اكتست بيروت بأعلام الدول العربية، وتزينت باللافتات الترحيبية بالوفود العربية، وتحمل اللبنانيين معاناة قفل الشوارع لاعتبارات أمنية، لكن وبرغم هذا الجهد الذي كلف خزينة الدولة اللبنانية مبلغ 22 مليار ليرة لبنانية، يبدو أن القمة التي اختيرت لها بيروت مكانًا، لن تجلب النتائج المرجوة منها، كما حدث في القمة الأولى التي عقدت في الكويت عام 2009، أو الثانية التي عقدت في شرم الشيخ في مصر عام 2011 أو الثالثة في الرياض عام 2013؛ إذ لم يقتصر الأمر على الأزمة التي خلفت إثر حرق العلم الليبي على يد حركة لبنانية، بل سيادة الاعتقاد بأن بيروت باتت «عاصمة جديدة لإيران»، مع إصرار أطراف لبنانية على دعوة سوريا للقمة، والمطالبة بعودتها إلى جامعة الدول العربية، ومناقشة ملف إعمار سوريا، وهي أمور فرضت غياب الزعماء العرب عن القمة.
حرق العلم الليبي.. بداية الأزمة
فيما كان اللبنانيين مشغولين بتجهيز مكان يليق بالقمة العربية الاقتصادية في بيروت التي انطلقت اليوم، 20 يناير (كانون الثاني) 2019، و تحضروا لتقديم أفضل صورة للقمة، أقدم مناصرين لحركة «أمل» الشيعية اللبنانية قبل بضعة أيام، على إنزال العلم الليبي من سارية أعلام الدول المشاركة واستبدلوه بعلم الحزب ثم أحرقوا العلم الليبي، تحت ذريعة الاحتجاج على اختفاء المرجع الشيعي موسى الصدر في ليبيا قبل نحو 41 عامًا.
ومع تدهور الأمور بخلق أزمة لبنانية ليبية وصدور قرار رسمي ليبي بعدم المشاركة في القمة لما بدر من الدولة المضيفة، أدركت الدول العربية المدعوة إلى حضور القمة الهدف من «اللغم الليبي» الذي رماه الحليف الشيعي لحزب الله اللبناني، حركة «أمل»، فلم تقتصر معوقات انعقاد القمة العربية التنموية الاقتصادية والاجتماعية الرابعة على تلك الأزمة؛ فقد توالت اعتذارات الرؤساء العرب عن المشاركة بعد أن أكدوا حضورهم، واكتفوا بانتداب ممثلين لهم من رؤساء وزراء أو وزراء خارجية أو وزراء مالية، و رغم أنه من المفترض أن تشارك نحو 22 دولة في القمة، إلا أن الحضور اقتصر على الأمير القطري، ورئيسي الصومال وموريتانيا.
وتشكل هذه القمة التي تجمع كتل اقتصادية، أهمية كبيرة للبنانيين يأملون منها دفع اقتصادهم وانقاذه من الركود، وتضع القمة على جدول أعمالها 27 بندًا يغطّي كافة المواضيع العربية المشتركة الاقتصادية والتنموية و الاجتماعية. ويعد من أبرز ملفات القمة اتخاذ قرار بدعم الاقتصاد الفلسطيني ووضع خطة محكمة للتنمية في القدس (2018-2022)، وكذلك دراسة التحديات التي تواجهها وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، وتداعياتها على الدول المستضيفة للاجئين الفلسطينيين.
فيما سيكون من نصيب لبنان بحث قضايا الكهرباء وإدارة النفايات الصلبة، وكذلك إطلاق إطار عربي استراتيجي للقضاء على الفقر متعدد الأبعاد 2020 و2030، و استراتيجية إنشاء منطقة تجارة حرة عربية كبرى، وإنشاء السوق العربية المشتركة للكهرباء، وستطرق القمة أيضًا إلى قضية الأمن الغذائي العربي، وتناول الرؤية الاستراتيجية لتعزيز وتفعيل العمل العربي المشترك بين قطاعي السياحة والثقافة، وكذلك إدارة النفايات الصلبة في العالم العربي، وأجندة التنمية للاستثمار في الطفولة في الوطن العربي 2030، والاستراتيجية العربية لحماية الأطفال في وضع اللجوء في المنطقة العربية، وأيضًا بند خاص بالعقد العربي لحقوق الإنسان 2019- 2029، إضافة إلى دراسة الأعباء الاقتصادية والاجتماعية المترتبة على استضافة اللاجئين السوريين، وآثارها على الدول المستضيفة.
