هل فكرت يومًا أنه من الممكن للفلسفة أن تنتج علمًا عمليًا نستفيد منه حتى هذه اللحظة، بل إنك المستفيد الأول منه الآن وأنت تقرأ هذا التقرير سواء على «الكمبيوتر» أو هاتفك الذكي.
لكل منجز حضارى قصة وأصول، والكمبيوتر بصفته أحد هذه المنجزات التي غيرت وجه القرن العشرين وفهمنا للمستقبل، هو أيضًا له قصة، إنما الأصول هذه المرة ليست مما نتوقعه عادة حيث التقنيات والأجهزة التكنولوجية الحديثة، الأمر أكثر إثارة من ذلك، وفي رحلتنا اليوم سنتعلم عن أصل الكمبيوتر والثورة التكنولوجية التي نعتمد عليها في كافة أشكال حياتنا اليوم، وعلاقة كل ذلك بالفلسفة، وبالتحديد بالمنطق الرياضي.
إن الفلسفة في أكثر تعريفاتها شهرة وشعبية هي «محبة الحكمة» وهي ترجمة للكلمة اليونانية القديمة، (فيلو = محبة)، (سوفيا = الحكمة)، وقد أنتجت الفلسفة علمًا ذا تأثير عميق على حياتنا وفهمنا للعالم وتعاملنا مع أنفسنا والآخرين على حد سواء.
فلو سمع أحدنا حادثة عجيبة لا تتسق أحداثها أو تناقض بعضها البعض، سرعان ما سيقول إنها «غير منطقية»، وهنا تحديدًا تبدأ الحكاية؛ حكاية المنطق.
«الأورجانون».. البذرة الأولى للحاسب الآلي
غالبًا ما يُروى تاريخ أجهزة الكمبيوتر كتاريخ للأشياء، من العدادات، وحتى آلات فك الشفرات في الحرب العالمية الثانية. وفي حقيقة الأمر لا يمكن فهم تاريخ أجهزة الكمبيوتر بشكل أساسي إلا بكونه تاريخًا للأفكار، وبالأخص الأفكار التي نشأت عن المنطق الرياضي.
ولكي نعرف المنطق لابد عن نظرة سريعة على المؤسس، لنتوجه إلى بلاد اليونان أواخر القرن الرابع وأوائل القرن الخامس قبل الميلاد، حيث أنشأ الفيلسوف اليوناني أرسطو أول مدرسة معروفة في التاريخ وهي المدرسة التي درس بها الإسكندر الأكبر على يد أرسطو، وما زالت بقاياها موجودة حتى الآن في مدينة «ميزا» بمقدونيا الحالية.
تمثال نصفي من الرخام لأرسطو، وهو نسخة صنعت في العصر الروماني تقليدًا عن نسخة يونانية أقدم من البرونز، ويكيبيديا.
كان أرسطو ابنًا لطبيب بشري ونشأ هو الآخر على حب الطب والعمل به، ومما لاشك فيه أن الإنسان يتأثر على نحو ما بطبيعة عمله، وقد أخذ أرسطو من عمله بالطب وتعامله مع الأمراض والآلام البشرية والموت، أخذ من كل هذا طابعًا عمليًا في تفكيره؛ مما جعل مذهبه في الفلسفة والسياسة عمليًا، ومن هذه العملية في التفكير أنتج أرسطو ما أسماه «الأورجانون» وهي كلمة يونانية قديمًا تعنى الأداة، وتعنى ما نعرفه اليوم بالمنطق.
ربما حتى أن الكلمة اليونانية القديمة تشرح طريقة عمل المنطق في حياتنا جميعًا، أنه الأداة التي نفكر بها ونحكم بها على مدى مصداقية الأشياء من عدمها، أنشأ أرسطو ما نعرفه اليوم باسم القياس الأرسطي، وهو عبارة عن مقدمات تؤدي إلى نتائج، ومثاله الأشهر: (كل إنسان فان، سقراط إنسان، إذًا سقراط فان).
