في الوقت الذي تعيش فيه تونس على وقع أزمة اقتصادية حادة بلغت درجة تأخر غير مسبوق في صرف رواتب الموظفين، صدر الأسبوع الماضي  تقرير دولي عن مجموعة الأزمات الدولية يصنف تونس ضمن «قائمة المراقبة» لسنة 2022، وهي قائمة الدول التي تواجه صراعات مميتة أو حالة طوارئ إنسانية أو أزمات أخرى حسب التقرير.

تزامن ذلك مع استقبال الرئيس، قيس سعيد، وزير النقل ربيع المجيدي، وطالبه بضرورة التسريع بإنجاز الدراسات الأولية الخاصة بالقطار السريع الذي يربط شمال تونس بجنوبها، وفي اليوم التالي صدر بالرائد الرسمي أمر رئاسي يتعلق بإحداث وحدة تصرف حسب الأهداف لتركيز مشروع المدينة الطبية بمحافظة القيروان، وقد مثل الحدثان محاور للجدل في الساحة التونسية بين من يعد هذه المشروعات وهمًا في خيال الرئيس، وبين من يعدها مشروعات لدفع التنمية وتطوير اقتصاد البلاد. 

بلاد على طريق الانهيار 

جاء في تقرير مجموعة الأزمات الدولية أن تونس تعيش وضعية اقتصادية حرجة، فالخزينة العامة للدولة بالكاد تستطيع تغطية الرواتب المستحقة للعاملين في القطاع العام، أو الوفاء بالالتزامات بسداد القروض الخارجية، في ظل ارتفاع دين الدولة، كما ارتفعت الديون الخاصة وتنبه هذه المؤشرات إلى خطر حدوث أزمة مالية ومصرفية خطيرة في المستقبل، مما قد يخفض مستويات معيشة العديد من التونسيين.

يقول حمزة المؤدب، باحث غير مقيم في مركز مالكوم كير– كارنيجي للشرق الأوسط، لـ«ساسة بوست» في تعليق على تقرير مجموعة الأزمات الدولية: «إن التقرير يحذِّر من تدهور الأوضاع في تونس ويقترح  في الوقت نفسه مجموعة من الإجراءات التي تطمح لدفع قيس سعيد للتعامل ببراجماتية مع الوضع، البلد في ضائقة مالية والرئيس يحتاج لدعم مالي حتى ينزل خارطة الطريق التي أعلنها في ديسمبر (كانون الأول)، ومن ثم يطرح التقرير اعتماد الدعم المالي للميزانية الذي يقدمه الاتحاد الأوروبي وسيلة لتشجيع الرئيس على انتهاج نهج يضمن مشاركة واسعة من الأحزاب السياسية في تحديد مستقبل البلد».

ويضيف حمزة المؤدب: «واضح طبعًا عدم الرضا عن خارطة الطريق التي أعلنها سعيد والطريقة الأحادية والانفرادية التي تقع بها إدارة المرحلة الحالية، من ثم ينصح التقرير صانعي القرار الأوروبيين باستغلال مساحات التأثير لضمان عملية تشاركية وجامعة في إعادة بناء المنظومة السياسية والدستورية، لأن البديل في حالة فشل هذه المرحلة بسبب المصاعب الاقتصادية وتعنت الرئيس سيكون تدهور الوضع السياسي والاقتصادي في تونس وارتداد ذلك على الاتحاد الأوروبي بشكل خطير، من خلال تغذية مخاوف الأمن والهجرة».

مشروعات في خيال الرئيس أم من متطلبات الواقع؟ 

هذه السياقات المحلية والدولية التي تعيشها تونس في علاقة بالانسداد السياسي والأزمة السياسية الخانقة، والتي تضيق أفق حلها يومًا بعد يوم، جعلت العديد من الخبراء والمتابعين يتساءلون حول واقعية وجدوى الحديث عن مشروعات كبرى ومطالبة الرئيس فريقه الحكومي بتنزيلها. 

