يصعب على حكامنا تلك الأيام إقناع جموع الشعب بأن كل شيء على مايرام مع انتشار الفيضانات والتغير المناخي والتقشف والبطالة والفقر والعنصرية وغير ذلك الكثير.

ومع ذلك، فلايحتاج الحكام لإقناع الشعوب بذلك على الإطلاق، فجل مايحتاجونه للاستغراق في النوم ليلًا هو إقناعهم أنه ما في اليد حيلة. ومع انطلاق حملة التبريرات للرأسمالية والحروب وحالة عدم المساواة، دائما مايظهر شعار “إننا لانستطيع تغيير الطبيعة البشرية”، وترديدها دائمَا وابدَا من قبل أصحاب القوى لتصبح نغمة رنانة في آذان جموع الشعب.

يتصل هذا الشعار صلة وثيقة بالفكرة السائدة أن الثورات دائما تبوء بالفشل متكلين في زعمهم على عدم قدرة الجموع العادية على إدارة المجتمعات. ويصبح بذلك تمكن الشعب من مصادر القوى هو مجرد وهم.

ولذلك، وعلى الرغم من توجه جورج أورويل اليساري الاشتراكي، فإن روايته “مزرعة الحيوانات” لاقت شهرة كبيرة لتدريسها في مناهج التعليم المتوسط، فهي تشير لتدهور الثورة الروسية، لتصبح بعد ذلك الديكتاتورية الستالينية تدهوًرا حتميًا، فهو يرجع بالأساس إلى عدم ذكاء الحصان “بوكسر” وباقي الحيوانات ممن ينتمون إلى الطبقة العاملة.

وبالرجوع إلى الشعار السابق، سوف نجد أنه كلما باءت ثورة ما بالفشل، كلما قويت شوكة هذا الشعار وترسخ في أذهان الجموع الغافلة على أنه الحقيقة المجردة من أي شك. ومع الوضع الحالي والظروف الصعبة التي تمر بها مصر والتيار اليميني الذي يهدف للإطاحة بنظام يانكوفيتش في أوكرانيا، كل تلك الاوضاع تعزز وترسخ الحقيقة السابقة بشكل كبير. وهذا ما اتضح في مقال الكاتب سيمون جنكينز بصحيفة الجارديان بعنوان “الميدان في أوكرانيا .. التحرير في مصر أصبحت ميادين تمثل الفشل لا الأمل”. (صحيفة الجارديان 26-2-2014)

يمكن الرجوع إلى التحليلات الجدلية لسيمون جنكينز لاحقًا، ولنتطرق أولا إلى الزعم بأن الثورات دائمًا ماتبوء بالفشل.

الجذور التاريخية

من السهل تقديم قائمة بكل الثورات التي باءت بالفشل مثل: ثورة الفلاحين عام 1381، وحرب الفلاحين في ألمانيا عام 1952، وكومونة باريس عام 1871، والثورة الأسبانية عام 1936 وهكذا، إلا أن التعميم التاريخي لفكرة أن كل الثورات تبوء بالفشل هي فكرة خاطئة للغاية.

بادئ ذي بدء، يمكن القول بأن عديد من الأنظمة الرأسمالية الجماهيرية الرئيسية هذه الأيام تعود نشأتها في الأصل إلى ثورات ناجحة في الماضي ومن الأمثلة الواضحة لتلك الثورات هي الثورة الهولندية ضد إمبراطوية هسبرج الأسبانية في القرن السادس عشر، والتي أسست جمهورية هولندا في بداية القرن السابع عشر، والتي أدت بالتبعية لقيام دولة هولندا، والثورة الإنجليزية عام 1642-1649 والتي أطاحت بحكم تشارلز الأول وقامت بكسر قوة الملكية المطلقة والأرستقراطية الإقطاعية وفتح الباب أمام الديمقراطية البرلمانية وتطور الرأسمالية في بريطانيا. ومن أمثلة ذلك أيضًا الثورة الفرنسية عام 1789-1794 والتي أزالت رأس الملك لويس السادس عشر وكسابقاتها قامت بكسر الأرستقراطية الفرنسية وإنهاء الإقطاعية في فرنسا. والثورة الأمريكية عام 1775 والتي أعلنت الاستقلال الأمريكي ومهدت الطريق لتطور الولايات المتحدة الأمريكية لتصبح أكبر دولة رأسمالية في العالم.

