مثل اللقاء الذي جمع قيس سعيد بأمين عام الاتحاد العام التونسي للشغل نور الدين الطبوبي يوم 15 يناير (كانون الثاني) 2021 مناسبة للنقاش في الساحة السياسية التونسية حول خفايا هذا اللقاء وغاياته. يرى البعض أن سعيد لم يعد قادرًا على المواصلة في طريق الانقلاب، وقد استنجد بالاتحاد العام التونسي للشغل حتى يخرجه من ورطته عبر حوار وطني على شاكلة حوار 2013، فيما يرى آخرون أن اللقاء لم يكن سوى محاولة من سعيد لإشراك الاتحاد في مسار التفاهم مع صندوق النقد الدولي عملًا بشروط الصندوق نفسه.

الانقلاب يختنق؟ 

في الوقت الذي تبلغ فيه كتلة الأجور الشهرية 1700 مليون دينار، يتوفر في خزينة البنك المركزي التونسي بتاريخ 19 يناير 2022 – 532 مليون دينار فقط، في المقابل ربط ممثل صندوق النقد الدولي في تونس «جيروم فاشيه» حصول تونس على تمويلات دولية بالقيام بإصلاحات عميقة.

قال فاشيه: «على تونس الساعية للحصول على مصادر تمويل دولية القيام بإصلاحات عميقة جدًّا، بما في ذلك خفض حجم قطاع الوظيفة العمومية الذي يعتبر أحد أعلى المستويات في العالم»، وبالإضافة إلى الوضع المالي الصعب تشهد نسب البطالة والفقر ارتفاعًا في تونس؛ بما ساهم في تصاعد وتيرة الاحتجاجات الاجتماعية، وعلى جانب آخر غادرت 240 شركة خدمية مصدرة كليًا البلاد بسبب إجراءات قانون المالية لسنة 2022، حسب تصريح معز الحريزي رئيس جمعية «تونس تنتج».

في هذه السياقات الاقتصادية الصعبة جاء لقاء سعيد بأمين عام الاتحاد العام التونسي للشغل لأول مرة بعد خمسة أشهر ليفهم البعض أنه تراجع وانفتاح منه نحو منظمة رددت رفضها تفرده بالحكم، وطالبت بالتشاركية.

في هذا الصدد، وحول أسباب اللقاء، يقول عبد الحميد الجلاصي رئيس منتدى آفاق مستقبلية بتون لـ«ساسة بوست» إنه «من الناحية الموضوعية يحتاج قيس سعيد إلى الاتحاد العام التونسي للشغل لأربعة أسباب على الأقل: لكسر حالة العزلة، وللتخفيف من حدة الغضب الاجتماعي القادم، وأيضًا للمصادقة على برنامج الإصلاحات لتسريع المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، ولقطع الطريق أمام تشكيل جبهة معارضة سياسية واجتماعية واسعة».

ويضيف الجلاصي أن الاتحاد بدوره يحتاج إلى الاقتراب من قيس سعيد للعودة إلى موقع التأثير الذي كان له قبل الانقلاب، ولتأمين نفسه من ملاحقات تستهدف عددًا من قياداته في مستويات متعددة، حسبما يقول».

من جهته يقول أسامة عويدات المسؤول الإعلامي لحركة الشعب – المناصرة لقيس سعيد – لـ«ساسة بوست» إن اللقاء «جاء في الوقت المناسب، وكان ضروريًا ومطلوبًا لمصلحة البلاد»، وحول مآلات اللقاء يقول عبد الحميد الجلاصي إنه لا يرجح التوصل إلى صفقة بين الطرفين لأن قيس سعيد لا يؤمن بالشراكة بتاتًا، ولأن الاتحاد لن يقدر على اتخاذ موقف صريح في أية وجهة قبل موعد مؤتمره، ويستبعد أكثر قدرة الاتحاد على فرض حوار أو قيادة جبهة؛ إذ فقد موقع الحكم بسبب موقفه المنحاز للانقلاب منذ البداية، وترحيبه بتجميد البرلمان، واستبعاد نتائج الانتخابات السابقة، بحسب عبد الحميد.

في المقابل يقول أسامة عويدات إنه من المنتظر أن يؤدي هذا اللقاء إلى حوار وطني يجمع المنظمات الوطنية والأحزاب السياسية الداعمة لمسار 25 يوليو (تموز) بهدف نقاش وإقرار جملة من الإصلاحات السياسية والاقتصادية التي تحتاجها البلاد، وعن معارضي الانقلاب يقول عويدات: الحوار يجب أن يقطع مع منظومة ما قبل 25 يوليو 2021، وأمام معارضي مسار قيس سعيد المشاركة في الاستفتاء على مقترحات الإصلاح بالقبول أو الرفض.

انقلاب دون حلفاء

لحظة الإعلان عن الانقلاب صدرت من مصر، والإمارات، والسعودية، وفرنسا مواقف داعمة لإجراءات سعيد، وقد انتظر قيس سعيد وأنصاره ترجمة هذه المواقف إلى دعم مالي ودبلوماسي، لتمر نصف سنة دون أن تحقق له هذه الدول الانتصارات المرجوة.

