ما الذي يتبادر إلى ذهنك عندما تسمع عن روسيا؟ غالبًا البرد القارس، والاتحاد السوفيتي، والشيوعية، والفودكا، وربّما دوستويفسكي وتولستوي إن كنت من قرّاء الروايات. فحتى وقت قريب لم تكن روسيا تعني الشيء الكثير على الساحة الدولية بعد تراجع تأثيرها السياسي في العالم، عقب سقوط الاتحاد السوفيتي.

لكنّ روسيا في عهد بوتين تريد أن تكون أكثر من مجرّد ثلوج وتاريخ ومجموعة روائيين، فالرئيس وعميل الـKGB السابق الثّمل بأمجاد روسيا القيصرية التي أرعبت أوروبا يومًا والاتحاد السوفيتي الذي وقف في وجه أمريكا ندًّا لندّ، بلا شكّ يريد أن يفرض وجود روسيا في الساحة العالميّة مجدّدًا، الساحة التي تحتكرها الولايات المتحدة والصين بشكلٍ شبه كامل. من أجل ذلك كان لزامًا على روسيا إسماع صوتها ووجهة نظرها للعالم، وفي عالم تسيطر عليه الرؤية الغربية بترسانتها الإعلامية المتمثّلة في هوليوود، والقنوات الإخبارية التي لا تتوقف مثل شبكات CNN وBBC وغيرها، ماذا تملك روسيا لإيصال وجهة نظرها للعالم؟ هكذا وُلدت فكرة شبكة «روسيا اليوم» أو RT الإعلامية.

وسائل الإعلام صارت سلاحًا عالميًّا يصنع الرأي العام ويؤثر فيه، ويسوّق لوجهات نظر الأطراف المختلفة، وأحسن من عبّر عن هذا المعنى هو رئيس الوزراء القطري السابق حمد بن جاسم حين قال: «نحن بعنا طائراتنا لأبوظبي، لسنا في حاجة إلى طيران وجيش، نحن نؤسس لقناة ستكون القوّات المسلحة القطرية» في إشارة إلى شبكة الجزيرة.

اقرأ أيضًا: «بلومبرج»: بوتين «سيد» الشرق الأوسط الجديد.. مهمة لم ينجح فيها أحد من قبل

الكرملين يعطي إشارة الانطلاق

كان إطلاق قناة «روسيا اليوم» سنة 2005 جزءًا من حملة علاقات عامّة واسعة أطلقها الكرملين من أجل تحسين صورة روسيا في  العالم، وإعطاء وجهة النظر الروسية فيما يجري. فقد ارتبط اسم الزعيم الروسي فلاديمير بوتين في تلك الآونة دائمًا بقوانين جائرة أو سجن لمعارضين أو قرارات قمعية، الأمر الذي استدعى تغيير هذه النظرة عن الكرملين واستبدالها بصورةٍ أحسن.

انطلقت القناة بطاقم ضمّ 300 صحافيّ من بينهم 70 صحافيًّا أجنبيًّا؛ لإعطاء انطباع عن التنوّع والعالمية في التوجّه. وقد تكفّل بإطلاق القناة أحد مساعدي بوتين المكلّفين بالإعلام ميخائيل ليسين، الملقّب بـ«البلدوزر»، وذلك للمزاعم التي تقول إنه يستطيع إجبار أي قناة تلفزيونية روسية على الخضوع لأوامر الكرملين. بعد سنتين توسّعت الشبكة لتضمّ قناة باللغة العربية في سنة 2007، ثم بالإسبانية في سنة 2009، بالإضافة إلى قناة RT-US المتخصصة في الشأن الأمريكي، و RT-UK الموجهة للداخل البريطاني، و RT documentary المختصّة في الوثائقيات.

الرئيس الروسي بوتين في أستوديو RT. مصدر الصورة: wikimedia.com

وتشير تقارير إلى أن الجزء الأكبر من تمويل القناة يأتي مباشرة من الحكومة الروسية. جرى الاعتماد على ضخ دماء الصحافيين الشباب الذين رغم افتقادهم للخبرة المهنية المطلوبة، فهم يتّسمون بالحماسة والنشاط، وقد عُيّنت الصحافية مارغاريتا سيمونيان في منصب رئيسة التحرير وعمرها 25 سنة فقط، وخبرتها السابقة كانت عملها صحافية في مبنى الكرملين العريق.