الجدير بالذكر أن البرجوازية المعاصرة المتمثلة في الطبقات الرأسمالية الحاكمة هذه الأيام والتي تعد من القوى الرجعية في العالم، تشعر بالحرج من جذورها الثورية وتحاول طمسها قدر المستطاع عن طريق تطويع بعض المؤرخين لصالحها. وأصبحت الأشياء تسمى بغير أسمائها الحقيقية، فأصبحت الثورة الهولندية مسماة بـ “التمرد الهولندي” أو حرب الثمانين يومًا وأصبحت تذكر في هوامش التاريخ كما أصبحت الثورة الانجليزية تسمى بـ” الحرب الأهلية” ولم يعد اسمها ثورة مطلقًا. ليس هذا فحسب، ولكن أصبحت الطبقات البرجوازية الإنجليزية المحافظة متحيزة بطريقة أو بأخرى لتابعي الملك تشارلز الأول وضد البيروتانيين المتعصبين تابعي أوليفر كروميل، على الرغم أن أوليفر كروميل هو من وضع الأساس لحكم تلك الطبقة الرجوازية الحالية. وبالمثل، أصبح للمؤرخين، خاصة المؤرخين البريطانيين، نزعة تشويه الثورة الفرنسية العظيمة وتصويرها بأنها مجرد طقوس عربدة لعنف غير منضبط والتي أفرطت في استخدام المقصلة ونشرت الإرهاب عامي 1793-1794.

ولكن لم تنجح كل محاولات الطمس التاريخي في إخفاء حقيقة أن تلك الثورات كانت ثورات حقيقية حشدت لها الجموع الغفيرة من الشعوب والتي أدت إلى الاطاحة بقوة بالنظام القائم ونقل السلطة بشكل حاسم من الطبقة الأرستقراطية الإقطاعية إلى الطبقة البرجوازية لتخلق بذلك نظامًا اقتصاديًا واجتماعيًا جديدًا.

الجدير بالذكر أيضًا أن كل تلك الثورات – ثورات صنعتها الطبقة البرجوازية الرأسمالية وليست الطبقة العاملة – كانت في حد ذاتها ثورات ناجحة بشكل مذهل. فالثورة الهولندية أنشأت الجمهورية الهولندية لمدة 60 عامًا (1600-1660) والتي تعد من اقوى وأنجح النظم الاقتصادية في اوروبا وفي العالم أجمع. قامت الجمهورية الهولندية على أسس الديمقراطية والحرية والتقدم بحسب معايير الوقت المعاصر فقد كانت معقل الثوار والمفكرين والفنانين مثل حركة الـ”ليفيلر” السياسية، والسياسي جون ليلبرن، والفيلسوفان ديكارت واسبينوزا، والرسام “ريمبراندت”.

وفي عام 1660، استعاد الملك تشارلز الثاني حكم إنجلترا، إلا أنه عاد وفقًا لشروط مختلفة غير التي حرص أباه تشارلز الأول على الحفاظ عليها. فقد هزم البرلمان الملك هزيمة نكراء ولم تعد بريطانيا محكومة بالملكية المطلقة بعد ذلك أبدًا. لم تلق قوى البرلمان صعوبة في الاتحاد مع الطبقة البرجوازية بفعل الثورة المجدية في بريطانيا عام 1689 وبها أصبحت بريطانيا هي موطن الثورة الصناعية وأكبر ورشة صناعية في العالم أي أنها أصبحت القوة الرأسمالية المسيطرة في العالم في القرن التاسع عشر.

وعندما نأتي على ذكر فرنسا، فان الثورة الفرنسية لم تكتف بتحويل فرنسا إلى دولة رأسمالية عصرية أو جعل باريس هي العاصمة السياسية والثقافية للقرن التاسع عشر فحسب، ولكنها عمدت إلى إعلاء قيم الديمقراطية والفلسفة السياسية المعاصرة عن طريق ترسيخ مفاهيم الحرية وحقوق الإنسان ثم الاشتراكية.

بالإضافة إلى تلك الثورات وثورات برجوازية أخرى ناجحة (ثورة ميجي في اليابان عام 1868، والثورة المكسيكية 1910-1920 وما إلى ذلك)،فقد شهد القرن العشرون عددًا كبيرًا من الثورات القومية التي أطاحت بالحكم الاستعماري وتبنّت قواعد الاستقلال الوطني. تتراوح تلك الثورات في الفترة من بداية الثورة الأيرلندية التي بدأت بعد انتفاضة عيد الفصح عام 1916 وبلغت الذروة عام 1920-1921، مرورًا بالثورة المصرية عام 1919، والثورة الصينية عام 1949، والثورة الكوبية عام 1959، والثورة الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي من عام 1954 حتى 1962، والثورات ضد الحكم البرتغالي في أنجولا، والثورة في غينيا بيساو، والثورة في موزمبيق وغيرها الكثير.