وهو القياس الذي كان مهمًا في وقته باعتباره أول قاعدة منطقية للتفكير العلمي، وقد ظل مهيمنًا على الأوساط العلمية حتى القرن التاسع عشر الذي بدأت فيه محاولات الفلاسفة والعلماء لتقوية المنطق الرياضي وتطويره.
ربما لا يبدو لنا هذا القياس شيئًا إعجازيًا اليوم، إلا أنه كان كذلك منذ حوالي 2500 سنة مضت، كما أنه كان بمثابة الإرساء الأول لقواعد التفكير المنطقي الذي من أجله يسمى أرسطو اليوم بأبي المنطق.
الأرقام لغة عالمية.. كيف أخرج لنا المنطق أجهزة الكمبيوتر؟
لأن المنطق كما عرفنا، هو أداة التفكير التي أرساها أرسطو، وقد تحول بعد ذلك علم قائم بذاته يبحث في قواعد التفكير وطرق الاستدلال الصحيح، والاستدلال له أهمية كبرى في وضع المناهج العلمية وحتى التفكير في المواقف اليومية التي نتعرض لها، إذ نستدل من شيء معين على الصورة الأكبر للموضوع ككل.
يعد المنطق الرياضي فرعًا من فروع المنطق العديدة، إلا أنه يلعب دورًا أساسيًا في علوم الكمبيوتر. ومن المجالات الرئيسة لعلم المنطق والتي تمثل أهمية خاصة بالنسبة لعلوم الكمبيوتر هي نظرية الحوسبة (كانت تسمى سابقًا نظرية العودية)، وكذلك المنطق الشرطي ونظرية الفئة، وكلها نظريات مستخدمة في علوم الكمبيوتر.
كان التأثير الطاغي للمنطق الرياضي عميقًا على الذكاء الاصطناعي، بواسطة هذا المنطق أمكن حل المشكلات (يعرفها المنطق باسم القضايا) والتوصل إلى الاستنتاجات من خلال الحقائق المقدمة للآلة.
علينا تخيل الأمر على هذا النحو، إن هذه الآلات لا يمكنها الحديث أو تكوين لغة، إذًا فإننا نحتاج لبرمجتها على تلقى قضايا معينة ذات نتائج ثابتة، بحيث يمكنها على الدوام الخروج بنفس الاستنتاج إذا قدمت لها نفس المعطيات، وهي مشكلة معقدة لا يمكن حلها سوى باستخدام المنطق، الذي هو عبارة عن قضايا كبرى (كل إنسان فان) وقضايا صغرى (سقراط إنسان) يمكننا دومًا الخروج منها باستنتاج واحد لن يتغير مفاده أن (سقراط فان).
يعمل المنطق الرياضي بالطريقة عينها مع اختلاف القضايا، وقد أنتج ما يسمى بمنطق الرتبة الأولى أو المنطق الإسنادي، وهو يعنى – بتبسيط غير مخل – تحويل الجمل المنطقية إلى قيم رقمية، حيث أن اللغات – على إطلاقها – تحتوى على جمل مبهمة أو تختلف عملية فهمها وترجمتها من شعب لآخر، إلا أن الأرقام على الجهة المقابلة يمكننا اعتبارها عالمية، ولا يحدث بها إبهام اللغات كالحاجة للبلاغة، أو اللهجات المختلفة مثلًا، وكلاهما يؤديان لسوء الفهم أحيانًا.
وبما أن الأرقام ليست كالكلمات فإنه يمكننا بكل تأكيد تحويل القضايا المنطقية التي ندخلها في برمجة آلات الكمبيوتر إلى أرقام؛ مما يعيدنا للمثال الأول الخاص بأرسطو، فلو افترضنا أن سقراط هو (س) وكل إنسان هو (ن)، وفان هي (ص)، فعليه يكون (س) هنا هو (ص)، أي: فان، بما أن إنسان هو (ن).
المنطق الرياضي: الخطوة الأولى في طريق الحوسبة
ربما تكون قد سمعت عن حساب التفاضل والتكامل، وهو الحساب الذي وضع قواعده الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت، مقررًا أنه يمكن تحويل الرياضيات من الرسوم البيانية (الهندسة الإقليدية) – وهي الطريقة المتبعة آنذاك – إلى القيم أى ما نعرفه اليوم (ب) و(س) و(ص).