وقد أثارت القناة انتباه الرأي العام العالمي لأوّل مرة بتغطيتها للحرب الروسية في جورجيا سنة 2008، تغطية وصفتها الصحافة الغربية بالبروباجندا الموجّهة مباشرة من حاكم الكرملين. وقد أرادت القناة منذ بداياتها أن تميّز نفسها عن الساحة الإعلامية التي تسيطر عليها القنوات الغربية؛ فأتاحت المجال لشخصيات مغضوب عليها من قبل الأنظمة الغربية، ففي أول برنامج على القناة الذي سمي «العالم غدًا» أجرى جوليان أسانج الصحافي السويدي المسؤول عن مشروع ويكيليكس حوارًا مع إحدى الشخصيات قليلة الظهور في الإعلام العالمي، إنه زعيم حزب الله اللبناني حسن نصر الله. اليوم تبثّ القناة في 100 دولة، وتصل إلى 644 مليون مشاهد حول العالم يتابعونها باللغة الإنجليزية والعربية والإسبانية.

حرب شعواء على روسيا اليوم

أراد الكرملين أن تكون قناة RT أداةً للقوّة الناعمة يؤثر بها في الجماهير، ويطرح وجهة نظر مغايرة للأحداث، لكنه لن يحصل على هذا دون مقاومة عنيفة. تشنّ وسائل الإعلام الغربية حملات انتقاد حادة على قناة روسيا اليوم باعتبارها مجرّد أداة لنشر البروباجندا دون مراعاة للموضوعية أو الاحترافية، كما تعيب عليها تغطيتها التي تصفها بالمنحازة في صفّ الحكومة الروسية، خصوصًا في تدخّلاتها الخارجية العسكرية. ففي تغطيتها للتدخل الروسي في إقليم القرم التابع سابقًا لأوكرانيا تتهمها الهيئة التنظيمية للإعلام البريطاني «Ofcom» بالانحياز وعدم الموضوعية؛ مما جعل الهيئة ترسل للقناة تحذيرًا رسميًّا، كما هدّدت الهيئة بأن احتمالية حظر القناة لفترة مؤقّتة يبقى مطروحًا إن واصلت القناة هذه «الخروقات».

Embed from Getty Images
مظاهرات في أوكرانيا 2014.

وزادت الحملة على روسيا اليوم عندما اتهمها الرئيس الفرنسي ماكرون بأنها أداة بروباجندا سياسية، ولا تقدم إعلامًا مهنيًّا، أمام القيصر الروسي نفسه خلال زيارة قام بها إلى فرنسا. تصريح ماكرون جاء رسالة واضحة بأن رئاسته لن تسمح لـ«البروباجندا الروسية» أن تخترق المشهد الفرنسي وتوجّه الرأي العام كما فعلت في غيرها.

فيديو: ماكرون يصف RT بالبروباجندا أمام الرئيس الروسي بوتين

وادي السيليكون من جهته دخل على خطّ حملة التضييق على RT؛ فقد امتنعت شركة جوجل من فتح حساب للقناة في موقع Youtube premium الذي يتيح فتح حسابات مدفوعة للاستفادة من مزايا إضافية. وجاء هذا بعد جلسة للكونجرس الأمريكي شاركت فيها شركة جوجل عن أدوات التأثير الروسية في الانتخابات الأمريكية وحجم فعاليتها، وقد شارك في هذا التحقيق كل من شركتي فيسبوك وتويتر.

فيسبوك أيضًا انضمّ إلى «الحرب العالمية» على روسيا اليوم، إذ منع صفحة القناة على موقعه من النشر بسبب «انتهاك حقوق البث» خلال إلقاء الرئيس السابق باراك أوباما لآخر مؤتمر صحافي، وقد ردّت القناة بأنها لم تنتهك أي قوانين، كما قالت إحدى المسؤولات في القناة إن ما فعله فيسبوك ليس بريئًا: «أنا موقنة أنهم إن استطاعوا إيقاف الأوكسجين عنّا لفعلوا».