فكيف بعد هذا السرد التاريخي لكل تلك الثورات الناجحة أن يظل لادعاء “أن الثورات دائما تنتهي بالفشل” هذا الصدى القوي؟ الإجابة على هذا السؤال تتلخص أن أيًا من تلك الثورات لم تؤسس مجتمعًا تسود فيه المساواة والحرية كما تزعم كل ثورة منها أنها فعلت.

ثورة الطبقة البرجوازية وثورة الطبقة العاملة

لتفنيد هذه المسألة، فلابد من ذكر الفرق بين ثورة الطبقة البرجوازية في الماضي وثورات الطبقة العاملة في الوقت المعاصر. الثورة الهولندية والإنجليزية والأمريكية والفرنسية هي ثورات ناجحة تحررية ولكنها لم تنجح في نشر المساواة الاقتصادية أو القضاء على الطبقية. قامت تلك الثورات بتبني خطاب “تساوي الحقوق” فقط لكسب الدعم الشعبي، أما في حقيقة الأمر، فقد قامت بنقل السلطة إلى طبقة أخرى وهي الطبقة البرجوازية الرأسمالية وهي طبقة مستغلة بطبعها لم تكن لتقوم لولا وجود الطبقة العاملة لمؤازرتها من الخلف. لذلك تقوم كل ثورة من هؤلاء بإطلاق شعارات تحقيق الديمقراطية الدستورية الرسمية والحقوق القانونة المتساوية (إلا أنها لم تحقق أيًا من ذلك على أرض الواقع).

ينطبق هذا أيضا على عدد من الثورات المقاومة للاستعمار والثورات القومية التي تم ذكرها بالسابق. فقد قامت تلك الثورات القومية لأسباب تاريخية بتبني لغة تدعو إلى التغيير الجذري أكثر من الثورات البرجوازية، حتى أنها قامات بتسمية نفسها ثورات شيوعية أو ماركسية ومن أمثلة ذلك الثورة الصينية والثورة الكوبية. ولكن بعيدًا عن الشعارات الرنانة وفي حقيقة الأمر، فقد ظلت تلك الثورات تحت قيادة الطبقة الوسطى لا الطبقة العاملة، بل ونقلت السلطة إلى تلك الطبقات الوسطى و كل ما استطاعوا فعله هو إقامة دول تقطنها مجتمعات رأس مالية مستقلة والتي لم تكن مجرد مجتمعات طبقية بل مجتمعات خاضعة لكل أشكال الضغوط المدمرة للسوق العالمي الرأس مالي.

ومع ذكر ماسبق، لابد من الإتيان على ذكر الفلاحين، فمنذ 5000 عام مضى، ومع تطور الصيد والزراعة، شكل الفلاحون الغالبية العظمى من عدد سكان العالم. لذلك كان من الحتمي أن يمثل الفلاحون العدد الأكبر، إن لم يكن معظم العدد في بعض الأحيان، في تشكيل الثورات كما كان الحال مع الجيوش الثورية التابعة لبانشو فيا وايميليانو زاباتا في الثورة المكسيكية وكما كان الحال أيضًا مع الجيش الأحمر التابع لـ “ماو” في الصين وفيديل كاسترو مع فرقة الغوريلا التابعة له في كوبا.

ومع ذلك، وعلى الرغم من قدرة الفلاحين على الحرب بقوة وشراسة ضد الأنظمة القديمة وأصحاب الأراضي والمستعمرين، إلا أنهم لم يمثلوا قوة ثورية بشكل ناجح حيث أنهم لم يستطيعوا التحكم في المجتمع الجديد الذي ينبثق من أية ثورة ناجحة. لم يرجع هذا الضعف إلى انتفاء القوة أو الذكاء أو مايتعلق بحالتهم الحياتية، إلا أن القوة في أي مجتمع تعتمد في النهاية على التحكم في قوى الإنتاج والتي تتواجد في المجتمعات المعاصرة في المدن. والفلاحون، على حسب تعريف الكلمة، متواجدون في الريف. بعد المشاركة في الثورة أو في الجيش الثوري، حتى وإن قامت تلك الثورة بغزو المدن، يعود الفلاحون في نهاية الأمر إلى الريف مخلفين وراءهم شخصًا ما لأدارة شؤون المدن وبذلك المجتمع. وبطريقة نظامية، يخطو هذا الشخص أولى خطواته لتشكيل الطبقة الحاكمة الجديدة (حتى وإن أطلقت تلك الطبقة على نفسها مسمى ماركسية أو شيوعية).

