بالقرب من مركز توزيع المساعدات التموينية التابع لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين «الأونروا» في مخيم الشاطئ أو «مؤن البحر» كما يسميه السكان، جلس رجل في الثلاثين من عمره غير آبه ببرد «الأربعينية» ينتظر الحصول على طرده الغذائي الفصلي.
ودون أن يتكلم قال له مواطن آخر، بلهجته الفلسطينية «يمكن آخر مرة تستلم هالكابون»، صمت الرجل دون رد، وركب على عربة «الكارو» فوق أكياس الدقيق والعدس والحمص والأرز، يدور في رأسه الكثير من المخاوف في حال حرم من هذا التموين، لم يكن وحده من يشغله أثر تقليص المساعدات الأمريكية للمنظمة، فنسبة كبيرة من السكان تعتمد على المساعدات الغذائية والنقدية التي تقدمها الأونروا، وستتأثر في حال تعليق المساعدات الغذائية التي اعتادوا عليها منذ إنشاء المؤسسة عام 1949.
أزمة الأونروا الأكبر في تاريخها.. وغزة الأكثر بؤسًا
«المنظمة الدولية تواجه أكبر أزمة مالية في تاريخها»، هكذا لخص المفوض العام لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، بيير كرينبول، أزمة المنظمة الناجمة عن تقليص المساعدات الأمريكية السنوية لها، قال ذلك وهو يتحدث عن انطلاق حملة تبرعات عالمية تهدف للحفاظ على جعل مؤسسات الأونروا مفتوحة.

فلسطينيون يحصلون على مساعدات غذائية من الأونروا – غزة.
تُبذل الآن جهود كبيرة لحشد الموارد المالية وتوسيع رقعة الدول المتبرعة في محاولة للإبقاء على خدمات المنظمة تجاه اللاجئين الفلسطينيين، حيث تقدم الأونروا خدماتها لما يقرب من 6 ملايين لاجئ فلسطيني مسجلين لديها، وموزعون في مخيمات داخل فلسطين وفي الدول العربية (الأردن ولبنان وسوريا)، حيث يتلقى اللاجئون الفلسطينيون الرعاية الصحية في مؤسسات المنظمة التي يبلغ عددها 127 مرفقًا موزعة على مخيمات اللاجئين، وكذلك تقدم المنظمة الرعاية الثانوية من التعاقد مع مستشفيات حكومية أو غير حكومية عن طريق رد جزء من تكاليف العلاج والمساهمة فيها، وفيما يتعلق بالتعليم الذي يفضله اللاجئون عن التعليم الحكومي يتلقى أكثر من 525 ألف تلميذ التعليم في 700 مدرسة ابتدائية وإعدادية في كافة مخيمات اللاجئين في الدول الأربع عبر الأونروا، ولدى الأونروا كليات مهنية وتربوية تمنح شهادة بكالوريوس أو الدبلوم ليكونوا فيما بعد مهيّئين للعمل في مؤسسات الوكالة نفسها.
فلسطينيون يتلقون مساعدات غذائية.
ويعد قطاع غزة الأكثر بؤسًا بالرغم من صعوبة الأوضاع في العديد من المخيمات داخل فلسطين وخارجها، فسكان قطاع غزة وبحكم الحصار الذي تجاوز سنواته العشر والعدوان الإسرائيلي المتكرر عليهم هم الأكثر ضررًا من أي تراجع في خدمات الأونروا التي يعد القطاع أكبر ساحة لعملياتها ولموظفيها، حيث يعمل منهم نحو 12 ألفًا في مؤسساتها، وهو ما تظهره أرقام المؤسسة نفسها، فحسب بيانات الأونروا هناك نحو 80% من سكان القطاع يعتمدون على المساعدات التي تقدمها المنظمة، وهو وضع يتحدث عنه حتى الإسرائيليون الذين ينشغلون باحتمال انفجار الأوضاع في القطاع وتبعاته عليهم، ولذلك اعتبر العام 2017 الأكثر صعوبة على سكان القطاع إنسانيًا وحياتيًا، حيث وصلت أرقام الفقر والبطالة لأرقام غير مسبوقة، فخلال الربع الثالث من عام 2017 وصلت نسبة البطالة إلى 46.6 في المائة عند الذكور، فيما كان معدل البطالة للإناث عند 71 في المائة، تبعًا لأرقام الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني.