الوضع الداخلي في لبنان.. القوة على الأرض لـ«حزب الله»
يلقى الوضع الداخلي في لبنان بظلاله على القمة الاقتصادية العربية، إذ أن وجود حكومة لبنانية مؤقتة ببرلمان غالبيته مؤيد لإيران، أحجم الرؤساء العرب وأمراء الخليج عن المشاركة تعبيرًا عن عدم رضاهم عن الوضع في لبنان، والتي وصلت لحد تهديد رئيس البرلمان اللبناني نبيه بري في حال مشاركة ليبيا في القمة احتجاجًا على قضية الموسوي، إذ قال: «سأقوم بالسادس من فبراير(شباط) سياسية وغير سياسية، فلا يجربوننا» وذلك في إشارة إلى انتفاضة السادس من فبراير 1984 التي قادَها رئيس حركة «أمل» ضدّ حكم الرئيس أمين الجميل، وأفضت إلى إسقاط اتفاق 17 مايو (أيار) 1983 مع إسرائيل.
القمة الحالية في بيروت
أما ما قدمه الأمين العام لـ«حزب الله» حسن نصر الله بشكل تراكمي من هجوم ضد الدول الخليجية، فمن الطبيعي أن يفضى إلى استحالة حضور بعض الرؤساء لأسباب أمنية في بلاد تخضع لقوة سلاح «حزب الله» الحليف الرئيسي للإيرانيين، خاصة أن السنوات الأخيرة كشفت بشكل واضح أن الحزب الذي حقق انتصارًا كاسحًا في انتخابات مايو 2018، بات عملياً بنظرهم أقوى من الدولة اللبنانية سياسيًا وعسكريًا.
يقول المحلل السياسي اللبناني «فرانكو عبدالقادر» أن هناك شبه تقاعس أو ربما عدم اهتمام من رئيسي الجمهورية والحكومة المكلف بإرسال رسائل طمأنة إلى الرؤساء والملوك العرب للتأكيد لهم بأن الوضع في لبنان مستتب وأن الأمن تحت السيطرة ولا من شيء يدعو للقلق أمنياً، وأضاف عبدالقادر: «لم نرى أي رسالة واضحة أو تصريح رسمي لطمأنتهم بذلك، كل ذلك أدى إلى نفور كبير في اعتقادي لدى العرب وإلى عدم اطمئنان للوضع الميداني العام في البلاد».
ويعتقد عبدالقادر أنه بعد فشل هذه القمة سيكون هناك توجه لدى الدول العربية لاعتبار لبنان «محمية إيرانية، حليف لإيران ولنظام الأسد في سوريا»، مضيفًا خلال حديثه لـ«ساسة بوست»: «أتمنى أن لا يكون لذلك مردود سلبي كبير على لبنان واللبنانيين المغتربين والمقيمين في الدول العربية خاصة وأن الوضع في لبنان لم يعد يحتمل أي هزة مالية أو اقتصادية قد تلقي فيه بهوة الإفلاس التي يقف على حافتها ويكاد بين لحظة وأخرى أن يسقط بها».
ويشير عبدالقادر إلى أسباب أخرى تقف وراء فشل القمة، منها العمل الذي قام به شباب حركة «أمل» التابعين لرئيس مجلس النواب نبيه بري، من تمزيق أعلام ليبيا، علاوة على المظاهرات التي قام بها هؤلاء على دراجاتهم النارية في بيروت ووسطها التجاري، إضافة إلى إصرار حلفاء سوريا في لبنان على دعوة بشار الأسد إلى القمة رغم أن ذلك لا يقع تحت سلطات الدولة اللبنانية أو صلاحياتها إذ أن المخوّل بإرسال الدعوات للحضور هو مجلس وزراء الخارجية العرب فقط ولبنان ليس سوى بلد مضيف للقمة وليس أكثر.
رسائل موجهة: «طهران بوابة لبنان» والعالم العربي لم يعد له مكانًا
تطرح قمة بيروت التي تنعقد الآن، وسط غياب واضح لزعماء العرب سؤالًا عن مدى قدرة بيروت على استضافة قمة عربية، تحوز شرعية كاملة من حيث مستوى التمثيل.
الرئيس اللبناني مع حسن نصرالله
ومع عجز الحكومة اللبنانية عن الوقوف في وجه التيار السياسي الذي خلق أزمة العلم الليبي، يكون الجناح الموالي لإيران في لبنان قد نجح بمنع قوى عربية من التواجد في بيروت دون موافقة إيرانية، وهو ذات التيار الذي خلق ذريعة تأجيل القمة إلى حين إعادة سوريا إلى مقعدها.