وعلى عكس الفلاحين، فتجد الطبقة العاملة أو البروليتاريا – التي تحيا على قوة عملها – متمركزة بشكل أساسي في الأماكن الصناعية الكبرى – بما تتضمنه من المصانع أو مراكز الاتصال، ورش ترميم السفن أو مكاتب المجلس – وأيضًا متمركزة في المدن الكبيرة حيث توجد مصادر القوة الحقيقة للمجتمع. ومع انتشار الرأسمالية في العالم، زاد عدد أفراد الطبقة العاملة بشكل كبير وبهذا يشكلون معظم عدد سكان العالم ومعها تجد انتشار المدن الكبرى مثل ساو باولو، ولاغوس، والقاهرة، ومومباي، وشنجهاي، وسيول في كل قارة في العالم حيث تعتمد كل قوى الإنتاج الحديثة على عملهم. فبدون الطبقة العاملة، لن تُجمع سيارة واحدة أو حاسب آلي واحد، لن يتوفر عمال للعمل في أي سوبر ماركت أو محل، لن تُفتح مدرسة أو مكتب ولن يتحرك قطار أو أتوبيس أو طائرة.

كل هذه العوامل تعطي الطبقة العاملة قوة محتملة هائلة، قوة لن تستطيع فحسب هزيمة الرأسمالية ولكنها قوة تخولهم أيضا بناء وحكم أي مجتمع ينشأ بعد ذلك وبطريقة ديمقراطية للغاية. فالطبقة العاملة هي أول طبقة مضطهدة تاريخيًا والتي لديها القدرة على تشغيل مجتمع دون استغلال أو اضطهاد الآخرين.

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، أتستطيع الطبقة العاملة الحفاظ على فرض سيطرتها الديمقراطية على قادتها، ألن يواتي الحظ بعض المستبدين للخروج من بين هذه الطبقة لتولي زمام الأمور في نهاية الأمر؟ طرح هذا السؤال يثير مسألة الطبيعة البشرية المذكورة في بداية هذا المقال، وكذلك إحضار مصير الثورة الروسية وتحولها إلى الدكتاتورية الستالينية.

لماذا فشلت الثورة الروسية؟

لإعطاء مساحة من الفهم، فسأتطرق وبإيجاز لمسألة الطبيعة البشرية. يزعم البعض عادة أن الطبيعة البشرية تتميز بالجشع والأنانية مما يجعل مسألة ترسيخ المساواة شيئًا مستحيلًا ولكن هذا ادعاء خاطئ حيث أن الطبيعة البشرية طبيعة متغيرة، فهي تتغير وتتطور بتغير وتطور الظروف المحيطة. وبالمعرفة المترسخة في أذهاننا أن الصيادين وجامعي الثمار عاشوا في مجتمعات تسودها المساواة والديمقراطية لعشرات الآلاف من السنين قبل وجود الطبقية، فيصبح من الصعب أن نصدق ان الطبيعة البشرية ضد المساواة بالفطرة.

بشأن الثورة الروسية، فمن الضروري أن ندرك أن خروجها من عباءة الثورة لتأخذ حيز الاستبداد هي واحدة من الأسباب الرئيسية التي تجعل الكثير من الناس يعتقدون أن الفشل هو مصير كل الثورات. فالثورة الروسية وعلى الرغم من كل شيء كانت أعظم ثورات القرن العشرين وهي الثورة الوحيدة التي نجحت فيها الطبقة العاملة في الاستيلاء على السلطة والبدء في عملية بناء الاشتراكية. ينظر لهذه الثورة على أنها حتمًا حالة اختبار لجميع الثورات.

ولكن في ظل الظروف المادية القاسية التي عاشتها الثورة الروسية في السنوات التي تلت 1917، فكانت انتكاستها حتمية وهذا ماتوصل إليه وتوقعه لينين وتروتسكي وغيرهم من الماركسيين في ذلك الوقت. ولنذكر سويًا بإيجاز هذه الظروف:

 قبل الثورة كانت روسيا هي القوة العظمى الأكثر تخلفًا من الناحية الاقتصادية في أوروبا. وكانت الأغلبية الساحقة من سكانها من الفلاحين، مع الطبقة العاملة التي شكلت أقل من 10% من تعداد السكان.