ويؤكد منسق مجموعة أصدقاء المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان «ماجد الأقرع» على أن وقف مساعدات الأونروا يعني انهيار كافة برامجها خاصة المتعلقة بالطوارئ، كتقديم المساعدات الغذائية لأكثر من 80 ألف نسمة من اللاجئين الفقراء، وكذلك تسريح الكثير من الموظفين وانهيار برنامج التعليم والصحة والبنية التحتية مما يضاعف حالات الفقر والجريمة ويهدد الأمن والسلم في المنطقة برمتها، ويرى «الأقرع» أن المطلوب إنشاء صندوق وطني لإغاثة الأونروا، وإيجاد صيغ دولية وضمان تحويلها لواقع يدعم هذه المؤسسة.
ويشير «الأقرع» خلال حديثه لـ«ساسة بوست» إلى الأزمة المالية الخانقة التي تعرضت لها الأونروا في عام 1973 والتي دفعت الرئيس الفلسطيني الراحل، ياسر عرفات، لإطلاق حملة دولية لإغاثة الأونروا، ويعقب بالقول: «هذه الأزمة تتكرر اليوم، ولكن بوجه سياسي بامتياز من خلال رفض الولايات المتحدة الأمريكية دفع نصف مساعدتها للأونروا وذلك من أجل الضغط على الفلسطينيين لتنفيذ ما يعرف بصفقة القرن».
رضيع يتلقى الرعاية الصحية في مركز صحي تابع للأونروا.
يذكر أن الأونروا تأسست عام 1949 لمساعدة الذين هُجِّروا من بيوتهم إبان حرب 1948، ووفق سجلاتها وصل عدد اللاجئين الفلسطينيين المسجلين لديها في نهاية 2016 إلى نحو 5.9 ملايين، علمًا أن اللاجئين المقيمين في غزة يبلغ عددهم نحو 1.445 مليونًا، ويشكّلون ما نسبته 24.5% من إجمالي اللاجئين ككل، و65.3% من سكان القطاع، ويسجل في الضفة الغربية لدى وكالة الغوث ما نسبته 17% من إجمالي اللاجئين، أي نحو مليون لاجئ يشكلون نحو 26.2% من سكان الضفة، بينما في لبنان يشكل اللاجئون ما نسبته 10% من مجموع اللاجئين المسجلين لدى الأونروا، وحوالي 11% من مجموع سكان لبنان، أما في سوريا فيبلغ عدد اللاجئين الفلسطينيين حوالي 620 ألف فلسطيني، موزعين على نحو تسعة مخيمات تعترف بها وكالة الغوث.
أهداف واشنطون من تقليص مساعداتها للأونروا
«جميع الإدارات الأمريكية ساندت الأونروا منذ تأسيسها عام 1950 وقدمت لها دعمًا قويًا وسخيًا ومتواصلًا»، يبدو أن ما قاله المفوض العام لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، بيير كرينبول، سينهي مرحلته الرئيس الأمريكي الحالي، دونالد ترامب، ويضيف «كرينبول»: «نظرًا للعلاقة التاريخية الطويلة والقوية بين الولايات المتحدة الأمريكية والأونروا، فإن هذه المساهمة المقلصة تهدد أحد أكثر المساعي نجاعة وإبداعًا في مجال التنمية البشرية في منطقة الشرق الأوسط».
فلسطينيات يرفعن صورًا لنتنياهو وترامب تنديدًا بموقفهما.
تعود الأحداث مباشرة لرفض الفلسطينيين والمجتمع الدولي لقرار «ترامب» بإعلان القدس عاصمة لإسرائيل في ديسمبر (كانون الأول) الماضي، إذ عجل الرجل الذي خصصت دولته للأونروا في العام 2017 أكثر من 350 مليون دولار لاستخدام ورقة المساعدات في الضغط على الفلسطينيين، ليقصر المخصّصات المالية لأونروا على مبلغ 60 مليون دولار من أصل 125 مليون دولار كانت ترصدها واشنطن للمنظمة بداية كل عام كجزء من مستحقات ومساهمات لها، إذ يعتبر قرار الدعم قرارًا سياديًا لأي دولة عضو في الأمم المتحدة.
القدس فلسطينية.. ملف «ساسة بوست» لكل ما تريد معرفته عن القرار الأمريكي بشأن القدس
وتوعد ترامب في بداية يناير (كانون الثاني) الحالي، بقطع المساعدة المالية الأمريكية لهؤلاء إذا رفضوا أن يبحثوا مع واشنطن حلًا سلميًا للنزاع مع إسرائيل، وأيضًا في سياق ليّ ذراع منظمة الأمم المتحدة والسلطة الفلسطينية لمواقفهم المناهضة للسياسة الأمريكية، فقضية اللاجئين تعتبر أحد المحاور الأساسية للمفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية، وقد قال ترامب: «الفلسطينيون لا يعترفون بالجميل الذي تقدمه الولايات المتحدة الأمريكية لهم، فضلًا عن أن السلطات الفلسطينية ترفض الجلوس على طاولة المفاوضات مع الإسرائيليين».
