
صورة أرشيفية للكرملين في موسكو
نشر موقع الشبكة الدولية للعلاقات والأمن تقريرًا للكاتب جوناس جراتز الباحث في مركز الدراسات الأمنية بمدينة زيورخ السويسرية تحدث فيه عن ملامح السياسة الخارجية لروسيا وعلاقتها بالحكومات الغربية والولايات المتحدة الأمريكية عبر أدوات تم التعاطي معها بنجاح وفقًا للتقرير لخدمة المصالح الروسية خاصة في عهد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي عكف على اتخاذ خطوات حاسمة لإنشاء نظام البوتينية (putinism) التي تنبني في جوهرها على تكوين شبكة مستقرة نسبيًا من النخب التي تتولى السلطة السياسية والاقتصادية ومركزية يمثلها بوتين باعتباره مركز الحكم النهائي.
وفيما يلي عرض لأهم ما ورد في التقرير الذي نشر في الأول من شهر أبريل الجاري.
شهدت السنوات الأخيرة تصاعدًا ملحوظًا للمواجهة الروسية الغربية خاصة مع تنامي المبادئ المناهضة للغرب حيث دأبت روسيا خلال السنوات الماضية على القيام بدور المفسد في مناطق الصراع التي يشهدها المجتمع الدولي في الوقت الراهن مثل أوكرانيا وسوريا متكئة في ذلك على الانقسام الأوروبي حيال هذه الصراعات مع تقديم بعض الحلول من جانبها بالرغم من الضعف الذي يعتري السلطة الروسية وهو ما يدفع القادة الغربيين إلى التعاطي مع الواقع الجديد الذي يكتنف العلاقات الروسية الغربية.
يعتبر عام 2013 بمثابة العام الناجح للرئيس الروسي فلاديمير بوتمين، فبالرغم من الدعم الذي قدمه النظام الروسي لنظيرة السورى، إلا أن روسيا نجحت في التعاطي مع قضية تفكيك ترسانة الأسلحة الكيميائية السورية و الدخول في سباق صعب المراس مع الحكومات الغربية في كل من أرمينيا وأوكرانيا، كما أن استضافة المستشار السابق في وكالة الأمن القومي الأمريكية إدوارد سنودن أكسبت بوتين مزيدًا من التعاطف على الصعيد الغربي وهو ما أعطى دلالات على عودة الدب الروسي من جديد للمشهد العالمي وإن كانت عودة لا يصاحبها تصدر للمشهد الدولي مع تعهدها ببناء “نظام عالمي متعدد الأقطاب” بالتزامن مع تعزيز قدراتها الخاصة في ظل تراجع للقوة الغربية وتصاعد الأطماع الروسية في مناطق النفوذ الروسية مع تصاعد أصوات الكرملين بتقديم حلول لبعض المشاكل الإقليمية بل والعالمية أيضًا.
وعمدت روسيا أيضًا إلى إضعاف المعسكر الغربي عبر تبنيها لسياسات تتوائم وتتوافق مع قدراتها وسياساتها الداخلية خاصة وأن عمليات التحول الديمقراطي ودعم المسار الديمقراطي في البلدان المجاورة لروسيا هي الهاجس الأكبر لبوتين الذي لا يواجه أية تحديات على الصعيد الداخلي كما أنه يسعى نحو تقوية سلطاته من خلال كبح جماح النفوذ الغربي ما يشي بأن السياسة الخارجية أضحت ذات أهمية في صرف الانتباه عن المشاكل الداخلية خاصة في ظل الركود الاقتصادي.
فهم البوتينية “putinism”
تمثل السياسة الخارجية لروسيا انعكاسًا للقوى المحلية فقد شهدت روسيا في عقد التسعينيات تبني نهج الرأسمالية والديمقراطية خلال حكم الرئيس السابق بوريس يلتسين غير أن القوة ظلت في يد النخبة وليس الشعب، حتى أن الخصصة لم تكن كافية بالرغم من تحسن الأداء الاقتصادي وهو ما أسفر بدوره عن ظهور طبقة من الأثرياء ورجال الأعمال الذين كان لهم تأثير واضح على السياسة فلم تكن السياسة الخارجية سوى الوجه المقابل للسياسة الداخلية بالتزامن مع الظهور المتنامي لمراكز القوى، ومع تولي فلاديمير بوتين مقاليد الأمور في البلاد عام 2000، عكف على اتخاذ خطوات حاسمة لإنشاء نظام البوتينية التي تنبني في جوهرها على تكوين شبكة مستقرة نسبيًا من النخب التي تتولى السلطة السياسية والاقتصادية ومركزية يمثلها بوتين باعتباره مركز الحكم النهائي.