أدت الحرب العالمية الأولى إلى تدمير الاقتصاد الروسي ثم ما لبث إلا أن وصل إلى قاع الحضيض بعد نشوب الحرب الأهلية فى البلاد عام 1918 والتي استمرت ثلاثة أعوام وكان التدخل الإمبريالي الأجنبي هو اليد وراء الصراع. فبحلول عام 1921 سقط الإنتاج الصناعي ليصل إلى 31 بالمائة عما كان عليه في عام 1913 وهبط مؤشر الإنتاج الكلي إلى ما يقرب من 21 بالمائة . ولم تصب البلاد نكبة الانهيار الاقتصادي فحسب بل صحبته مجاعات وانتشار الأمراض مثل التيفويد والكوليرا.

كان التأثير الاجتماعي لهذا الانهيار الاقتصادي هو تدمير الطبقة العاملة في المدن التي عملت على إنجاح الثورة وأسست سلطة العمال عام 1917. انخفض مجموع العمال الصناعيين في روسيا من نحو 3 ملايين في عام 1917 إلى 1.25 مليون فقط في عام 1921. وكما وصفها لينين في ذلك الوقت، فقد “اندثرت” الطبقة العاملة أي انه انُتزع منها قوتها الفئوية ولم يعد لها وجود كـ”بروليتاريا”. وبعد انتهاكها سياسيًا وجسديًا، فقدت الطبقة العاملة القدرة على السيطرة على حكومتها ومسؤولي دولتها.

وفي ظل هذه الظروف، كان لامفر من أن يقوم مسؤولو الدولة أو الحزب، سواء كانوا شيوعيين أو ماركسيين مخلصين أم لا، بنشر البيروقراطية غير الخاضعة للمساءلة وقد تغير وعيهم وفقًا لذلك. فديكتاتورية البروليتاريا والتي تصورها ماركس ولينين أصبحت في نهاية المطاف ديكتاتورية تُمارس على طبقة البروليتاريا نفسها.

إذًا، هل كان هناك سبيل للخروج من هذا المأزق؟ والإجابة نعم، ولكن إذا كانت ثورة العمال نجحت في الانتشار إلى غيرها من البلدان الاكثر تقدمًا اقتصاديًا مثل ألمانيا وإيطاليا وفرنسا وغيرها والتي كان من الممكن أن ترفع الضغط عن الثورة المحاصرة وأن تقوم بارسال المساعدات للعمال الروس المستضعفين. أوشك هذا على الحدوث بالفعل، فقد انتشرت الثورة في ألمانيا وإيطاليا (وكذلك في أماكن أخرى) وأصبحت على بعد خطوة واحدة من الانتصار، إلا أن هزيمة الثورة في تلك البلدان رجع إلى غياب القيادة الثورية وهذا ماترك الثورة الروسية معزولة وقد تقرر مصيرها بالفشل.

ولكن بمجرد فهم الظروف المادية التي تسببت في فشل الثورة الروسية، فمن الواضح أنها ترسل لكل ثورات اليوم رسالة من الأمل وليس اليأس، حيث أنه لاتوجد دولة عظمى، كالصين أو الهند أو البرازيل أو الارجنتين، لاتشهد فيها قوى الإنتاج قدرًا من التطور مقارنةً بالماضي ولاتشهد فيها الطبقة العمالية قوةً أكثر من التي شهدتها الطبقة العمالية في روسيا عام 1917. والأكثر من ذلك، أن العالم يشهد الآن قدرًا كبيرًا من العولمة وأصبح أكثر انفتاحًا من أي وقت مضى. لذلك فبمجرد اندلاع أي ثورة في أية دولة، فلن تلقى صعوبة في الانتشار عالميًا مثلما لاقت صعوبة في عام 1917-1923.

فشل الميادين؟

بعد أن قمنا بتفنيد الجدال التاريخي ضد الثورات، فيمكننا الرجوع لمناقشة مسألة جدلية محددة والتي يطرحها سيكون جنكينز وغيره حول فشل الميادين (ميدان تيان آن من – ميدان التحرير – ميدان بويرتو ديل سول – ميدان تقسيم – الميدان في أوكرانيا … إلخ) في إنشاء مجتمعات جديدة أفضل. يقول جنكينز إن الحشود في الميادين أصبحت تمثل “رموز السياسة الثورية الحديثة” ويعترف بقوتهم الملهمة إلا أنه يدعي أن “الحشود تهدم أكثر مما تبني”.

