من جديد، تعود المذابح إلى مدن السودان، بعد مقتل وجرح المئات من طلاب مدرسة الثانوية، بمدينة الأبيض، الواقعة في وسط السودان، عقب فض اعتصام تظاهرة انطلقت من المدرسة تجاه وسط المدينة، قبل أن ينتهي حال المشاركين فيها ما بين مصاب وقتيل برصاص قناصة مجهولين وقوات الدعم السريع.
الواقعة التي باتت معروفة إعلاميًا بإسم «مجزرة الأبيض»، غابت تفاصيلها، ووقائع فضها، وصار المعروف هو تحرك المجلس العسكري لاحتواء غضب المدينة الثائرة لمقتل طلابها. في هذا التقرير ينقل «ساسة بوست» وقائع فض المظاهرة «العفوية» التي قادها طلاب من المدرسة الثانوية دون ترتيب مًسبق، وفقاَ لشهود حضروا التظاهرة بالمدينة، وتحدثوا إلى «ساسة بوست».
جيش متواطئ وقناصة مجهولون وقوات الدعم السريع.. هؤلاء نفذوا المذبحة
عند الساعات الأولى من منتصف نهار أول أمس كان خالد عوض، 18 عامًا، برفقة مئات الطلاب الذين يستعدون للخروج من المدرسة الثانوية، بمدينة الأبيض، عاصمة ولاية شمال كردفان في وسط البلاد، كحال الأيام الماضية، للانصراف إلى منازلهم.
غير أن أحاديث زملائه عن مشاكل المدينة من شح في الخبز والوقود خلال تجمعهم في المدرسة، وشكوى خالد وعشرات آخرين من ارتفاع سعر الساندوتش، ورفض سائقي المركبات العامة الالتزام بالتسعيرة المتعارف عليها للطلاب (نصف القيمة)، أدت إلى ارتفاع صيحات هؤلاء الطلاب داخل حوش المدرسة «عفويًا» ضد المجلس العسكري الحاكم، وفقًا لتعبيره.

أحد أفراد قوات الدعم السريع
ومع ارتفاع الصيحات داخل أسوار المدرسة، وخروج مئات الطلاب في مسيرة، كسر رجال كبار وليس طلابًا، باب المدرسة المُخصص لخروج الطالبات، اللاتي انضممن للتظاهرة. بحسب ما حكى خالد لـ«ساسة بوست».
أمر آخر يستشهد به عوض عن عفوية التظاهرة، وأنها لم تكن بترتيب مُسبق، وهو غياب أي لافتات في التظاهرة، وأن الصيحات وأصواتهم كانت وسيلتهم الاحتجاجية الوحيدة خلال هذه التظاهرة. إذ يقول: «المظاهرات لم تنظمها قوى الحرية والتغيير، وكانت عفوية تمامًا، احتجاجًا على تردي الأوضاع في الأبيض، ثم تطورت بعد ذلك لتصير موكبًا كبيرًا تم قمعه بشكل وحشي».
إذ كان مُعتادًا أن تقوم «قوى الحرية والتغيير» بإبلاغ عوض وزملائه بموعد التظاهرات قبلها بيوم؛ ليتحركوا في مسيرات ضخمة دعمًا للدعوة التي باتت معروفة «بمواكب الثانويات»، وفقًا لتعبيره.
ويقول موضحًا: «مواكب الثانويات كانت دومًا ملتزمة بدعوات قوى الحرية والتغيير على مدار الشهور الماضية للتظاهر في المدينة، إذ يتم إبلاغهم عبر لجان الميدان في الخرطوم، وشكلت هذه المواكب عاملًا مهمًا في الضغط على المجلس العسكري».
لكنه يستدرك: «الأمر كان مختلفًا عن المرات السابقة؛ لأنه لم يصلنا أي إخطار بالتظاهر من جانب قوى الحرية والتغيير، فضلًا عن أنه ليس هناك منظومة سياسية داعمة للحرية والتغيير دعت لهذه التظاهرة التي خرجت عفوية».
طالب في عامه الدراسي الأخير بالمدرسة الثانوية، وأحد المُشاركين فيها، تحفظ على الكشف عن هويته لأسباب يبررها باستمرار الحملات الأمنية تجاه الطلاب التي شاركت في التظاهرة، وإخضاعهم للتحقيق، كان شاهدًا آخر على«عفوية» التظاهرة،
فعند وصول التظاهرة لوسط المدينة، كان أفراد يتبعون الأمن ينتشرون أمام سيارة، مُعلقًا عليها رمز لقرون الغزال، ورسومات لجماجم على أبوابها الخلفية، تحمل لوحاتها حروف «ق.د.س»، وهي الحروف المُستخدمة لترميز كافة سيارات قوات الدعم السريع، ومكتوب عليها شعارها: «سرعة.. جاهزية.. حسم».
وحصل مُحرر «ساسة بوست» على أحد مقاطع الفيديو التي توثق إطلاق أفراد الدعم السريع للرصاص الحي تجاه المتظاهرين:
كانت هذه الحروف المكتوبة على السيارات وسيلة الطُلاب للتعرف على خلفية أفراد الامن وتبعيتهم لقوات الدعم السريع، ليواصلوا التظاهرة، والهتاف ضد سياسات المجلس العسكري، قبل أن تبدأ «المجزرة» بإطلاق أفراد الجنجويد وابلًا من النيران تجاه المتظاهرين.
