو الأمر الذي كان أكثر رعبًا بالنسبة لهم؛ فهؤلاء بشر مثلهم تمامًا لا يختلفون عنهم في شيء، ومع ذلك لديهم القدرة الكافية على الإيذاء بوحشية، فأين هو الخط الفاصل بين عيش حياة طيبة وخوض الحياة في لباس القاتل؟

غالبًا ما يُشار إلى أدولف هتلر على أنه رجل مجنون، ويرجع ذلك إلى عدم رغبة البشر في تصديق أن رجلًا عاقلًا قادرًا على ارتكاب تلك الجرائم، وعلى مدار سنوات عديدة ظهرت نظريات حول مرض هتلر العقلي والنفسي والجسدي أيضًا، ولكن في النهاية لم يكن هناك مرض نفسي واحد مسيطر على هتلر، سوى جنون العظمة.

وأوضح طبيب الأعصاب فريتس ويدليش أن ما أظهره هتلر من أعراض نفسية تخص أوهام الاضطهاد والاضطراب العقلي كاف – بحد وصفه – لتأليف كتب كاملة في علم النفسي، ولكن فيما عدا هذا فهو كان شخصًا مُدركًا لأفعاله، مؤكدًا أن هتلر «كان يدرك ما يفعله، ويفعله باختياره، ويفخر بهذا الاختيار»؛ وهذا لأنه أقنع نفسه أنه ومن اتبع سياساته هم أسمى من باقي البشر.

دليل الدكتاتور الناجح في 6 خطوات

4- «كرر الكذبة حتى تصبح حقيقة».. جوبلز ودرس المراوغة النفسية

جوزيف جوبلز كان سياسيًا ألمانيًا وواحدًا من رجال هتلر المُقربين، وكان سوطه الدعائي الذي يلوح به للجماهير، والذي ساعده على تصدير صورة النازي كما تتشكل في أذهان الكثير من الأجيال حتى الآن، وهذا لأن جوبلز كان يملك عقلية دعائية، وخلفية جيدة عن السيطرة على النفسية على الجموع، وتوجت تلك الصفات بـ«كاريزما» أهلته للتحدث أمام الجماهير وإقناعهم.

جوبلز أثناء حديثه للجماهير. مصدر الصورة موقع «artlark»

أدرك جوبلز أن الجماهير تميل لتصديق المعلومات والعناصر التي تعرضوا أكثر من مرة، بغض النظر عن صحتها، ويعود هذا إلى شعورهم بالألفه تجاه هذا الأمر المتكرر أمامهم، ولذلك فإذا كرر أحدهم على أذنيك نفس الكذبة مرات متعددة ومتتالية؛ يميل عقلك إلى تصديق تلك الكذبة، إذا سمعها مرة أُخرى في أي مكان، وهذا عائد لشعوره بالألفة تجاهها، وليس لتصديقه إياها، وتلك الحيلة النفسية التي أدركتها النازية يُطلق عليها في علم النفس «Illusory truth effect»، أو تأثير الحقيقة الوهمية.

توضح  ليزا فازيو، أستاذة علم النفس بجامعة «فاندربيلت» الأمريكية، أن هذا هو النهج الذي استخدمه جوبلز في دعايته عن النازية، مؤكدة أن التكرار من أكثر الوسائل الفعالة للتأثير والسيطرة على الجماهير، وهذا يتطلب من الفرد أن تكون منطقيته صارمة تجاه كل المعلومات الواردة له من المصادر المختلفة من الإعلام والمجتمع المُحيط به.

ولكنها في المقابل توضح أن النسبة الأكبر من البشر يفضلون إصدار الأحكام السريعة، ويقعون فريسة الرسائل المكررة الهادفة لبرمجة العقول على الكثير من الأكاذيب التي تخدم أغراض مُرسلها، وهو الأمر الذي اعتمد عليه هتلر وجوبلز في السيطرة النفسية على الجماهير، ووضح المؤرخ أرسطو طاليس تلك الخطة وكونها إعادة تشكيل الحقيقة من خلال عدسة النظام ونواياه، فمن وجهة نظر الرايخ هم كانوا يروجون الحقيقة الألمانية بدلًا عن الكذب البريطاني.

وهذا ما استغلته النازية لغزو العالم إعلاميًا قبل أن تطأ جيوشهم بقدم على أرض البلاد الأخرى؛ حتى يكونوا مجهزين نفسيًا للانهزام أمام هتلر، وهو ما أكده ألبرت سبير أحد رجال هتلر خلال محاكمته، موضحًا أن ما ميّز النازية عن غيرها من قوى الاحتلال هو استغلال الحيل النفسية في جميع وسائل الاتصالات والدعايا في ذاك الوقت؛ حتى يضعف قدرة المُتلقي على التفكير الفردي، والذي قد يدفعه للانشقاق عن القطيع أو الرايخ في تلك الحالة.

وهو الأمر الذي دفع المؤرخ البريطاني بيرس بريندون بتلقيب السياسة الدعائية لجوبلز بكونها «إنجيل النازية»، وهو الشيء الذي لم ينكره جوبلز حينما صرح قائلًا: «على الرجل الدعائي أن يكون خبيرًا في فهم نفوس البشر.. وأنا أعتبر المسيح أستاذًا في الدعاية»، ولهذا حينما خسرت النازية حربها برر النازيون الأمر بأنهم لم يخسروا الحرب لأنهم لم يطلقوا النار من أسلحتهم بشكل جيد، بل هم خسروا لعدم إطلاقهم أسلحة العقل في الوقت المناسب، ولهذا استطاع النازي تطوير تلك العلاقة القوية والمعقدة التي تمزج بين الخوف والانتماء بين القادة والجماهير، وطبقات القيادة المختلفة في الرايخ.

المصادر

تحميل المزيد