يقول مدير عام الهيئة 302 للدفاع عن حقوق اللاجئين «علي هويدي» إن تقليص دعم الأونروا من قبل واشنطن له هدف سياسي، يتمثل في إضعاف الأونروا من خلال تجفيف منابع مواردها المالية وتجميد مبالغ اعتادت أن تدفعها في صندوق الوكالة مطلع كل عام، وهو أمر حسب «هويدي» يتوافق مع الرغبة الإسرائيلية التي تتضح من خلال دعوة نتنياهو إلى ضم خدمات الأونروا للمفوضية العليا، بغية القضاء على قضية اللاجئين، وكذلك لتسهيل العمل على توطين اللاجئ الفلسطيني في أماكن تواجده، إضافة لأن المفوضية بإمكانها العمل على تسجيل أسماء اللاجئين والبحث عن دول في العالم تقبل بتوطينهم دون اختيار منهم ويمكن للعائلة الواحدة أن تتشتت في أصقاع الدنيا.
ويشدد «هويدي» على أن تراجع الأونروا عن تقديم مهامها في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين سيتسبب بفوضى أمنية بسبب تكريس ارتفاع نسبة البطالة والفقر والأمية والمشاكل الاجتماعية، وستنعكس سلبًا ليس على اللاجئين الفلسطينيين وحدهم، بل كذلك على المنطقة العربية والإسلامية وعلى منظومة المجتمع الدولي التي ستتحمل المسؤولية.
ويرى «هويدي» خلال حديثه لـ«ساسة بوست» أن المطلوب هو خطوات جادة فلسطينية رسمية وشعبية وتفعيل هذا الموضوع عربيًا وإسلاميًا، وكذلك حث الدول المضيفة وهي قادرة على لجم الاستمرار في مشروع إضعاف الوكالة على إيجاد حلول، وختم بالقول: «قرار ترامب حول الأونروا لا يقل أهمية عن قراره حول القدس إن لم يَفُقْهُ أهمية، وقد ترجمته إسرائيل بالتمهيد للقضاء على حق العودة».
إسرائيل تريد القضاء على حق العودة
«الأونروا تريد أن تتحدى العالم وتخلق وضعًا يتواجد به أحفاد اللاجئين، ممن يخضعون لرعاية الوكالة دون أن يكونوا لاجئين أنفسهم. وسوف يمضي 70 عامًا أخرى ليصبح لهؤلاء الأحفاد أحفاد آخرون؛ ومن ثم، ينبغي أن تتوقف هذه السخافة»، واحد من عدة تصريحات قالها رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو في معركة يخوضها عقب الموقف الأمريكي بوقف المساعدات عن الأونروا.
لاجئة فلسطينية تعد الخبز.
أخذ «نتنياهو» يؤيد ويدعم بكل قوة قرار ترامب، بتقليص الميزانيات التي ترصدها واشنطن للأونروا، وانكب يدعو لنقل مسؤولية اللاجئين إلى المفوضية السامية للأمم المتحدة لشئون اللاجئين، فقال: «قدمت اقتراحًا بسيطًا بنقل التمويل المخصص لأونروا تدريجيًا إلى مفوضية الأمم المتحدة السامية لشؤون اللاجئين، وذلك لتقديم الدعم للاجئين الحقيقيين، وليس للاجئين وهميين»، كما قال السفير الإسرائيلي لدى الأمم المتحدة، داني دانون، في موازاة لموقف نتنياهو: «الأونروا أثبتت مرارًا وتكرارًا أنها وكالة تسيء استخدام المساعدات الإنسانية للمجتمع الدولي، وتدعم بدلًا من ذلك الدعاية المناهضة لإسرائيل، وتديم محنة اللاجئين الفلسطينيين، وتشجع الكراهية».
وتسعى إسرائيل لإنهاء قضية اللاجئين الفلسطينيين بإنهاء دور منظمة الأونروا، باعتبارها الشاهد القانوني والسياسي على حق العودة، فهي المنظمة الدولية الوحيدة التي خصصت لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين لحين عودتهم إلى ديارهم، فالمنظمة تتيح بشكلٍ روتيني توارث وصف لاجئ عبر الأجيال، وهي لا تزيل من قوائمها أسماء اللاجئين الذين حصلوا على جنسيات من دول أخرى كما يحدث من قبل مكتب المفوضية السامية للأمم المتحدة لشئون اللاجئين.
