خلال الحرب العالمية الثانية؛ وقبل هزيمة الحلفاء، اجتمع ممثلو 44 دولة في الولايات المتحدة الأمريكية لمناقشة إقرار اتفاقية «بريتون-وودس» والتي جعلت من عملة الولايات المتحدة الأمريكية (الدولار) العملة التي تمثل احتياطي العالم؛ فقد أنهت الاتفاقية ربط العملات بالذهب بشكل مباشر، وجعلت العملات مرتبطة بالدولار، المقوم بدوره بالذهب؛ لتصبح الولايات المتحدة صاحبة أكبر احتياطي من الذهب في العالم. 

وبدلًا من مراكمة الدول للذهب؛ أصبحت الدول مضطرة لمراكمة الدولار، بناءً على تعهد من الولايات المتحدة الأمريكية أن تلتزم باستبدال الذهب لديها بالدولار لدى الدول الأخرى متى طلبته؛ وفقًا لأسعار الصرف مقابل الدولار، مع عدم وجود حاجة لدى الدول لفعل ذلك، في ظل كون الدولار عملة احتياط العالم. 

لكن وبعد أقل من ثلاثة عقود على توقيع الاتفاقية؛ تعالت أصوات مشككة في قدرة الولايات المتحدة الأمريكية على الوفاء بالتزاماتها وفقًا للاتفاقية، وحصل ذلك بالتزامن مع حرب فيتنام وكُلْفَتها الكبيرة على الحكومة الأمريكية، ما أدى بالكثير من الدول للبدء بطلب تحويل دولاراتهم إلى ذهب، فاضطر الرئيس الأمريكي السابق ريتشارد نيكسون لفك ارتباط الدولار بالذهب، وأدى ذلك إلى بداية عصر تحديد السوق لقيمة العملات بشكل حر. 

ومنذ تلك اللحظة بقي الدولار اليوم متوجًا عملةً احتياطية للعالم، ويبقى أهم عملة في النظام المالي العالمي؛ فعلى سبيل المثال فإن أقل نسبة يسجلها الدولار في 25 عامًا بلغت 60% تقريبًا من احتياطات العالم الأجنبية مقومة بالدولار وفق بيانات صندوق النقد الدولي عام 2020، والدولار هو السائد في أغلب التعاملات المالية في العالم عمومًا، من الديون التي تقوم به؛ إلى مبيعات الطاقة وغيرها.

ولكن مع انخفاض حصة الولايات المتحدة الأمريكية من إجمالي احتياطات العالم، والذي لم يكن أمرًا يحدث بالصدفة؛ بل إن جزءًا منه على الأقل راجع -مثلًا- إلى إجراءات روسيا منذ عام 2014 لتخفيف اعتمادها على احتياطات الدولار، فقللت نسبة احتياطاتها الدولارية من 40% من إجمالي الاحتياطات إلى 14% فقط، ومعها إجراءات أخرى صينية يرى البعض أنها قد تهدد مستقبل تسيد الدولار في الاقتصاد العالمي. 

وصل الأمر إلى وصف هذه المساعي بأنها محاولة لتشكيل «محور معادٍ للدولار» تقوده روسيا والصين؛ ولكنه قد يضم أيضًا دولًا أخرى تعاني من العقوبات الأمريكية مثل إيران وفنزويلا وكوريا الشمالية، وقد يدفع دولًا أخرى في العالم لدخوله أو الاشتراك به ولو لم ترد ذلك نتيجة لأهمية الصين في الاقتصاد، وقوة روسيا في قطاع الطاقة أيضًا، في وجه ما يوصف بأنه رغبة أمريكية بالإبقاء على الوضع الحالي لعملتها، وما تستفيد منه في الاقتصاد العالمي؛ بل الاستفادة السياسية المتمثلة بقدرتها على فرض العقوبات كما في الحالة الروسية.

وفي هذا التقرير نناقش وجهة نظر مختلفة؛ لا تقول فحسب إن «العالم عالق مع الدولار»، بل إنها ترى أن هذا الوضع ليس ناتجًا من الاستفادة الأمريكية من هذا النظام وحدها، أو استعدادها للقتال من أجله، بل هو أيضًا حاجة عالمية ملحة، خصوصًا لدول مثل الصين، ولا يوجد في الأفق ما يشير إلى أنه بالإمكان استبدال هذه العملة في المستقبل القريب.