قوة بوتين العمودية
لم يكتفِ بوتين وفقًا للتقرير بتنصيب نفسه على قمة النظام الاقتصادي والسياسي في البلاد بل عمد إلى تمكين المقربين منه من جهاز المخابرات الروسية (كيه جي بي) من المناصب السياسية والاقتصادية بالتزامن مع السيطرة على وسائل الإعلام من أجل إعادة رسم العلاقة بين كل من الدولة والمجتمع من جهة وبين روسيا والمجتمع الدولي من جهة أخرى بغية بناء نموذج خاص بالدولة الروسية يقوم على مزيج من الوطنية والتضامن وهي الشعارات التي حددها بوتين في مقال له نشر عام 1999.
كما أشار التقرير أيضًا إلى أن بوتين اعتمد على السلطة الشخصية بديلاً عن بناء المؤسسات لمحاولة التغلب على المشكلات التي واجهتها الدولة الروسية وهو ما يتوائم بدرجة أكبر مع طبيعة النظام الاقتصادي الروسي الذي يعتمد بشكل أكبر على السلطة السياسية، وارتفاع الإيرادات الضريبية والثروة الشخصية، والدعم الشعبي، معتبرًا أن بداية القرن الحادي والعشرين كانت بمثابة الظهور الأمثل للبوتينية بفضل المهارات التكتيكية لبوتين والظروف الخارجية التي أحاطت بالمشهد الدولي والصعود المتنامي في أسعار النفط، مما كان له أبلغ الأثر في دعم الاستقرار الروسي وتحقيق النمو الاقتصادي السريع وما صاحبه من ظهور طبقة جديدة من الأثرياء في المدن الكبيرة.
وبالرغم من أن الأزمة الاقتصادية التي حلت عام 2008 لم تفضِ بالاقتصاد الروسي إلى حد الانهيار، إلا أن الاستثمارات الروسية شهدت انخفاضًا ملحوظًا جراء إخضاع المؤسسات الاقتصادية للسلطة السياسية في ظل عجز الرئيس الروسي عن تقديم مزيد من الرعاية الصحية أو الاستثمار في البنية التحتية اللازمة.
الشرعية: القلق والمحافظة
ظهر الارتباط الوثيق كما ورد في التقرير بين النمو الاقتصادي المتصاعد وبين دعم النظام الروسي بقيادة بوتين، غير أن الانخفاض الذي شهده النمو الاقتصادي في السنوات الأخيرة دفع النظام الروسي إلى تبني استراتيجية جديدة لاستعادة الدعم الشعبي من جديد، ارتكزت في جوهرها على “القلق” حسبما وصف الكاتب ومثلت شعارات “الاستقرار والخوف من الانكماش الاقتصادي والفوضى السياسية” السبيل المتاح أمام بوتين للحصول على الدعم والزخم الشعبي.
بالمقابل، سعي بوتين مع بدء ولايته الثالثة نحو صياغة أيديولوجية محافظة جديدة تبدو أكثر تماسكًا لكسب تأييد الناخبين الأكثر فقرًا الذين قد تبدو روسيا لهم وطنًا جديدًا بالتزامن مع التغيرات العالمية السريعة والظهور العالمي المتنامي للولايات المتحدة الأمريكية التي تم تصويرها من قبل النظام الروسي على أنها العدو الأساسي للدولة الروسية لصرف الانتباه عن القضايا الداخلية، وهو ما يشي بأن السياسة الخارجية الروسية أصبحت معادية بشكل ما للمعسكر الغربي.