الواضح أن تركيز السعودية والإمارات على حرب اليمن، وتركيز مصر على سد النهضة، إلى جانب انكباب ماكرون على الإعداد للانتخابات الرئاسية المزمع عقدها في شهر أبريل (نيسان) ومايو (آيار) 2022، جعل من الملف التونسي ودعم الانقلاب غير ذي أولوية بالنسبة لهم.

كما زاد ارتباك الانقلاب وقيامه بعدة أخطاء في الملف الاقتصادي والملف الحقوقي (بالنسبة لفرنسا التي تنتمي للاتحاد الأوروبي) من تراجعها إلى الوراء، وفي هذا السياق أدانت وزارة الخارجية الفرنسية الاعتداءات التي طالت الصحافيين خلال مسيرة المعارضة يوم 14 يناير 2014. 

بينما تعتبر الجزائر – ربما – الاستثناء الوحيد بين هؤلاء؛ فالجار الشرقي لتونس من أهم الأطراف الإقليمية تأثرًا وتأثيرًا في علاقة بالوضع التونسي بما جعلها تنطلق في حملة دبلوماسية معلنة وخفية إثر الانقلاب. 

تحرك الجزائر مرده حالة الانفلات التي يعيشها محيطها، انطلاقًا من الصراع الدائر مع المغرب مرورًا بالتوتر الحاصل في حدودها مع مالي، وصولًا إلى حالة عدم الاستقرار في ليبيا، حيث لا تريد أن تفتح جبهة توتر أخرى في حدودها الشرقية مع تونس.

وفي هذا الصدد صرح وزير خارجية الجزائر رمضان العمامرة قائلًا: إن «ما يؤثر على أمن واستقرار تونس يؤثر على الجزائر»، وفي نفس السياق صرح الإعلامي التونسي المختص بالشؤون الأفريقية علي اللافي لـ«ساسة بوست» قائلًا: «رغم ما تظهره الجزائر من ادعاء الحياد، ورفض التدخل في الشؤون الداخلية التونسية، فإنها وحرصًا على مصالحها الإستراتيجية بالأساس لن ترضى بتواصل تفاقم الأزمة بتونس.

لذلك ووفقًا لمن يرون الموقف الجزائري بهذه الصورة يمكن الربط بين خارطة الطريق التي أعلنها قيس سعيد في 13 ديسمبر (كانون الأول)، والتي جاءت خلافًا لتوقعات أنصار سعيد (حل الأحزاب، حل المجلس الأعلى للقضاء)، بزيارة الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون في يوم الخامس عشر من نفس الشهر، وما سبقها من اتصالات بين الجانبين»، بحسبه

انقلاب يخسر شعبيته؟

كشف استطلاع رأي أنجزته مؤسسة «امرود كونسلتينج» في الفترة بين 26 و28 يوليو 2021، أن نسبة المؤيدين لقرارات قيس سعيد بلغت 87% فيما بلغ نسبة معارضيها 3% فقط . 

ولكن مع اشتداد الأزمة الاقتصادية والاجتماعية دون تقديم حلول لها تتوسع يومًا بعد يوم جبهة الرفض لحكم سعيد لتبلغ نسبة الرضا على أدائه 67% في شهر ديسمبر 2021 بعد أن كانت 82% في شهر يوليو من نفس السنة، وذلك حسب استطلاع رأي أنجزته مؤسسة «امرود كونسلتينج» أيضًا، في الفترة بين 24 و27 ديسمبر 2021، لتبلغ نسبة التونسيين الذين يعتبرون اقتصاد البلاد في تدهور 51%، بعد أن كانت في شهر أغسطس الذي سبقه 18%، ويشير نفس استطلاع الرأي أيضًا إلى ازدياد مؤشر التشاؤم ليبلغ 29%، بعد أن كان 19%.

 فتح باب الحوار أو انتظار الانهيار 

تؤكد «فاينانشيال تايمز» أن المستثمرين قلقون بشأن تونس، مشيرة بأن ديفيد مالباس رئيس البنك الدولي قد حذر من تخلف بعض الدول – من بينها تونس – عن سداد ديونها نظرًا لأنها لا تملك الموارد اللازمة لذلك.

في نفس الاتجاه كشف المنتدى الاقتصادي العالمي «دافوس» في تقريره السنوي صعوبة الوضع الاقتصادي في تونس، والذي جاء فيه بأن تونس ستواجه خلال السنتين المقبلتين مخاطر التداين، وانهيار الدولة، وتفاقم البطالة، وتواصل الركود الاقتصادي، وانتشار النشاط الاقتصادي غير القانوني».

في هذا الصدد صرح عصام الشابي أمين عام الحزب الجمهوري بتونس لـ«ساسة بوست» بأن «تقرير دافوس الذي صنف تونس ضمن خمس دول مهددة بالانهيار من المفترض أن يجعل رئيس الجمهورية يهتم بالمشاكل الحقيقية للتونسيين، على غرار غلاء المعيشة، وارتفاع نسبة البطالة، إلا أن رئيس الجمهورية اختار مواصلة معاركه الشخصية في اتجاه وضع يده على القضاء عبر إصدار قرار حجب منح أعضاء المجلس الأعلى للقضاء».