ليس هذا فحسب؛ بل إن هذه الرؤية تقول إن أكثر سيناريوهات التخلي عن الدولار بصفته عملة للعالم هو إمكانية تخلي الولايات المتحدة عن هذا الدور، لا إجبارها على ذلك، وليس هناك سقوط مصداقية الدولار في العالم بما يمنع استمرار أمريكا في هذا الدور؛ وأكثر من ذلك فإن دولًا مثل الصين ستكون المتضرر الأكبر من مثل هذا السيناريو، على الأقل ما لم يتغير العالم بشكل جذري.

وتعود هذه الرؤية للاقتصادي مايكل بيتيس، الخبير في الاقتصاد الصيني، والمختص تحديدًا في أسواقها المالية؛ وهو أيضًا أستاذ في إحدى جامعات بكين، وزميل غير مقيم في معهد كارنيجي للسلم العالمي، وقبل البدء بعرض رؤيته؛ علينا أن نعرف مفهومين أساسيين هما «الحساب الجاري Current Account» و«حساب رأس المال Capital Account»؛ لأهميتهما في شرح ما سيأتي.

الحساب الجاري Vs حساب رأس المال

يكون الحسابان المذكوران ما يعرف باسم «ميزان المدفوعات Balance of Payment»، والذي يجب أن يساوي صفرًا؛ بمعنى أن الحساب الجاري وحساب رأس المالي يساويان بعضهما بعضًا مع اختلاف الإشارة من الموجب والسالب؛ على الأقل نظريًّا، فقد لا يختلف ذلك في الواقع نتيجة لتقلبات أسعار صرف العملات وتأثيراتها في ميزان المدفوعات. 

Embed from Getty Images

الدولار

«الحساب الجاري Current Account» هو الحساب الذي يسجل فيه التعاملات مع باقي العالم، وتحديدًا تجارة السلع والخدمات، ما تجنيه الدولة من أرباح لقاء استثمارها خارج البلاد بعد طرح ما يجب عليها دفعه للمستثمرين الأجانب داخلها (يسجل فيه الأرباح الناتجة من الاستثمارات لا الاستثمارات نفسها)، وما تدفعه من تحويلات مالية مثل المساعدات المقدمة للدول الأخرى. 

في المقابل؛ فإن «حساب رأس المال Capital Account» يسجل فيه حركة رؤوس الأموال الداخلة والخارجة من البلاد، وهو بالتعريف يجب أن يكون موجبًا إذا كان الحساب الجاري سالبًا، لأن الدولة التي تستورد السلع والخدمات (حساب جاري) ستصدر رأس المالي الذي تحصله من تجارتها لدول أخرى (حساب رأس المال).

هذان التعريفان عبارة عن اختصار لشرح قد يطول عن الحسابين، ولكن المهم أن نتذكر أن الحساب الجاري مكون بالدرجة الأولى من الصادرات والمستوردات، وأنه إن كان موجبًا (بمعنى تحقيق فائض تجاري)، فذلك يعني أن حساب رأس المالي سيكون سالبًا، لأن الدولة التي تصدر أكثر مما تستورد تحتاج استثمار فائضها في الخارج، عن طريق شراء أصول مالية فيها، وهي حالة يمكن فهمها بدراسة العلاقة بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين. 

فالصين من أكبر دول العالم تحقيقًا للفائض التجاري، مما تسبب في امتلاكها حسابًا جاريًا موجبًا، وضخمًا في كثير من السنوات، وهذا الفائض يخزن في النهاية احتياطيًّا أجنبيًّا، فالصين عندما تصدر تقبض ثمن منتجاتها بعملة أجنبية، وتحتفظ بها احتياطيًّا، وهذا الاحتياطي يحتوي وفق بعض التقديرات على نسبة ضخمة جدًّا من الأصول المالية المقومة بالدولار الأمريكي؛ بما لا يقل عن 60% من إجماليه، ولكن الصين لا تنشر هذه البيانات للعامة. 

إذن فالولايات المتحدة تمتلك حسابًا جاريا سالبًا (بالدرجة الأولى بسبب أن مستورداتها أكبر من صادراتها)، ولكنها في المقابل تجتذب استثمارات ضخمة من الخارج لشراء أصولها المالية، ما يرفع من قيمة عملتها، وما يساعد في تمويل الاستثمارات داخلها، ويجعلها مركز جذب للفوائض العالمية، فـ60% على الأقل من أكبر احتياطي في العالم -الاحتياطي الصيني، والذي بلغ قرابة 3.5 تريليونات دولار عام 2021 مستثمر في أصولها المالية، وقد يكون ذلك تعويضًا جيدًا عن الميزان التجاري السالب. 