يتذكر الطالب وقائع المواجهة بصوت خفيض تقطعه الدموع: «رجال الدعم السريع بادروا بإطلاق النار في الهواء ولكن بعد قليل سقط جرحى وبعد أن حملت جريح للمستشفى أبلغني شخص آخر أن الدعم السريع صار يطلق النيران على المتظاهرين مباشرة، وأن هناك مصدر نيران من أعلى عمارة بنك الخرطوم، غير معلوم الجهة التي يتبعها».
تطابقت هذه الرواية مع ما يذكره خالد عوض: «قوات الأمن والدعم السريع تصرفت برعونة عندما أطلقت النار على المتظاهرين، وفي الوقت نفسه كان هناك قناصة في عمارة بنك الخرطوم كانوا يطلقون النار، وجرى القبض على بعضهم وهم لا يتبعون جهة نظامية».
مع استمرار أفراد الدعم السريع والمصدر المجهول في إطلاق النيران، كثر عدد الجرحى والقتلي، الذين وصلت أعدادهم نحو ثمانية قتلي من الطلاب، وارتفاع أعداد المصابين لعشرات، وفقًا للتقديرات الرسمية.
ما أثار انتباه عوض وجميع المُشاركين في التظاهرة هو تجاهل أفراد من قوة الجيش المتمركزة أمام بنك الخرطوم لصيحات الاستغاثة من جانب الطلاب تجاه «وحشية» أفراد الدعم السريع، إذ يقول: «ظلوا مرابطين في أماكنهم، ولم يستجيبوا لنداءات الاستغاثة، سواء لمنع أفراد الدعم السريع من قتلنا، أو حتى للحيلولة دون وقوع تخريب من جانب أفراد مجهولي الهيئة، والذي بدأ يطال بنك الخرطوم».
«قوات الجيش تركتنا بلا أي دعم. تواطؤ واضح من حانب أفرادها التي كان واجبها حماية المتظاهرين، غير أنها تخلت عنهم، ورفضت الدفاع عنهم» بحسب تعبير عوض.
كانت هذه هي المرة الثانية التي يرى فيها عوض موقف «متخاذلًا» للجيش – وفقًا لتعبيره – مع الثوار، بعدما حدث في صباح يوم التاسع والعشرين من رمضان الفائت، بمحيط ساحة القيادة العامة بالخرطوم، ساعة فض الاعتصام.
في واقعة فض اعتصام القيادة العامة، لجأ عوض لقوات الجيش من أجل الاحتماء فيهم أو الاختباء لديهم، بعدما استمرت أفراد الدعم السريع في مطاردة الناجين في الشوارع بحثًا عنهم بعد انتهاء فض الاعتصام من أجل «البطش بهم»، غير أن قوات الجيش رفضوا فتح أبوابهم للمعتصمين، مُتحججين «بعدم التدخل سواء بالسلب أو الإيجاب»، على حد قوله.
بُعد آخر تُضيفه رحاب بوليس، الناشطة السودانية، والصحافية المُقيمة بالمدينة، إذ ترى أن أسباب نشوء هذه المذبحة له علاقة بخلفية المدينة السياسية والجغرافية، والتي كانت عاملًا في انتشار أفراد الدعم السريع دومًا في المدينة قبل الانتفاضة.
تشرح ذلك لـ«ساسة بوست» قائلة: «الأبيض قريبة من مناطق النزاع في جبال النوبة ولاية شمال كردفان، وتعد نقطة ارتكاز وتجمع لقوات النظام المتمركزة في ولايتي شمال وجنوب كردفان التي تقاتل الحركة الشعبية هناك. الآن وقف العدائيات تم تجديده لثلاثة أشهر أخرى، ولكن قوات الطرفين موجودة في مواقعها، والأبيض تمثل قاعدة إمداد واستبدال للقوات بصورة دورية في جبال النوبة».
وتُضيف أنه لذلك توجد بها القوات المسلحة والدعم السريع والدفاع الشعبي والأمن بصورة كبيرة تفوق المدن الأخرى.
بقاء قوات الدعم السريع داخل المدينة منذ سنوات طويلة خلافًا للخرطوم التي ظهرت فيها هذه العناصر بعد سقوط البشير، وحجم الانتهاكات التي مورست بحق سكانها، دون أن يكون هناك صوت احتجاجي؛ ساعد على تحول المدينة لواحدة من أكبر المناطق التي تخرج فيها التظاهرات، ودعمت الثورة بكل السوائل من مختلف الفئات العمرية، وفقًا لرحاب.
وحول اضطلاع المجلس العسكري في هذه الواقعة، تُجيب رحاب: «هناك محاولة لتدارك الأمر، ولكن ما يقوم به المجلس العسكري وتصريحات قادته تؤكد عجزهم إن لم يكن تواطؤهم فيما يجري الآن»، مُتسبعدة أن يكون قادة المجلس العسكري الحاكم على معرفة برد فعل الدعم السريع تجاه المتظاهرين.
لكنها تستدرك: «لكن في نهاية المطاف تقع المسؤولية عليهم؛ لأنهم مسؤولون عن أمن ومعاش الناس».
لا تتوقع المصادر السابقة الذي تحدث إليهم «ساسة بوست»، نجاح المجلس العسكري في احتواء غضب المدينة، بعدما شكل لجنة تحقيق مشتركة مع وفد من «قوى الحرية والتغيير»، وزار بعض قادتها المدينة، مؤكدين أن آثار ما وقع ستظل ممتدة لفترة طويلة.