أدوات السياسة الخارجية
وبالرغم من أن السياسة الخارجية الروسية لم تمتلك سوى أدوات محدودة، إلا أن التقرير أشار إلى أن النظام الروسي أحسن استغلال تلك الأدوات التي حصرها التقرير في الفرص المتاحة لتشكيل التطورات السياسية العالمية عن طريق القوة العسكرية النووية والتقليدية والطاقة وعوامل الجذب الاقتصادي، والدعاية، كما أنه ومع استمرار الدور المتعاظم للأمم المتحدة برزت روسيا كواحدة من القوى العظمى جنبًا إلى جنب مع الولايات المتحدة الأمريكية وسائر الدول الأعضاء في مجلس الأمن الدولي ما حدا بالنظام الروسي نحو الحفاظ على مكانته الدولية بل والدعوة عبر الكرملين إلى إنشاء عالم “متعدد الأقطاب”.
-
القوة العسكرية
أشار التقرير إلى أن السلطات الروسية تنفق قرابة الأربعين في المائة من ميزانية الدفاع الخاصة بها علي ترسانتها النووية التي تقارب الألف وثمانمائة من الأسلحة النووية الاستراتيجية والتي يتم العمل من قبل الحكومة الروسية على تحديثها باستمرار باعتبارها سلاحًا رادعًا يسمح لروسيا أن تتحدث إلى الولايات المتحدة متكئة على ما وصفه التقرير”الاستقرار الاستراتيجي” ناهيك عن حق روسيا في استخدام سلاحها النووي في الدفاع عن أراضيها ضد أية هجمات محتملة.
وفي الوقت الذي لم تمثل فيه القوات المسلحة أولوية لبوتين خلال فترات ولايته الأولى والثانية، شهدت ولايته الثالثة ارتفاعًا ملحوظًا في الميزانية المخصصة لوزارة الدفاع فى مسعىً منه نحو إصلاح المؤسسة العسكرية التي أراد لها أن تتحول نحو مزيد من المرونة والتكامل كبديل عن الجيش النظامي للاتحاد السوفيتي وهو ما بدا واضحًا في تحويل الجيش إلى حالة من الاستعداد الدائم مع إدخال معدات جديدة وخاصة في سلاح البحرية وأنظمة صواريخ دفاعية، ورغم ذلك تبقى التركيبة السكانية والتعليم تحديات مستمرة حيال استمرار عمليات الإصلاح المنشودة خاصة وأن روسيا هي ثاني أكبر مصدر للأسلحة في العالم بقدرتها على تقديم تكنولوجيا جيدة بتكلفة منخفضة نسبيًا.
2-الطاقة
وصف التقرير الطاقة بمفتاح القوة الاقتصادية الروسية فمن ناحية تمتلك روسيا الاحتياطي الأكبر عالميًا من الغاز الطبيعي كما أنها تحتل المركز الثامن من الاحتياطيات على صعيد النفط وهو ما ينعكس بصورة إيجابية على ميزانية روسيا الاتحادية التي تساهم فيها موارد الطاقة بمقدار النصف في حين تبلغ النسبة الثلثين من عائدات التصدير ناهيك عن أن الارتفاع الذي شهدته أسعار النفط بين عامي 2003 و 2008 ساهم في نمو الناتج المحلي الروسي بمقدار النصف.
3- الجذب الاقتصادي والتكامل
تتمتع روسيا بكثير من عوامل الجذب الاقتصادي خاصة مع النمو المضطرد الذي شهده سوق العمالة والبضائع قليلة التكلفة مع بدايات الألفية الجديدة، كما أن روسيا تحتل المركز الثاني في استقبال العمالة الوافدة التي بلغت قرابة الأحد عشر مليون وافد لسوق العمالة الروسية تنحدر الغالبية العظمى منهم من الدول الفقيرة في وسط آسيا بالتزامن مع الآثار السلبية التي خلفتها الأزمة الاقتصادية في بعض الاقتصاديات الغربية والفراغ الذي خلفه انهيار الاتحاد السوفيتي ما أعطى المزيد من النفوذ للكرملين في فرض سياسته السوقية سواء بفتح الأسواق أو إغلاقها كواحدة من أدوات السياسة الخارجية للكرملين على الرغم من انضمام روسيا لمنظمة التجارة العالمية.