لماذا يحتاج العالم الدولار عملةً عالمية ولماذا يصعب تغييرها؟ 

في مقاله المعنون «تغيير العملة العالمية يعني تغيير أنماط التجارة العالمية Changing the Top Global Currency Means Changing the Patterns of Global Trade»؛ يشرح بيتيس الأساس الذي تُبنى عليه المعادلة التي تُنتج كون الدولار الأمريكي هو العملة العالمية. 

Embed from Getty Images

الدولار

يقول بيتيس في مقالة أخرى إن الدول المعتمدة على التصدير؛ والتي تمتلك ميزانًا تجاريًّا موجبًا (الصادرات-المستوردات) تمتاز بنمط اقتصادي معين، ينبني على حصة استهلاك نهائي منخفضة من الناتج المحلي الإجمالي، مثل ما توضح بيانات البنك الدولي لكل من ألمانيا، واليابان، والصين (دول ذات ميزان تجاري موجب)، مقارنة بالولايات المتحدة والمملكة المتحدة (دول ذات ميزان تجاري سالب). 

ومعنى ذلك أن العمالة في هذه الدول تأخذ حصة قليلة نسبيًّا مما تنتجه من الناتج المحلي الإجمالي، لتبقى صادراتها أكثر جاذبية من غيرها، وذلك يعبر أيضًا عن إشكالية متعلقة باختلالات الطلب المحلي في هذه الدول؛ فهذه الدول تبقي على استهلاك شعوبها منخفضة لتستطيع الادخار بشكل كبير. 

وفي حالة دولة افتراضية لا تتعامل مع الخارج أبدًا؛ فليس لديها أي صادرات أو مستوردات؛ فإن ادخارها الكلي سيساوي استثمارها الكلي، والأمر نفسه ينطبق على الدول التي تمتلك ميزانًا تجاريًّا متعادلًا؛ بمعنى أن صادراتها تساوي مستورداتها؛ طبقًا للمعادلة التالية: الادخار-الاستثمار= الصادرات-المستوردات Savings-Investments=Exports-Imports

وعليه فإن المدخرات يمكن التعبير عنها بأنها فائض الإنتاج في دولة ما؛ والتي تحتاج لتصديره إلى الخارج لكونه فائضًا عن حاجتها، والعالم باختصار يعاني من اختلال في معدلات الاستهلاك المحلية ومعها معدلات الادخار؛ بحيث إن الصين عندما تحقق ميزانًا تجاريًّا كبيرًا فإنها معه تحقق معدل ادخار مرتفعًا، وتحتاج لتصدير هذه المدخرات إلى الخارج عن طريق شراء أصول أجنبية. 

تحتاج هذه الدول المصدرة إلى اقتصادات أخرى لتخدم بصفتها مكانًا لتفريغ هذه الفوائض، ولتقدم أصولًا مالية تشتريها الدول المصدرة وتمتلكها احتياطات، تستطيع لاحقًا استخدامها عند الحاجة لمختلف الأغراض الاقتصادية، وليس من المنطقي تحويل فوائض التصدير للعملة المحلية مثلًا؛ لأن ذلك يعني زيادة الطلب بشكل كبير العملة، ومن ثم ارتفاع سعرها، ومعها ارتفاع تكلفة شراء المنتجات المحلية، وانخفاض تنافسيتها. 

وتستفيد الصين بتصديرها لهذه المعدلات المرتفعة من الادخار إلى الخارج، وتستفيد الولايات المتحدة الأمريكية عن طريق استقبال رؤوس الأموال الخارجة من الصين، والتي تدخل اقتصادها بوصفها استثمارات ضخمة، وتفيد وفق بيتيس جناحين رئيسيين داخل الاقتصاد الأمريكي؛ وهما السوق المالية الأمريكية أو Wall Street، و«مؤسستا الدفاع والخارجية الأمريكيتين Foreign Affairs and Defense Establishment»، بالمعنى الأعم لكل ما يتعلق بالمؤسستين، لا الوزارتين المعنيتين في الحكومة فقط. 

العالم والاقتصاد

منذ 9 شهور
إستراتيجية «التداول المزدوج».. هل تنجح الصين في اللحاق بالغرب وتجاوزه؟

ولا تستطيع الصين ولا غيرها من الدول التي تعتمد نموذج نمو مدفوعًا بالتصدير التخلي عن هذا النموذج؛ أقلها في المدى القريب، وإن كانت الصين تسعى لرفع حصة الاستهلاك من ناتجها المحلي الإجمالي، ومن ثم حصة عامليها مما ينتجون من الناتج المحلي الإجمالي، رغم كل ما في ذلك من مخاطر وصعوبات، وهو بالتأكيد يتعارض مع نموذج النمو المدفوع بالتصدير، والذي صنع اقتصاد الصين في العقود الماضية، وحتى الاستراتيجية التي تحاول الصين تطبيقها (التداول المزدوج) لفعل ذلك تعتمد أيضًا على التصدير بجزء منها، وسينتج منها فوائض تحتاج لاستثمارها في الخارج كاحتياطات أجنبية لها. 