يقول الصحافي والمرجع الشيعي اللبناني «علي الأمين»: «ثمة إرادة تريد للعرب أن يكونوا ضعفاء في بيروت، وهي تريد أن تقول بطريقة غير مباشرة أن العالم العربي ليس له المكانة التي كان عليها في بيروت»، ويضيف: «لا شك أن ما شاهدناه في بيروت من هذه الاستباحة الميليشيية، وجهت رسالة للعالم أن سطوة الميليشيات ما زالت هي الأقوى من الدولة اللبنانية، فالمواقف التي صدرت بشأن الوفد الليبي وبشأن الإصرار على عودة أو مشاركة سوريا عكست نوع من الضعف والإرباك في الحد الأدنى من تعاطي الدولة اللبنانية، فضلًا عن أن كل ذلك يأتي في سياق توجيه رسالة واضحة للعالم العربي بأن لبنان لا يمكن الدخول إليها من دون استئذان وللأسف الاستئذان يجب أن يكون من طهران».
ويوضح الأمين خلال حديثه لـ«ساسة بوست» أن القمة العربية أريد لها أن تكون قمة فاشلة، فمن الواضح بحسبه، أنه لو كان تعاطي الدول اللبنانية دقيق ودبلوماسي ومحترم لكنا شاهدنا على الأقل شروط قمة أفضل من الذي يحصل اليوم في بيروت، ويضيف: «النقطة المحورية الأساسية التي يجب الانتباه إليها أن لبنان لم يزل تحت سطوة الدويلة التي تحكم البلد وتديرها بشكل خبيث، وبشكل لا ينسجم مع المصلحة اللبنانية وإنما ينسجم مع مصالح إقليمية وبالضرورة هي المصلحة الإيرانية التي تريد أن تؤكد في رسائل واضحة ومشفرة للجميع أن بوابة لبنان ليست بيروت إنما طهران».
تطبيع العلاقات مع الأسد وإعمار سوريا بإيعاز من إيران
«لا عرب من دون الشام»، بهذا العنوان الصحفي أكدت صحيفة «الأخبار» اللبنانية المؤيدة لـ«حزب الله» على إصرار محور الممانعة من لبنان، على عودة الرئيس السوري بشار الأسد بعد استعادته معظم الأراضي السورية بمساعدة إيران، إلى «الحضن العربي» وعلى فرض التقارب مع دمشق على الدول العربية.
بشار الأسد في القمة العربية عام 2002 في بيروت، لبنان
وكان لبنان قد أصرت أن أهم شرط لنجاح القمة الاقتصادية هو وجود سوريا فيها، وبالفعل دعت الرئاسة اللبنانية السفير السوري في لبنان علي عبد الكريم لحضور القمة إلا أنه اعتذر، موجهاً بذلك صفعة ضمنية للبنان، كذلك وقبيل انعقاد هذه القمة تعالت الأصوات اللبنانية القريبة من «حزب الله»؛ تطالب بعودة سوريا إلى الجامعة العربية بعد تعليق عضويتها لمدة سبع سنوات.
وقد قال وزير الخارجية في حكومة تصريف الأعمال اللبنانية جبران باسيل، بشكل صريح أن: «سوريا هي الفجوة الأكبر اليوم في مؤتمرنا، ونشعر بثقل فراغها بدل أن نشعر بخفة وجودها»، وتابع القول خلال الكلمة الافتتاحية التي ألقاها في اجتماع لوزراء الخارجية والاقتصاد العرب تحضيرًا لقمة الجامعة العربية: «سوريا يجب أن تكون في حضننا بدل أن نرميها في أحضان الإرهاب، دون أن ننتظر إذنًا أو سماحًا بعودتها، كي لا نسجل على أنفسنا عارًا تاريخيًا بتعليق عضويتها بأمر خارجي وإعادتها بإذن خارجي».
وكان القادة اللبنانيين قد وضعوا قضية إعادة الإعمار في سوريا بندًا أساسيًا على جدول أعمال القمة، وهي قضية تشير إلى بعد الدبلوماسية اللبنانية عن المنطق بإصرارها على فرض إعادة إعمار سوريا، وهي مسألة أكبر من قدرات العالم العربي مجتمعاً، وتكرس وجهة النظر الدولية التي تؤكد على أن لبنان بات رهينة المحور الإيراني الذي يعمل على إنقاذ النظام السوري.
و يمكنا تفسير الموقف العربي الرافض لعودة سوريا إلى الحاضنة العربية في ظل خطوات التطبيعية الرسمية العربية مع النظام السوري في الفترة الأخيرة؛ إلى ما تفرضه واشنطن على الدول العربية، وقد استدل على ذلك بوجود برقية سرية بعثت بها السفارة اللبنانية في واشنطن إلى بيروت، تتضمّن موقف الولايات المتحدة الرافض لدعوة سوريا إلى القمّة الاقتصادية، لحد تهديد لبنان بفرض عقوبات عليه، في حال دعوته أو مُشاركته في إعادة إعمار سوريا، كما قالت صحيفة «الأخبار» الموالية لحزب الله اللبناني.