ولقد أفسحت هذة الدفعة الاقتصادية المجال واسعًا أمام الدب الروسي لإنشاء الاتحاد الجمركي الذي يضم بالإضافة لروسيا بيلاروسيا وكازاخستان في عام 2010 و الذي يعد واحدًا من أهم مشاريع التكامل الطموحة والتي تم بموجبها إلغاء الرسوم الجمركية الداخلية وتطبيق قانون جمركي موحد تشرف عليه هيئة وطنية عليا هي اللجنة الاقتصادية الأوراسية التي تتخذ من موسكو مقرًا، لها كما تم إضافة دول جديدة للاتحاد هي أرمينيا وقيرغستان وطاجيكستان بفضل سياسة العصا والجزرة التي اتبعتها روسيا.
وبالرغم من الرؤية التي تروج لها الدولة الروسية باعتبار الاتحاد الجمركي الأوراسي ككيان مشابه للاتحاد الأوروبي، إلا أن ثمة اختلافات جذرية تكتنف هذا التشبية ولعل أهمها هو أن إجمالي الناتج المحلي في روسيا يفوق عشر مرات ثاني أكبر الدول في الاتحاد الأوراسي وهو ما ينعكس بدوره على صياغة القرارات خلافًا لما يجري بالاتحاد الأوروبي.
4- الدبلوماسية، والعلاقات المجتمعية، والخدمات الاستخباراتية، والدعاية
الدبلوماسية والعلاقات المجتمعية
تعتمد الدبلوماسية الروسية في جوهرها على التحليل الجيد لنقاط الضعف التي تعتري الخصوم وقدراتها الخاصة ناهيك عن قدرة الكرملين على الجمع بين الدبلوماسية ومجموعة من الأدوات الاقتصادية والعسكرية والاجتماعية.
ولقد بدا واضحًا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي أن الكرملين يحسن استغلال العلاقات البشرية، كما أنه وبالرغم من سياسة الكرملين الصارمة في احترام سيادة الدول وعدم التدخل في الشؤون الخارجية، تم تبني قانون لدعم “الرفقاء” في الخارج الذين يحتفظون بعلاقات مع روسيا أو مع الاتحاد السوفيتي ولتحقيق هذا الدعم قام الكرملين برعاية مختلف المنظمات التي تهدف إلى تعزيز الجذور المشتركة لما يوصف افتراضًا “بالعالم الروسي” وتحارب ضد “تزوير التاريخ”.
الخدمات الاستخباراتية
وفي ذات السياق، تعتبر أجهزة الاستخبارات الروسية بمثابة المورد الهام لتحقيق أهداف السياسة الخارجية الروسية التي لا تقتصر مهمتها الاستخباراتية عند جمع المعلومات وتحديد الأهداف بل تتعدى ذلك إلى القيام بعمليات سرية بفضل الكم الهائل من موظفيها الذي يفوق أعداد الموظفين في كل من الوكالة الأمريكية للأمن الداخلي ووكالة ناسا ووكالة الاستخبارات الأمريكية (سي أي إيه) ومكتب التحقيقات الفيدرالي (إف بي آي) مجتمعة، فضلاً عن عامل الذكاء البشري الذي تتميز به أجهزة الاستخبارات العسكرية والمدنية الروسية متفوقة في ذلك على كافة أجهزة الاستخبارات الغربية.
الدعاية
تنظر السلطات الروسية إلى الدعاية باعتبارها أحد استراتيجيات جزء هام من التأثير على التصورات الغربية وهو ما ينعكس بدوره على الميزانية الهائلة التي يمنحها الكرملين لدعم ترسانة الإعلام الروسية التي تضم وكالات الأنباء المختلفة ووسائل الإعلام المحلية و قناة روسيا اليوم “RT”، التي تعتبر بمثابة سلاح الإعلام الروسي لمجابهة حرب المعلومات العالمية إلى الحد الذي وصلت به ميزانية القناة التليفزيونية ثلاثمائة مليون دولار في عام 2013 حسب ما صرح به المدير التنفيذي لقناة روسيا اليوم التي تقوم بدورها بنقل وجهة النظر الروسية حيال القضايا العالمية والأحداث الجارية التي غالبًا ما يكتنفها تقديم نظريات المؤامرة ضد الولايات المتحدة وتغطية عدد من القضايا الاجتماعية والظواهر السلبية في المجتمعات الغربية وسط مؤشرات نجاح عالية تضمنت تصنيف القناة كواحدة من أكبر ثلاث قنوات إخبارية في المملكة المتحدة والولايات المتحدة.