ولكن لكي تستطيع دولة ما أن تلعب هذا الدور في الاقتصاد العالمي؛ فعلى هذه الدولة أن تمتلك نظامًا ماليًّا واضحًا وشفافًا وغير منحاز لمواطني البلد ضد غيرهم، وليس فيه قيود على حركة رؤوس الأموال، كما أن على هذه الدولة التي تريد لعب هذا الدور أن تسمح لاقتصادها بالحفاظ على ميزان تجاري سالب، وأن تقدم للدول ذات الميزان التجاري الموجب اقتصادًا ضخمًا للاستثمار فيه، وباحتمالية مرتفعة لعدم التعثر عن السداد لاحقًا. 

إذا استثنينا اقتصادات الصين واليابان وألمانيا وروسيا؛ فمن يبقى من اقتصادات العالم الكبيرة التي تمتلك مثل هذه المواصفات غير الولايات المتحدة ومعها دول أخرى تفتقر لضخامة الحجم مثل المملكة المتحدة وفرنسا؟ 

لهذه الأسباب بالضبط ليس هناك من بديل للنموذج الحالي للعالم إلا أن تبقى الولايات المتحدة الأمريكية قائمة بهذا الدور، ومعه أن يكون الدولار هو العملة العالمية؛ فإذا كانت الصين تحتاج للاستثمار في الاقتصاد الأمريكي فبأي عملة أخرى تريد فعل ذلك؟ 

وحتى تستطيع الصين أن ترفع حصة الاستهلاك الداخلي فيها؛ بحيث لا يعود الطلب الخارجي -عن طريق التصدير- هو محرك الاقتصاد والنمو، بل الطلب الداخلي على ما ينتجه المواطنون الصينيون أنفسهم؛ فإن الصين لن تستطيع أن تلعب مثل هذا الدور، بل ستكون محتاجة لأن يلعبه غيرها، وحتى لو فعلت ذلك؛ فالصين لا تمتلك من الميزات الأخرى إلا ضخامة حجم اقتصادها، وهي تفرض قيودًا على رأس المال؛ أو ما يعرف بالـ«Capital Control» تمنعها من لعب مثل هذا الدور ما لم تتخلَّ عنه، والواضح أن الصين تزيد من هذه الإجراءات والسياسات لا تتخلى عنها، بل هي تزيد من مركزية الدولة في الاقتصاد أيضًا. 

البعد السياسي في الحالة الصينية

إحدى أهم حجج بيتيس في مقالته الأخرى عن «التداول المزدوج» ضد قدرة الصين على الوصول إلى معدلات الاستهلاك المحلي المطلوبة هو أن ذلك يعني أن على الصين أن تعيد توزيع الدخول فيها بما يضمن حصول الفرد على حصة أكبر مما يساهم به في الناتج المحلي، وبعيدًا عن الموانع الاقتصادية؛ فهناك مانع سياسي من وجهة نظره أيضًا. 

يتلخص البعد السياسي في صعوبة إعادة التوزيع هذه في أن زيادة حصة المواطنين والعمال مما ينتجون يعني ضرورة نقل مساوٍ أو نسبي للقوة السياسية في الصين من مؤسسات السلطة إلى الشعب، وهو ما يرى بيتيس أنه مرفوض سياسيًّا. 

ولكن لنفكر قليلًا في هذه الحجة؛ فهي تفترض ضمنًا أن القوة السياسية موزعة بشكل أفضل بكثير في الولايات المتحدة -مثلًا- منها في الصين؛ نظرًا إلى ارتفاع حصة الفرد مما يساهم به في الناتج، ونظرًا إلى حصة الاستهلاك من الناتج، والمرتفعة جدًّا فيها مقارنة بالصين؛ ولكنه في جزئية أخرى يقول إن الدور الذي تلعبه الولايات المتحدة في الاقتصاد العالمي، وحقيقة كون الدولار العملة العالمية هو مفيد فقط لجزء من الاقتصاد الأمريكي، وتحديدًا سوقها المالية ومؤسستي الدفاع والخارجية فيها، ويتم على ذلك حساب العمال والمزارعين والمنتجين الأمريكيين.