وقد صرّحت القناة بأنها عانت أيضًا من تجميد حساباتها المصرفية في بريطانيا بغرض التضييق عليها، حيث طلب بنك Natwest من القناة أن تنقل أموالها إلى مكان آخر؛ لأن البنك «وصل إلى نتيجة أنه لا يريد توفير خدمته لهذا الزبون». وجدير بالذكر أن بنك Natwest تملك 73% من أسهمه الحكومة البريطانية.

وقد جاءت كل حملة التضييق على القناة بسبب الشعور المتنامي عند بعض الأطراف الأمريكية من احتمال تدخّل روسي في الانتخابات الرئاسية التي فاز بها دونالد ترامب بفارق صغير، البعض ذهب إلى حد القول إن قراصنة روسيين اخترقوا النظام الانتخابي الإلكتروني، لكن المؤكّد هو تورّط قراصنة ترجّح تقارير أنهم من روسيا في تسريب وثائق أضرّت بحظوظ هيلاري كلينتون، وفضحت تلاعب الحزب الديمقراطي بالانتخابات التمهيدية قصد تفضيل كلينتون على منافسها السيناتور بيرني ساندرز.

اقرأ أيضًا: القصة شبه الكاملة للاتهامات الأمريكية بتدخل روسيا في الانتخابات لصالح ترامب

وجوه ثورية وأخرى مألوفة لجلب المشاهدين

من بين الاستراتيجيات التي استخدمتها «روسيا اليوم» في توسيع انتشارها، وزيادة متابعيها، هي إعطاء الفرصة لأصوات مخالفة تسمح لهم بطريقة محسوبة بمعارضة السياسة الروسية الرسمية بكل حريّة. الأمر لا ينطبق على كامل الخطّ التحريري للقناة بكل تأكيد، لكنها استثناءات من أجل إعطاء صورة تشجيع التنوّع والاختلاف داخل القناة. ومن بين الأصوات التي اعتمدت عليهم في إيصال هذا الانطباع كانت الصحافية الأمريكية آبي مارتين Abby Martin التي عُرفت بانتقادها للسياسات الخارجية الأمريكية، وللخط العام للإعلام الأمريكي، بالإضافة إلى هجومها الشرس على الحرب الإسرائيلية على غزّة، وقد خرجت هذه الصحافية في إحدى المرّات على شاشة RT في برنامجها لتنتقد بشكل مباشرة التدخّل الروسي في إقليم القِرم، معتبرة إياه اعتداءً على سيادة أوكرانيا. «فقط لأنني أعمل في قناة (روسيا اليوم) لا يعني أنني لا أملك كامل الحريّة، أنا ضد أي تدخّل عسكري في سيادة أي دولة مستقلّة، مافعلته روسيا خطأ».

ولم تقدم روسيا اليوم على إقالة الصحافية آبي مارتين Abby Martin، بل استغلّت الضجّة الإعلامية أحسن استغلال حين أعلنت القناة استعدادها لإرسال الصحافية إلى إقليم القِرم بنفسها لمعاينة الأوضاع، والحصول على معلومات من المصدر الرئيسي، الأمر الذي رفضته الصحافية. اعتمدت القناة أيضًا أصوات يسارية معروفة مثل الإعلامي توم هارتمان Thom Hartmann الذي يقدّم في برنامجه نقدًا للرأسمالية الجديدة، وتغوّل الشركات الكبرى وأصحاب المال في السياسة على حساب مصلحة المواطن البسيط، كما يحارب التوجهات المعادية للمسلمين في أمريكا.

ومن بين أشهر الوجوه الذين يطلّون على شاشة RT، المذيع الأمريكي لاري كينغ (Larry king) الذي يطلّ ببرنامجه الحواري Larry king now؛ إذ يحاور سياسيين وشخصيات فنيّة وثقافية عامّة حول العالم. من المؤكّد أن القناة لن تتدخّل في هذا الخط التحريري لهذا الاسم الثقيل أو تمنعه من استضافة من يشاء، لكنه في نفس الوقت يمثّل عامل جذب ودعاية لهذه القناة، فبعد أن يستقطب برنامجه المشاهدين ستعمل باقي برامج القناة على إيصال وجهة النظر الروسية للمشاهد الغربي.