تحدي الغرب
تنتهج روسيا نهجًا براجماتيًا عمليًا نحو استخدام أدواتها يجمع بين الإكراه والقوة الناعمة، كما أن الكرملين يؤمن بأن استخدام سياسات القوة تجاه الغرب سوف يؤتي بثماره إذا ما تم تحديد أهدافه بحكمة، الأمر الذي بدا واضحًا في ثلاثة مشاهد رئيسية في كل من أوكرانيا والاتحاد الأوروبي والعلاقات الروسية الأمريكية.
تنظر روسيا إلى دول الجوار التي استقلت عقب انهيار الاتحاد السوفيتي باعتبارها السبيل نحو إعادة الهوية الإمبراطورية الروسية والاستقرار الداخلي خاصة وأن العلاقات التي ترتبط بها روسيا مع هذه الدول على الصعيد العسكري والاجتماعي والاقتصادي يجعل من الصعب على هذه الدول أن تسعى نحو تأسيس دول مستقلة بصورة تامة، الأمر الذي ألقى بظلاله على تداعيات الأزمة الأوكرانية خاصة وأن أوكرانيا ترتبط بروابط ثقافية مع روسيا التي تنظر من جانبها إلى أوكرانيا باعتبارها مهد الأرثوذكسية الروسية إلى الحد الذي يعتبر فيه الكرملين أوكرانيا نموذجًا مصغرًا للدولة الروسية، كما أن البعض في روسيا لا ينظر إلى أوكرانيا باعتبارها بلدًا أجنبيًا، غير أن النهج المغاير الذي اتخذته أوكرانيا اعتبرته روسيا بمثابة هزيمة لسياستها الخارجية.
وبينما كان الرئيس الأوكراني فيكتور يانكوفيتش يمضي في طريقة نحو التوقيع علا اتفاقية الشراكة والتجارة الحرة مع الاتحاد الأوروبي، عمدت روسيا من جانبها إلى إستخدام سياسة العصا والجزرة لممارسة المزيد من الضغوط على الجانب الأوكراني في محاولة لإثنائه عن المضي قدمًا نحو الشراكة مع الاتحاد الأوروبي من خلال عدد من الإجراءات التي شملت حظر استيراد بعض البضائع الأوكرانية وتطبيق إجراءات جمركية معقدة على السلع الأوكرانية بل والتهديد بإلغاء عدد من الصفقات الخاصة بالصناعات الثقيلة مع الجانب الأوكراني.
بالمقابل أبدى بوتين استعداده لتقديم مزيد من المزايا المالية ليانكوفيتش لدفعه نحو تعميق التعاون الاقتصادي مع روسيا كبديل عن الاتحاد الأوروبي تمثلت في تعهد الجانب الروسي بضخ مزيد من الاستثمارات الروسية في السوق الأوكرانية تصل قيمتها خمسة عشر مليار دولار مع تخفيض أسعار الغاز الذي تستورده أوكرانيا من روسيا وهو ما قوبل بموافقة من قبل يانكوفيتش الذي سمح لبوتين جراء هذه الموافقة أن يكون بمثابة الضامن لاستمراره في حكم البلاد.
بيد أن الأمور شهدت منعطفًا آخر مع اندلاع المظاهرات الاحتجاجية في كييف مطالبة برحيل يانكوفيتش وهو ما ألقى بظلال من القلق لدى الكرملين الذي سعى بدوره نحو دعم يانكوفيتش للقضاء على ما أسموه “الإرهابيين” “والمتطرفين” عبر حملات قمعية ووحشية أسفرت في نهايتها عن الإطاحة بيانكوفيتش وتشكيل حكومة جديدة من قبل المعارضة بل والدعوة لإجراء انتخابات رئاسية مبكرة ما يشي بأن دعم بوتين ليانكوفيتش كان بمثابة الرهان الخاطئ.
ولتغطية فشلها في التعاطي مع الثورة الأوكرانية، عمدت الحكومة الروسية نحو إعادة السيطرة على كييف من خلال دعم قوات الدفاع عن النفس في شبة جزيرة القرم وسط مزاعم بحماية الأقليات التي تتحدث اللغة الروسية في أوكرانيا في انتهاك صارخ من جانبها للضمانات الأمنية لأوكرانيا التي حصلت عليها بموجب مذكرة كان قد تم الاتفاق عليها في بودابست عام 1994، الأمر الذي أفضى في النهاية إلى بسط السيطرة الروسية على شبة جزيرة القرم.