يقول بيتيس إن المستفيدين من هذه المعادلة لديهم قوة سياسية تسمح بالإبقاء على الأمر الواقع؛ بل تجبر الباقين على دفع ثمن هذه السياسة بطرق كلها سيئة؛ وهي تتلخص بثلاثة خيارات هي: زيادة البطالة، تشجيع الطلب على الديون الخاصة، أو رفع الدين العام، والذي سيتحمله دافعو الضرائب في النهاية، وهم أنفسهم العاملون الذين قد يضطرون لفقدان عملهم، أو لرفع عبء ديونهم الشخصية. 

وإذا أردنا أن نطبق منطق بيتيس في كلامه عن الصين على الولايات المتحدة الأمريكية؛ فإنه لا يسعنا إلا أن نقول إن المستفيدين من الوضع القائم في الولايات المتحدة – على فرض تسليم وجود مستفيدين مطلقين ومتضررين مطلقين- إما يستفيدون من توزيع غير عادل للثروة والدخل في أمريكا؛ بما يسمح لهم بممارسة نفوذ سياسي يبقي على الوضع القائم لصالحهم ضد الأكثرية من العمال والفلاحين والمنتجين، وإما أنهم يمتلكون نفوذًا سياسيًّا بالرغم من وجود توزيع أكثر منطقية في الولايات المتحدة الأمريكية منه في الصين. 

وقد يكون التوزيع الذي نتحدث عنه هنا مختلفًا عما يمكن أن يتوارد لذهننا للمرة الأولى؛ فلا يُستخدم في هذا النقاش المؤشرات المعتادة لقياس توزيع الدخل والثروة، ولكن حصة الاستهلاك من الناتج المحلي الإجمالي، والحصة التي يستلمها الفرد من إجمالي مساهمته في الناتج المحلي، وهي بلا شك أعلى في أمريكا منها في الصين، لكن ماذا قد تكون سيناريوهات تغيير الوضع الحالي على فرض إمكانيتها؟ 

احتمالات اقتصاد عالمي بلا مركزية الولايات المتحدة

هل يمكن أن تصبح العملة الصينية هي العملة العالمية؛ أو على الأقل أن تصبح منافسًا للدولار وجاذبًا لدول كثيرة لاستخدامها بدلًا منه؟ الإجابة هي أن هذه الاحتمالية بعيدة المنال اليوم، ما لم يتغير الكثير في الاقتصاد العالمي أو الاقتصاد الصيني، لكن بيتيس يذكر ثلاثة احتمالات أخرى مع مناقشتها بشكل وافٍ واحتمالًا أخيرًا دون نقاشه بشكل كافٍ ربما؛ لذا سنحاول مناقشته أكثر. 

أولًا: التحول إلى احتياطيات السلع بدلًا من العملات

يقول بيتيس في مقالته إنه بعد العقوبات الغربية على روسيا قد يكون من المنطقي للدول المتصارعة مع أمريكا والغرب عمومًا التوجه نحو بناء احتياطات من «السلع الأساسية Commodities» – وهي مثل السلع المتجانسة مثل النفط والغاز أو السلع التي تدخل في إنتاج سلع أخرى- بدلًا من العملات، لتجنب بناء احتياطاتها من الدولار. 

ولكنه يذكر المشكلة الأهم في ذلك؛ سواء للدول الأكثر تصديرًا لهذه السلع – روسيا وفنزويلا وإيران- أو الدول الأكثر استيرادًا لها مثل الصين التي تعد المستورد الأكبر للسلع في العالم، وهي بالفعل تبني احتياطات ضخمة من السلع بما في ذلك المعادن الثمينة وغيرها. 

وتتمثل المشكلة بأن هذه الدول ستحتاج لشراء الكثير من السلع لبناء احتياطاتها عندما تكون الأسعار مرتفعة؛ لأنها بصفتها دولًا مصدرة للسلع سيرتفع ثمن صادراتها مع ارتفاع أسعارها، ومعها سترتفع أسعار السلع التي تريد شراءها احتياطاتٍ، بينما ستضطر لاستخدام هذه الاحتياطات عندما تنخفض أسعار السلع بشكل عام، لأنه عند انخفاض أسعار السلع ستنخفض إيراداتها من التصدير، ومن ثم ستصبح أكثر حاجة لاستخدام احتياطاتها. 