فقد سبق وأن صرح وزير التنمية والاستثمار السابق ورئيس حزب «آفاق تونس» فاضل عبد الكافي حول مشروع المدينة الطبية قائلًا: «هذا المشروع لا نملك تمويله ولا أرض له هذا مشروع موجود في خيال البعض ومن بينهم الرئيس».

وهو نفسه رأي النائب المستقل في البرلمان التونسي عن محافظة القيروان، الصحبي سمارة، في تصريح لـ«ساسة بوست» إذ قال: «إن الرئيس، يستبطن صورة حُكم في ذهنه وحده وشكل دولة افتراضية غامضة لا علاقة لها لا بواقع التونسيين، ولا حتى بأحلامهم، قيس سعيد يعتقد أن الأفكار التي تراوده هي انعكاس للواقع بينما هي من نسج خياله».

وفي المقابل يرى وليد العباسي، عضو المكتب السياسي لحزب التيار الشعبي لـ«ساسة بوست» إن «الاستهزاء بمثل هذه المشروعات دليل على عدم اطلاع هؤلاء المستهزئين على الطرق الحديثة في تمويل المشروعات، على غرار تمويل مطار إسطنبول وقطار البراق في المغرب».

ويضيف العباسي أن مثل هذه المشروعات يمكن أن تكون جاذبة للمستثمرين، فقط المطلوب من الدولة التونسية أن تخرج من الدائرة الضيقة لعلاقاتها المالية التقليدية وتتوجه إلى أسواق وشراكات جديدة على غرار الصين. 

ويرى وليد العباسي أن مناقشة هذه المشروعات يجب أن يتم بعيدًا عن الوضع الاقتصادي الراهن نظرًا إلى عدم ارتباطها بالميزانية، كما يؤكد بأن لهذه المشروعات لو أنجزت عائدات إيجابية كبيرة على البلاد، بالإضافة إلى مساهمتها  في تطوير البنية التحتية وتطوير الخدمات، فتعد هذه المشروعات ذات مردودية تشغيلية عالية؛ وبالتالي مساهمتها في الحد من البطالة أكيدة، بحسبه.

مشروعات الرئيس بين الممكن والجدوى 

الخبير في اقتصاد البنى التحتية، طارق بوعصيدة يتناول المشروعات التي يعد بها قيس سعيد من خلال مقاربة القدرة والفائدة أو الجدوى. وفي حديثه لـ«ساسة بوست» حول مشروع القطار السريع قال إن من المهم التساؤل حول مسألتي القدرة والفائدة.

وأكمل: «بالنسبة للقدرة، لا يمكن تمويل هكذا مشروع إلا عبر التداين الخارجي حيث ستكون المعدات والتكنولوجيات المستخدمة أجنبية وينبغي شراؤها بالعملة الصعبة، وعلى عكس ما يعتقده الكثير لا يزال القطاع العمومي التونسي قادرًا على الاقتراض بنسب فائدة معقولة من مؤسسات التمويل العالمية مثل البنك الدولي أو البنك الأوروبي للتنمية، بشرط أن يكون التداين مخصصًا لتمويل مشروعات استثمارية ذات جدوى اقتصادية مدروسة»

ويضيف طارق بوعصيدة: «أما فائدة المشروع، بكل موضوعية يصعب الإجابة عنها بالإيجاب بالنسبة لبلاد بالتوزع الديموغرافي والجغرافي الذي عليه تونس حيث تتركز أغلب المدن في شريط يمتد 300 كم من الشمال إلى الجنوب وتبعد كل واحدة عن الأخرى بين 50 و100 كم، هذا بالإضافة إلى خصائص الشبكة الحالية التونسية التي لا يمكن أن تقبل مرور القطار السريع ولو على كيلومتر واحد، ومن ثم ستكون الشبكة السريعة بمعزل تام عن بقية الشبكة مما سيضاعف من عزلة الجهات التي لن يتوقف بها القطار السريع، فمن الأفضل تخصيص الموارد المتوفرة لهذا المشروع – إن وجدت-  لتحسين الشبكة التونسية الحالية وتحديثها، حيث إن ثمن إنجاز كيلومتر واحد من السكة السريعة (300 كم/ الساعة،) يمكن أن يغطي كلفة تحديث أربعة كيلومترات من السكة «العادية» (160 كم/ الساعة)، وهي سرعة كافية جدًّا».