على عكس اللغات الطبيعية، مثل اللغة الإنجليزية، فإن لغة المنطق من الدرجة الأولى هي لغة رسمية تمامًا ، بحيث يمكن تحديدها ميكانيكيًا، وكذا تحديد ما إذا كان تعبير معين قد تم تشكيله بشكل جيد أم لا. إن مصطلحات وصيغ منطق الدرجة الأولى عبارة عن سلاسل من الرموز، حيث تشكل جميع الرموز معًا أبجدية اللغة.
ولأن الشيء بالشيء يذكر، فيجدر التعرف على الرجل صاحب الإنجاز الأهم في رحلة المنطق الرياضي الذي حوله من المنطق الأرسطي إلى ما نعرفه اليوم، وهو الفيلسوف البريطاني جورج بول.
كان هدف بول هو تغيير المنطق الأرسطي تمامًا مثلما فعل ديكارت بالهندسة الإقليدية وتحريره من حدود الحدس البشري من خلال إعطائه تدوينًا جبريًا دقيقًا.
تمثال نصفي للعالم جورج بوول يقع في حرم جامعة كورك البريطانية، ويكيبيديا.
خلقت قوانين الفكر هذه حقلًا علميًا جديدًا هو المنطق الرياضي، والذي أصبح في السنوات التالية أحد أكثر مجالات البحث نشاطًا لعلماء الرياضيات والفلاسفة. أطلق الفيلسوف الإنجليزي برتراند راسل على قوانين الفكر تلك بأنها العمل الذي جرى فيه اكتشاف الرياضيات البحتة.
وبذلك يمكننا القيام بعمليات استدلالات منطقية لا حصر لها باستخدام الآلات التي لا تجيد التعامل مع الكلمات، إنما يمكن برمجتها للخروج بالاستنتاج الصحيح من القيم الرقمية.
ومن أهم المجالات التي ساهم فيها المنطق أيضًا؛ هندسة البرمجيات الحاسوبية للتحقق من صحة مواصفات البرامج، كما يستخدم أيضًا للتحقق من تطابق المنتج مع المواصفات في الأنظمة التكنولوجية المعقدة، التي يكون لفشل النظام فيها تكلفة بشرية أو مالية باهظة للغاية، مثل أنظمة الأسلحة، وأنظمة الأمان، والأنظمة المالية المستخدمة في البنوك.
«مثل وصفات الطبخ».. كيف أُدخل المنطق إلى الكمبيوتر؟
صاحب الفضل في إدخال هذا المنطق الرياضي إلى الكمبيوتر هو المهندس الكهربائي وعالم الرياضيات الأمريكي كلود شانون. تركزت رؤية شانون في إمكانية تطبيق نظام جورج بول مباشرة على الدوائر الكهربائية. سميت الدارة الكهربائية بـ(دائرة)؛ لأن التيار كهربائي لا يسري فيها، إلا إذا كانت مغلقة مثل الدائرة. وسميت بـِ(كهربائية)؛ لأن عملها يعتمد على الكهرباء.
في ذلك الوقت، لم يكن للدوائر الكهربائية نظرية منهجية تحكم تصميمها. أدرك شانون أن النظرية الصحيحة ستكون مشابهة تمامًا لحساب الافتراضات المستخدمة في الدراسة الرمزية للمنطق.
إن «حساب الافتراضات المستخدمة في الدراسة الرمزية للمنطق» المشار إليه هنا بواسطة شانون معروف بشكل عام اليوم باسم «الجبر المنطقي لبول»، تقديرًا لعالم الرياضيات البريطاني جورج بول الذي قام بعمله الرائد في دراسة المنطق وإسهاماته في علم الرياضيات.