Embed from Getty Images

الدولار

هذا يعني أن احتياطات هذه الدول ستكون في أعلى قيمتها عندما تكون حاجتها للاحتياطات في أدناها بسبب ارتفاع إيراداتها من التصدير أساسًا، وستكون في أقل قيمة لها عندما تكون في أقصى حاجة لها عندما تنخفض أسعار البضائع، وهو ما يمثل مشكلة لمثل هذه الإستراتيجية.

فهل يختلف الأمر بالنسبة للصين كونها مستوردة للسلع لا مصدرة لها؟ يقول بيتيس إن النتيجة واحدة مع اختلاف الأسباب؛ لأن الصين هي أكبر مستورد للبضائع في العالم، ولأن شراءها للسلع يتناسب طرديًّا مع نموها وتحسن اقتصادها؛ فهذا يعني أنها ستشتري أكثر عندما يكون اقتصادها في وضع جيد، وهذا يعني أن الطلب العالمي سيرتفع بسبب ارتفاع طلب الصين وحدها، وسترتفع معه أسعار السلع، وتزيد قيمة احتياطاتها وهي في أدنى حاجة لها، والعكس صحيح في حالة التباطؤ أو الانكماش الصيني. 

بل إن الصين ستضطر لبناء احتياطاتها عن طريق شراء البضائع وتخزينها بالتزامن مع تزايد ارتفاع أسعارها نتيجة تزايد الطلب الصيني عليها، ثم ستستخدم هذه الاحتياطات بالتزامن مع انخفاض أسعارها بسبب انخفاض الطلب الصيني عليها، فلا يمكن القول إن هذه الإستراتيجية يمكن لها أن تستبدل الدولار ومركزية الولايات المتحدة لتفريغ فوائض الميزان التجاري الذي تحققه دولة مثل الصين. 

ثانيًا: قرار أمريكي!

يقول بيتيس إن النموذج الحالي الذي يستدعي من أمريكا استيراد المدخرات من الخارج؛ وجعل اقتصادها أداة لتفريغ فوائض الدول الأخرى عن طريق جذب الاستثمار يضر بقطاعات واسعة في الاقتصاد الأمريكي، والتي لا تستطيع التنافس مع المصدرين الآخرين مثل الصين وألمانيا واليابان، فالولايات المتحدة تستورد سلعها من هذه الدول وغيرها التي تمتلك ميزانًا تجاريًّا موجبًا. 

هذا يعني أن حصة هذه الدول من إجمالي الإنتاج الصناعي ترتفع على حساب حصة الولايات المتحدة نفسها، لأنها تشتري ما تحتاجه من الخارج وتدير ميزانًا تجاريًّا سالبًا بسبب ذلك؛ مقابل جذبها للاستثمارات في أصولها المالية من الدول الأخرى المصدرة. 

في مقابل هذه الخسارة؛ تضطر الشركات الأمريكية لخفض الأجور للإبقاء على تنافسيتها، أو يضطر الأمريكيون لزيادة ديونهم الخاصة لرفع القدرة على الاستهلاك -لضرورة استهلاك فوائض الدول الأخرى عن طريقهم، أو تضطر الحكومة لرفع ديونها لتنفق هي بشكل مباشر على ذلك، وطبعًا ميزانية الدولة ممولة من دافعي الضرائب، ولكن الولايات المتحدة تحصل على فوائد جيوسياسية وأرباح نتيجة للاستثمارات الخارجية الداخلة إليها؛ خصوصًا ما يتجه منها نحو استثمارات ذات إنتاجية عالية. 

يؤكد بيتيس أن هناك ضررًا يلحق بالاقتصاد الأمريكي لصالح جزئين منه؛ وهما السوق المالية ومؤسستا الخارجية والدفاع، لكن قد تكون القطاعات الأخرى تستفيد بشكل غير مباشر نتيجة لاستفادة هذين الجزئين؛ فالاقتصاد مرتبط بعضه ببعض، ولا بد من أن ينتقل الأثر من جزء لآخر، ولكن ليس بمقدورنا تحديد إذا ما كان هناك استفادة حقًّا، وإذا ما كانت هذه الاستفادة تعوض الخسائر أم لا. 

يقول بيتيس إن الولايات المتحدة قد تتجه يومًا ما إلى التوقف عن أداء هذا الدور في العالم، وهو ما سيترك الدول المصدرة أمام مشكلة احتياطات وفوائض لا تعرف أين تذهب بها، ولكن الولايات المتحدة ستضطر لفعل ذلك لصالح اقتصادها، ويشير إلى أن الولايات المتحدة قد تفعل ذلك عن طريق فرض ضرائب على التدفقات المالية الداخلة إليها، وقد قُدمت طلبات بذلك بالفعل في الكونجرس الأمريكي سابقًا. 