“فالحشود يمكن أن تفجر فتيل أي نظام ضعيف وتغرق الدولة في ظلام دامس. فهي نادرًا ماتضيء قابس الديمقراطية. أي ثورة يمكن أن تزرع الأمل في خلق أزمان أفضل إلا أنها تقف أمام حقيقة واحدة، هي أن التاريخ كائن متشكك دائمًا”.

لكن في نهاية الأمر، يعتبر هذا خطابًا صحفيًا وليس تحليلًا جادًا، فقد وقع جنكينز في خطأين أساسيين . الأول هو أنه تعامل في جدله مع كل الحشود في الميادين بنفس الظاهرة، بدلًا من أن ينظر في تكوين الطبقة وأهدافها السياسية وأيدولوجيتها السائدة، وبالتالي فلم يحاول التفرقة بين حشود الطبقة الوسطى وحشود الطبقة العاملة، بين الحشود الرجعية والحشود المتطرفة وما إلى ذلك. تظهر حالة عدم التفرقة تلك بقوة خاصةَ عند تطبيقها على الحشود المُتحدث عنها في نفس وقت كتابته للمقال، وهي الحشود في ميدان الميدان في أوكرانيا والتي تتبنى توجهًا مختلفًا للغاية، توجه أكثر يمينية وأكثر فاشية من حشود ميدان التحرير أو ميدان بويرتو ديل سول عام 2011.

أما عن الخطأ الثاني فيتلخص في أن الحشود في بعض الميادين تمثل بعض الحركات الثورية، مما جعل جنكينز يعرف الثورة بالحشود في الميدان فحسب ولم يستطع حتى أن يضع في عين الاعتبار العناصر الأخرى المكونة للثورة أو القوى الاجتماعية الأوسع نطاقًا التي تنطوي عليها. ينطبق هذا المثل على اختزال الثورة الفرنسية العظيمة في اقتحام سجن الباستيل فقط أو اختزال الثورة الروسية في المسيرة إلى قصر الشتاء الملكي.

أخطأت تحليلات جنكينز الجدلية فيما يخص كل الثورات المعاصرة ولكنها أخطأت بشكل خاص فيما يخص الثورة المصرية. ففي حين ركزت وسائل الاعلام على ميدان التحرير بشكل حصري، شهدت مصر صراعات وحشود في كل المحافظات خاصةً في الاسكندرية والسويس، ومع وجود كل تلك الأعداد في الشوارع وتزايد الاضرابات بشكل سريع واحتلال أماكن العمل، سقط نظام مبارك سقطةً مدويةً.

بالتالي، جنكينز وغيره ممن يكتبون عن الثورات ويصفونها أنها مقدرةٌ بالفشل، يرسمون الاستنتاج الخاطئ من نضال السنوات القليلة الماضية. فبينما يصح الاعتقاد بأن كل حركة لاتذهب أبعد من مجرد احتلال الأماكن العامة لن يُكتب لها النجاح، فإنه من الخطأ الاعتقاد بأن كل تلك الحشود لايمكن أن تتجاوز هذه القيود.

أما الاستنتاج الصحيح هو أن التعبئة الجماهيرية في الشوارع هي خطوة أولى ضرورية على الإطلاق في أية عملية ثورية ولكن بالإضافة إلى ذلك نحن بحاجة للإضرابات الجماهيرية واحتلال أماكن العمل حيث أنه فيما يخص مسألة الانتاج، فإن راس المال يصبح أكثر عرضة للخطر أينما تتركز قوة الطبقة العاملة. بالإضافة إلى ذلك، فنحن بحاجة للقيادة السياسية الاشتراكية الثورية، حيث أنه بدون تلك السياسة الثورية، يصبح الحراك الشعبي أكثر عرضةً للتضليل أو إساءة التوجه أو الخيانة.

ومع ذلك، إذا اجتمعت هذه العناصر الثلاثة المهمة سويًا، فستصبح قدرة الطبقة العاملة على هزيمة الرأسمالية وبناء مجتمع اشتراكي دولي أعظم من أي وقت مضى على مر التاريخ.

المصادر

تحميل المزيد