وفي السياق ذاته أكد نور الدين الطبوبي، أمين عام الاتحاد العام التونسي للشغل، هذه الصعوبات، ويقول في تصريح له بأنه خلال لقائه بقيس سعيد شدد على صعوبة الوضع الاجتماعي، وعلى أن بناء الحياة السياسية يفترض توفير الحد الأدنى من الحياة الكريمة للتونسيين، وعلى أنه في الة عدم توفر هذا الحد الأدنى، فإن ذلك يعني بالطبيعة أن مآل أية ديمقراطية أو أي تحول سيكون الفشل.

وأضاف في نفس التصريح أن اللقاء تطرق أيضًا إلى ملف استقلالية القضاء، وحرية التعبير، وحرية الإعلام، وحرية التظاهر السلمي، مؤكدًا على ضرورة أن تكون هناك اليوم تشاركية مع القوى المدنية والسياسية التي تؤمن بالنظام المدني والمؤمنة بضرورة وضع البلاد على سكة التطور.

هل يتراجع سعيد؟

راجت خلال شهر مايو 2021 – أي قبل شهرين من الانقلاب – وثيقة نشرها موقع «ميدل إيست آي» حول موضوع «التدابير الإستثنائية»، أو ما يسميه معارضو قيس سعيد «انقلاب»، وقد صدقت الأحداث اللاحقة جملة من النقاط الواردة في الوثيقة، على غرار إقالة الحكومة، وتجميد صلاحيات مجلس النواب، ووضع عدد من السياسيين في الإقامة الجبرية. مع تقدم الوقت وجد سعيد نفسه في مواجهة قضاء لم يستجب لجميع طلباته، وقوى سياسية وحقوقية صامدة في معارضة قرارته، بالإضافة إلى ما تعرض له من ضغوط حقوقية ودبلوماسية دولية.

يرى البعض أن عدم مضي سعيد في مواصلة إجراءات منع السفر على جميع السياسيين، وتوسيع دائرة المشمولين بالإقامة الجبرية، وإلغاء الدستور كما ورد في الوثيقة المسربة، وكذلك عدم استجابته لطلبات أنصاره في حل الأحزاب السياسية، وشن حملة أمنية واسعة على حركة النهضة، بالإضافة إلى حل المجلس الأعلى للقضاء، هو تراجع من قبله في اتجاه اختيار مسار أكثر ديمقراطية عما كان مخططًا له.

في حين يرى آخرون بأن سعيد ماض في مسار إعادة البلاد إلى زمن الاستبداد؛ إذ يقول أمين عام الحزب الجمهوري عصام الشابي لـ«ساسة بوست» «طالبت مختلف القوى الحية بإنجاز حوار يعيد البلاد إلى مسار الديمقراطية، إلا أن سعيد ماض في أسلوبه المنفرد نحو السيطرة على جميع مفاصل الدولة وضرب الحريات».

في نفس السياق يقول زهير إسماعيل عضو الهيئة التنفيذية لمبادرة «مواطنون ضد الانقلاب» لـ«ساسة بوست» بأن العودة إلى مسار الديمقراطية «هو من غير الوارد في فكر سعيد، الذي اختار سياسة الهروب إلى الأمام، وأصر على المرور إلى مشروعه السياسي والانفراد بالحكم، وهو في ذلك لا يختلف عن روافده من المنظومة القديمة الذين يجدون فيه واجهة يستطيعون من خلالها تحصين مواقعهم قبل غلق قوس الانقلاب». 

في المقابل يقول المسؤول الإعلامي لحركة «الشعب» أسامة عويدات لـ«ساسة بوست» «بأن الرئيس سعيد قد أعلن بأنه لا مساس بالحقوق والحريات، مضيفًا بأن التراجع عنها غير قابل للنقاش، وأن حزبه لن يقبل بذلك»، معتبرًا في الوقت ذاته «أن الديمقراطية والحريات التي كانت قبل 25 يوليو شعارات جوفاء لأنها مفرغة من المحتوى الاقتصادي والاجتماعي».

الواضح من خلال قراءة في سلوك قيس سعيد وما أبداه من تردد وارتباك منذ 25 يوليو 2021 أن الانقلاب وأنصاره قد خططوا للإجهاز على الديمقراطية بتونس في وقت وجيز، إلا أنه اصطدم بمعارضة واسعة محليًا ودوليًا، ووضع إقليمي لا يحتمل مزيدًا من الانفلات، بالإضافة إلى واقع اقتصادي واجتماعي معوق.

مثلت هذه الظروف حاجزًا أمام الانقلاب، وفرصة أمام معارضيه لتوحيد الصفوف، كما مثلت سببًا في تراجع شعبية قيس سعيد، وتراجع ثقة الجمهور فيه، لكن يبقى من المبكر الحسم بأن يكون ما حصل من تراجع من قبَله مجرد انسحابات تكتيكية، أو تراجع نهائي نحو مسار أكثر ديمقراطية.

المصادر

عرض التعليقات
تحميل المزيد