وسيكون أمام الدول المصدرة خمس طرق لامتصاص صدمة مثل هذا القرار؛ لتستطيع الدول استعادة الاتزان بين استثمارها وادخارها، والتكيف مع العصر القادم، والذي لن تظل فيه الولايات المتحدة تدير ميزانًا تجاريًّا سالبًّا، ومعها دول أخرى تلعب الدور ذاته مع صغر حجم اقتصاداتها، بمعنى أن الدول المصدرة لن تجد سوقًا كافية لتصدير سلعها؛ وذلك لكون الولايات المتحدة والدول الأخرى المشابهة لها تمثل 70-75% من إجمالي عجز الميزان التجاري في العالم أي أنها المستورد الأساسي لمنتجات هذه الدول، عدا عن دورها في استقبال فوائض التصدير على شكل استثمارات. 

فإما أن تشهد هذه الدول ارتفاعًا كبيرًا في معدلات البطالة؛ لتضطر البلد لاستهلاك مدخراتها بسبب هذه البطالة، فالعمال العاطلون عن العمل يمتلكون ادخارًا سالبًا، لأنهم يحتاجون لإنفاق المال ليعيشوا، ولكنهم لا يملكون مصدرًا للدخل، ومن ثم يستهلكون مدخراتهم أو مدخرات الاقتصاد بشكل أو بآخر. 

والحالة الثانية هو أن ترفع الدولة الإقراض الشخصي؛ ليزيد الاستهلاك الخاص من قبل المواطنين، ويمتصوا أثر انخفاض الصادرات في العالم بشكل داخلي ولكنه حل غير مستدام طبعًا، أو أن تعوض الحكومة بإنفاقها الخاص عن انخفاض الاستيراد من البلد محققة بذلك عجزًا في الموازنة، وهو أيضًا حل غير مستدام، والحل قبل الأخير هو أن تعيد توزيع الدخل بما يسمح للناس برفع استهلاكهم دون الحاجة للديون مثلًا، ولكنه حل يحتاج وقتًا قد يكون طويلًا، وقد يشهد البلد مشكلات كثيرة قبل تحقيقه، منها المشكلة السياسية التي ناقشناها سابقًا

كل هذه الاحتمالات تعمل بالدرجة الأولى على جانب الادخار في الاقتصاد بتقليله؛ فإذا كانت المعادلة كما يلي: «المدخرات-الاستثمار= الصادرات-المستوردات» وكانت الصادرات تنخفض بسبب القرار الأمريكي؛ فذلك يعني أن على المدخرات أن تنخفض بالقيمة نفسها، أو أن يرتفع الاستثمار، وهو الاحتمال الأخير، وهو ما فعلته الصين بعد الأزمة المالية العالمية لعام 2008، عن طريق رفع الاستثمار من قبل الحكومة، لأن القطاع الخاص لن يزيد من استثماراته مع انخفاض الصادرات ومن ثم انخفاض إيراداته منها؛ على الأقل لن يفعل ذلك قبل أن يرى ارتفاعًا في الاستهلاك المحلي بشكل متحقق، ولكنه أيضًا خيار غير مستدام. 

وطبعًا تستطيع هذه الدول استخدام تركيبة من هذه الخيارات لا خيارًا واحدًا منها فقط، والخيار الوحيد المستدام هو إعادة توزيع الدخل، ولكنه يحتاج وقتًا وجهدًا وله تكلفة عالية اقتصاديًّا وربما سياسيًّا أيضًا، ولذلك فالدول تحتاج للخيارات الأخرى ولو في المرحلة الأولى. 

ثالثًا: عملة عالمية لا تتبع دولة محددة

وهي فكرة اقترحها الاقتصادي الإنجليزي الراحل جون مينارد كينز سابقًا؛ وأسمها «البانكور Bancor» ووضع لها نظامًا كاملًا للتطبيق؛ بحيث إن استخدام هذه العملة سيجبر الدول التي لديها عجز كبير في الميزان التجاري على تخفيض قيمة عملتها – ومن ثم زيادة جاذبية منتجاتها، والأمر نفسه بالعكس سينطبق على الدول ذات الميزان التجاري الموجب. 

يقترح بيتيس حلًّا شبيهًا لاقتراح كينز، وتفرض فيه الولايات المتحدة وحلفاؤها اتفاقيات تجارة جديدة؛ تجبر الدول ذات الميزان التجاري الموجب على حل اختلالات الطلب المحلي لديها بدلًا من تصديره لدول أخرى، ومعه يوزع أثر هذه الاختلالات على الاقتصادات الرئيسية بدلًا من تركزها على اقتصادات معينة فحسب تدفع ثمن هذا النظام.