تقول خبيرة شؤون الشرق الأوسط، بتينا ماركس إنه: «إذا قلص الأمريكيون فعلًا من مساهماتهم لصالح هيئة الأونروا، فإنهم سيتحملون مسؤولية كارثة إنسانية ـ على الأقل في قطاع غزة، وربما في مناطق أخرى يعيش فيها الكثير من الفلسطينيين»، وهي ترى في طلب إسرائيل بحل هيئة الأونروا مطلبًا غير واقعي وتقول لـ«موقع دويتشه فيله»: «لا أرى البتة أي منظمة إغاثة قادرة على تحمل عمل هيئة الأونروا التي لها موظفون يملكون وسائل العمل الضرورية، ولديهم معرفة بالإشكاليات الخاصة باللاجئين الفلسطينيين، والتي لها في الأراضي المحتلة الاتصالات الضرورية مع الإسرائيليين، لأن غالبية مواد الإغاثة التي تستعملها الأونروا مثلًا في قطاع غزة يتم شراؤها في إسرائيل، وحتى المعابر الحدودية وطريق البحر في اتجاه غزة يتم مراقبتها من قبل الإسرائيليين».
كابوس اقتصادي في انتظار فلسطين والحل قد يأتي من الصين!
كافة الخدمات التي ستتوقف الأونروا عن تقديمها في مخيمات اللاجئين نتيجة تقلص موازنتها فعليًا، سيقع تحمل مسئوليتها على السلطة الفلسطينية، فمن كان يتلقى الخدمة في المخيمات الفلسطينية من مؤسسات الأونروا سيتجه عوضًا عنها إلى مؤسسات السلطة من مستشفيات ومدراس ومؤسسات خدماتية، وهو ما لا تستطيع تلك المؤسسات تحمله نظرًا لأعداد اللاجئين الكبيرة.
مدرسة تابعة للأونروا.
يقول الخبير الاقتصادي «نصر عبد الكريم»: «إذا تم فعلًا تنفيذ التهديد بالتأكيد سينعكس ذلك على الاقتصاد الوطني ويحرم الأسر أولًا من مخصصات كانوا يتلقونها، وقد يؤدي ذلك إلى استغناء الأونروا عن خدمات الموظفين والعاملين في مواجهة الأزمة، فلذلك حجم السيولة التي يتم ضخها في الاقتصاد بمختلف القنوات سيتراجع وسيؤثر عليه بالإضافة إلى التأثير الأول ما يدفع بالاقتصاد الفلسطيني ليكون أكثر رمادية بإضافة المزيد من الصعوبات، لكن يبدو محمولًا بمعنى إذا وقفت المسألة عند هذين الإجراءين، لا نتوقع حدوث تغيرات وتداعيات دراماتيكية كبيرة التأثير على الاقتصاد الفلسطيني».
ويضيف «عبد الكريم» لصحيفة «الحياة الجديدة» المحلية: «إذا ما افترضنا أن الإجراءات الأمريكية والإسرائيلية بدأت فعليًا تأخذ مسارها للتنفيذ، فسيرتفع العجز الكلي في موازنة السلطة بلا شك مما كان عليه في السنوات السابقة من 1.5 مليار دولار يغطى منه حوالي 700 مليون دولار من المساعدات، والباقي يبقى عجزًا من دون تغطية وتضطر السلطة للاقتراض من أجل تغطيته وتؤخر بعض الدفعات المستحقة عليها».
وتدرك السلطة الفلسطينية أن الدعم العربي بالرغم من أنه أصبح هامشيًا، قد يصطف إلى جانب الضغط الأمريكي الإسرائيلي لتشكيل ضغط وابتزاز على السلطة والقيادة، لكن هذا الضغط لن يكون له وزن كبير، وهنا يوضح عبد الكريم: «بالنظر للسنوات الماضية فإن معظم الدول العربية لم تف بالتزاماتها وكل له سببه، بعضهم لأسباب اقتصادية وآخرون لأسباب سياسية، لذلك فإن هذا الدعم العربي القائم اليوم حتى لو تم قطعه وهذا ما لا نتمناه ولا نرجوه ولا نأمله، حتى لو حصل ذلك فإنه لا يشكل جزءًا أساسيًا من المساعدات الدولية، ولن يشكل شيئًا إضافيًا جديًا يهدد الاستقرار المالي للسلطة».
ولاعتبارات سياسية أيضًا قد تجد السلطة إضافة إلى بعض الدول الأوروبية، دولًا مثل الصين وروسيا وبعض دول أمريكا اللاتينية، تقدم مبادرة لرفع المساعدات لها لرفضهم مواقف الرئيس الأمريكي وسياساته ومخططاته لحل الصراع، وكذلك لمصلحتهم الإقليمية، فتلك الدول تملك الإمكانيات لتعويض الفلسطينيين عن أي نقص في التمويل، ولكن يجب أن تدفعها الإرادة السياسية.