وفي هذا الصدد صرح أستاذ الاقتصاد في الجامعة الفرنسية والخبير المالي محمد النوري لـ«ساسة بوست» بأن المشروعات التي أعلن عنها رئيس الجمهورية تبقى مشروعات حالمة غير قابلة للتطبيق، في ظل سياق سياسي متوتر ومناخ اقتصادي غير ملائم، فتونس اليوم تبحث عن منفذ للوصول إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي مع وجود شكوك كبيرة لحصول هذا الاتفاق، وإن تم لن يكون ذلك إلا بعد أربعة أو خمسة أشهر. ويضيف الدكتور النوري أن البلاد اليوم في حالة انهيار مالي شامل وأولوياتها خلاص الرواتب في الآجال، بالإضافة إلى غلق ميزانية 2021، وأيضًا البحث عن موارد الميزانية 2022. 

«مشروعات كبرى لدفع التنمية» 

يقول أحمد الذوادي عضو المكتب التنفيذي لحزب حركة وطن عادل – المساندة لقيس سعيد –  لـ«ساسة بوست» إن مشروع المدينة الطبية ليس وليد اللحظة بل بداية ترتيباته تعود إلى ما قبل انتخابات 2019، وكانت بمتابعة من الرئيس الراحل باجي قائد السبسي وتعطل لعدة أسباب أهمها إعداد دراسة المشروع، ومن ثم إعادة الاهتمام بالمشروع والدفع به يدخل ضمن استمرارية الدولة، خاصة وأن التمويل جاهز ولن يكون على عاتق ميزانية الدولة.

وبالنسبة لمشروع القطار السريع يقول الذوادي إن «إنجازه ممكن عبر تمكين جهة من إنجازه والانتفاع به لمدة زمنية محدودة، كما هو حال أغلب المشروعات في العالم والعوائق الوحيدة التي قد تعترضه هي البيروقراطية الإدارية والمشكلات العقارية، وهي تقريبًا المشكلات نفسها التي عرقلت ولا تزال عديدًا من المشروعات مثل جسر بنزرت وميناء المياه العميقة وغيره»، ويضيف الذوادي أن تونس في حاجة إلى مشروع كبرى تعمل قوة محركة للاقتصاد وتربط بين الجهات ويعتقد اليوم أن وحدة القيادة والقرار  السياسي وانتهاء مرحلة التجاذب ترفع من كفاءة الإنجاز وزمنه.

الربيع العربي

منذ سنة واحدة
هل يتراجع قيس سعيد نحو مسار أكثر ديمقراطية؟

يبدو من خلال النقاش الحاصل حول مدى أهمية المشروعات المقترحة من قبل قيس سعيد وجدواها، أنه وإن كان لهذه المشروعات مردودية اقتصادية تعود بالمنفعة على البلاد، فإن الوضع الاقتصادي التي تمر به تونس يجعل تنفيذها غير واقعي في نظر البعض، خاصة في ظل غياب التمويلات الضرورية لها وتعطل التفاوض مع الجهات المالية المانحة. 

وهو ما أكده أستاذ الحضارة في الجامعة التونسية والباحث في العلوم السياسية وتاريخ الاقتصاد أيمن البوغانمي في تصريح لـ«ساسة بوست» قائلًا: «الغاية من خلال إعلان هذه المشروعات مجرد دعاية شعبوية غابت فيها العلاقة السببية بين الواقع والمنشود». 

 

المصادر

تحميل المزيد