أخيرًا: الاستثمار في الدول النامية بدلًا من الولايات المتحدة

فمثلًا بدلًا من أن تستخدم الصين فوائض صادراتها باستثمارها في الولايات المتحدة، تستطيع توجيه هذه الفوائض للاستثمار في الدول النامية، وهو أمر جربته الصين بالفعل؛ لكنها بدأت بتخفيضه نتيجة تزايد مخاطر وقوع هذه الدول في التعثر وعدم القدرة على الوفاء بالتزاماتها المترتبة عن استثمارات الصين فيها، ومن ثم خسارة هذه الاستثمارات، كما أن هذه الدول باقتصاداتها الصغيرة جدًّا مقارنة بالولايات المتحدة لا يمكنها امتصاص الفوائض الصينية وغير الصينية الضخمة جدًّا. 

Embed from Getty Images

في مقالة أخرى يفسر بيتيس لماذا تختلف الدول النامية عن الولايات المتحدة على فرض قدرتها على امتصاص هذه الفوائض، ويكمن الفرق في أن استثمارات الصين في الدول النامية قد تعني نقلًا كبيرًا للتكنولوجيا والمهارات الإدارية لهذه الدول؛ ما يعني زيادة إنتاجيتها واستفادة اقتصاداتها بشكل كبير من هذه الاستثمارات بصورة مختلفة عن الاستفادة الأمريكية.

لهذه الأسباب يقول بيتيس إن مثل هذا الخيار غير مطروح أمام الصين؛ ولكن ماذا لو افترضنا قدرة هذه الدول على نقل التكنولوجيا والمهارات الإدارية، وبناء اقتصادات قوية قد يصبح معها من الممكن للصين التكامل مع الدول النامية بحيث تفرغ فيها فوائضها مع تضخم اقتصاداتها تدريجيًّا، ما يعني زيادة قدرتها على امتصاص فوائض الصين، وانخفاض الحاجة للولايات المتحدة. 

عندها أيضا ستنخفض مخاطر التعثر وعدم الدفع لاحقًا، وقد يكون هذا حافزًا للصين لا للاستثمار وتصدير رؤوس الأموال فقط، بل بنقل التكنولوجيا والمهارات الإدارية للدول النامية، وقد تستطيع حينها أن تؤدي دور الولايات المتحدة. 

يقول بيتيس في إحدى ملاحظات مقالته إنه ليس من الضروري للدولة التي تكون عملتها عملة العالم، ويكون اقتصادها مركزيًّا أن تدير ميزانًا تجاريًّا سالبًا؛ ولكن عليها أن تتخلى عن التحكم بحساب رأس المال الخاص بها؛ وأن تقوم بأداء الدور الذي يتطلبه الاقتصاد العالمي؛ فنموذج الولايات المتحدة الحالي يستورد مدخرات الصين ويدير ميزانًا تجاريًّا سالبًا، ولكن حالة بريطانيا السابقة في التاريخ عندما كانت هي مركز العالم كانت معاكسة؛ فقد كانت تدير ميزانًا تجاريًّا موجبًا وتصدر المدخرات للعالم بسبب احتياجها لها. 

قد تستطيع الصين فعل ذلك أيضًا؛ على الأقل هو ممكن فرضًا، فجزء من العالم يحتاج بالفعل لاستيراد هذه المدخرات الكبيرة من الصين بدلًا من تصديرها للولايات المتحدة الأمريكية، ومعها تستطيع هذه الاقتصادات أن تنجز تنميتها وأن تتكامل مع الصين وتخدم اقتصادها بهذا الشكل، ويستطيع الطرفان إنجاز مهام التنمية الخاصة بهما بالتعاون معًا.

ولكن هذا الخيار ما زال صعب المنال، وهذا في النهاية رأي أحد الاقتصاديين في العالم، وقد لا يكون شاملًا لكل وجوه المسألة، وقد يثبت الزمن خطأ بعض تصوراته، وصحة تصورات اقتصاديين آخرين، خصوصًا مع اختلاف رؤيتهم للاقتصاد العالمي وقدرة دول على تحقيق التنمية وعجز أخرى عن ذلك، وتناولهم للحقائق الاقتصادية من زاوية مختلفة تمامًا؛ لكن المؤكد أن رؤية بيتيس تستحق الفهم والتأمل والاستفادة منها.

المصادر

تحميل المزيد