المهندس الأمريكي كلود شانون، أبو عصر المعلومات – مصدر الصورة spectrum.ieee
هل انتهت رحلة المنطق مع علوم الكمبيوتر؟ في واقع الأمر بدت الرحلة وكأنها بدأت للتو، فقد تطورت على يد العالم الرياضي البريطاني ألان تورينج. فقد ابتكر تورينج أولًا نموذجًا رياضيًا لما يعرف بالكمبيوتر اليوم، تُعرف الآلات التي تتلاءم مع هذا النموذج باسم «آلات تورينج العالمية».
عرف تورينج أن الخوارزمية يجري تحديدها عادةً من خلال قائمة من القواعد التي يمكن لأي شخص اتباعها بطريقة ميكانيكية دقيقة، مثل وصفة في كتاب الطبخ. موضحًا أنه يمكن الاقتصار على عدد قليل من الإجراءات الأساسية البسيطة للغاية دون تغيير النتيجة الحسابية النهائية.
بعد ذلك أظهر تورينج كيف يمكن تخزين برنامج داخل جهاز كمبيوتر جنبًا إلى جنب مع البيانات التي يعمل عليها. في تعبيرات اليوم يمكننا القول إنه اخترع بنية «البرنامج المخزن» أو نظام التشغيل، سواء كان «ويندوز» أو «ماك»، وهو يشكل أساس معظم أجهزة الكمبيوتر الحديثة.
قبل اختراع تورينج، كان الافتراض العام هو أنه عند التعامل مع مثل هذه الآلات، كانت الفئات الثلاث – الآلة والبرنامج والبيانات – كيانات منفصلة تمامًا. كانت الآلة شيئًا ماديًا؛ ما نسميها اليوم بالأجهزة، وكان البرنامج عبارة عن خطة لإجراء عملية حسابية، ربما تتجسد في توصيلات كابلات في لوحة التوصيل، وأخيرًا كانت البيانات هي المدخلات العددية.
أظهرت آلة تورينج العالمية أن تميز هذه الفئات الثلاث عن بعضها البعض هو مجرد وهم، وأنه يمكن دمجها في جهاز واحد، وكان هذا أول دليل صارم على أن أي منطق حوسبي يمكن ترميزه في الأجهزة يمكن أيضًا ترميزه في البرامج، إن الجهود التي بذلت طول هذه السنوات أظهرت إمكانية بناء منجزات رياضية كبيرة من خلال استخدام المنطق.
تمثال تذكاري للعالم آلان تورنج بحديقة بلتشلى بمنطقة ميلوتن كاينكس، بريطانيا، وهي نفس المنطقة التي كانت مقرًا لعمليات فك الشيفرة أثناء الحرب العالمية الثانية، ويكيبيديا.
وبعد رؤى كلٍّ من شانون وتورنج – التي توضح الروابط بين الإلكترونيات والمنطق والحوسبة – أصبح من الممكن تصدير هذه الآلية المفاهيمية الجديدة إلى تصميم الكمبيوتر نفسه.
ومنذ أربعينات القرن العشرين، أصبحت برمجة الكمبيوتر أكثر تعقيدًا بشكل ملحوظ، إلا أن الشيء الوحيد الذي لم يتغير بشأنها؛ هو أنها عملية لم تزل تتكون أساسًا من المبرمجين الذين يحددون القواعد التي يجب على أجهزة الكمبيوتر اتباعها.
من الناحية الفلسفية، يمكننا القول أن برمجة الكمبيوتر نشأت من المنطق الاستدلالي، وهو فرع المنطق الذي جرت مناقشته في البداية، والذي ندين له بالعديد من المنجزات التكنولوجية في حياتنا اليومية المعاصرة بدءًا من الأقمار الصناعية، مرورًا بسفن الفضاء، وحتى هواتفنا الذكية.
الآن وبعد رحلة قصيرة تعرفنا فيها على أهم أعلام الفلسفة والمنطق الذين ساهموا في تطوير وتقدم الإنسانية، واختراع الذكاء الاصطناعي، وبالتأكيد أننا لم نعرف بهم جميعًا، غير أن الرسالة الأكثر وضوحًا في أعمالهم العظيمة هي ترابط ووحدة العلوم الإنسانية، واستفادتها جميعًا من بعضها البعض على نحو مدهش.