استقالات على الهواء

من بين النقاط السلبية البارزة في مسيرة «روسيا اليوم»، خصوصًا في نسختها الأمريكية -إذا ما استثنينا الشخصيات المذكورة سابقًا- اعتمادها في المجمل على صحافيين هواة ليس لهم باع طويل في الصحافة أو خبرة مهنيّة يعتدّ بها، لذلك كثيرًا ما يثير الصحافيون العاملون فيها الجدل باستقالاتهم. إحدى أشهر الاستقالات –الكثيرة- التي صنعت الجدل عالميًّا استقالة المقدّمة التلفزيونية ليز وال Liz wahl على الهواء مباشرة، وقد أذاعت بيان استقالتها في ختام البرنامج، وتحجّجت بأن من بين عائلتها محاربين قدامى وعمّالًا في الجيش الأمريكي، أو كما صرّحت «ولهذا لا أستطيع أن أعمل في قناة أسستها الحكومة الروسية، وتقوم بتلميع أفعال الرئيس بوتين»، تاركة المشاهد الكريم حائرًا من الاستيقاظ المفاجئ لضمير الصحافية على الهواء مباشرة.

بعد 3 أشهر من هذه الحادثة، قدّمت صحافية بريطانيّة أخرى استقالتها من القناة بسبب التغطية المتحيّزة لما يجري في أوكرانيا، وبالذات تغطية القناة لحادثة إسقاط الطائرة الماليزية MH17 التي تمّ إسقاطها من قبل قوّات انفصالية موالية لروسيا، حسب بعض المصادر. وتبيّن هذه الاستقالات مأزقًا وقعت فيه إدارة القناة في إدارة التناقضات في أروقة القناة، بين المحافظة على خطّ تحريري تأتي توجيهاته غالبًا ممن يدفع الأجور في نهاية الشهر، وبين إعطاء هامش حريّة معتبرًا للصحافيين، بحيث تحافظ على مواهبها وتجذب في نفس الوقت مواهب إعلامية أخرى تبحث عن منصّة للظهور.

وجود ضروري رغم الشوائب

في إحدى جلسات الكونجرس الأمريكي أطلق جون كيري وزير الخارجية السابق تصريحًا يعكس الرؤية الأمريكية لخطورة RT: «روسيا اليوم لها قناة باللغة الإنجليزية، هل لدينا بديل لمجابهة هذا؟ هل لدينا قناة تتحدّث الروسيّة؟ هذا مثير للحنق فعلًا». المشهد الإعلامي بحاجة إلى شبكات إخبارية تكسر احتكار الشبكات الغربية للأخبار مثل: بي بي سي، وسي إن إن، وغيرهما، خاصةً إذا علمت أن 6 شركات كبرى تمتلك حوالي 90% من جميع القنوات التلفزيونية التي تبثّ في أمريكا، أي أن 6 شركات يتحكّمون في الأغلبية الساحقة مما يصل إلى المشاهد الأمريكي من أخبار، رقم مرعب يوضّح حجم احتكار الشركات الكبرى لمجال الصحافة والإعلام.

وقد استطاعت شبكات عالمية كالجزيرة و«روسيا اليوم» أن تفعل ذلك ولو جزئيًّا من خلال صحافيين شباب ذوي أصوات ثورية – أحيانًا – يرفضون المشهد الإعلامي العام، إذ رأينا كيف هاجمت الإعلامية «آبي مارتن» الحكومة الإسرائيلية أثناء حرب غزة سنة 2014 على شاشة RT، الأمر الذي يكاد ينعدم في الإعلام الأمريكي، بالإضافة لإتاحتها المجال لآراء منبوذة ومعتّم عليها كإدوارد سنودن الذي سرّب وثائق من وكالة NSA، وجوليان آسانج صاحب مشروع ويكيليكس. لكن القناة تعاني في نفس الوقت ما عانت منه وسائل الإعلام منذ نشأتها: كيفية ضمان تقديم مادة إعلامية تتسم بالموضوعية والمهنية، ولا تغضب المموّلين في نفس الوقت بحيث تضمن استمراريتها.

المصادر

تحميل المزيد