وقبل خمس سنوات من تصاعد الأزمة الأوكرانية، كانت روسيا قد أرسلت إشارات من جانبها للمعسكر الغربي محذرة إياه من التعدي على مناطق النفوذ الروسي حتى أن تجربة الصراع الروسي مع جورجيا عام 2008 قد أظهرت وبوضوح استعداد الكرملين التام في استخدام القوة العسكرية التقليدية في تحقيق أهداف السياسة الخارجية الروسية التي تمثلت في الحد من قدرة الدول المجاورة في اختيار توجهات سياساتها الخارجية وكذلك وقف المزيد من توسعات حلف شمال الأطلسي “الناتو” في المناطق التي كانت خاضعة لسلطة الاتحاد السوفيتي ودعم الرفقاء في الخارج بالرغم من السياسة الروسية الصارمة الخاصة باحترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية.
روسيا والاتحاد الأوروبي
تعتبر الطاقة بمثابة كلمة السر في العلاقة التي تربط بين كل من روسيا والاتحاد الأوروبي، ففي الوقت الذي يعتبر فية الاتحاد الأوروبي هو السوق الرئيسية للإنتاج الروسي من الطاقة، تأتي روسيا كأكبر مورد للطاقة للاتحاد الأوروبي مما يجعل من الطاقة واحدة من أدوات السياسة الخارجية الروسية لمواجهة الخطط الأوروبية للتنويع في مصادر الحصول على الطاقة من مناطق في وسط آسيا على سبيل المثال في رسالة مفادها أن على الاتحاد الأوروبي أن يبدي سعادة تجاه الحصول على الموارد الطبيعية الروسية بغض النظر عن الشروط والاتفاقيات وهو ما قوبل بمعارضة من قبل بروكسل التي حاولت من جانبها الحد من سيطرة روسيا على سوق الطاقة الأوروبي مع البحث عن بدائل متاحة لإمدادات الطاقة، غير أنه ومع تضاؤل الاحتياطيات الأوروبية من الطاقة يمكن القول ووفقًا لرؤية الكرملين بأن قبول الوضع الراهن في روسيا هو شرط مسبق لأمن الطاقة في الاتحاد الأوروبي الذي يمكن لروسيا فقط حينها أن تضمنه.
من ناحية أخرى يمكننا القول بأن الاتحاد الأوروبي قد يبدو عاجزًا عن ضمان أمن الدول المجاورة له ضد الطموحات الروسية خاصة مع تنامي القدرات العسكرية الروسية وسط مطالبات بإعطاء روسيا مقعدًا في الاتحاد الأوروبي.
روسيا والولايات المتحدة: التنافس نحو العالمية
بينما كانت الأهداف الروسية في أوروبا تتمحور حول كبح جماح النفوذ الأمريكي في أوروبا، سعت روسيا على المستوى العالمي نحو اعتراف دولي بها كدولة عظمى، ومع تدني الطموحات الدولية للولايات المتحدة الأمريكية في عهد الرئيس باراك أوباما، كان الدب الروسي على موعد مع تحقيق بعض النجاحات.
من جانبه، سعى الرئيس الأمريكي باراك أوباما نحو إعادة رسم العلاقات مع روسيا بداية من عام 2009 وسط آمال بإنجاز عهد جديد من العلاقات بين البلدين بقيادة كل من أوباما وميدفيديف، غير أن الكرملين أدرك حينها أن الدافع الرئيسي وراء السياسة الامريكية الجديدة تجاه روسيا لم يكن سوى التخلص من إرث المشاكل التي تكتنف علاقة البلدين وتوجيه الدفة نحو قضايا أخرى أكثر أهمية وكانت معاهدة “البداية الجديدة” التي وقعت بين البلدين لتخفيض التسليح النووي بمثابة التأكيد على وضع روسيا كقوة نووية.
من جانب آخر أفسحت الأزمة السورية المجال واسعاً أمام روسيا للتقدم خطوة نحو الصدارة العالمية فلم تكتفِ روسيا من جانبها بوضع المبادرات والحضور القوي على طاولة المفاوضات بل واستطاعت أيضًا تقديم الدعم التام لحليفها الرئيس السوري بشار الأسد بالإضافة إلى توقيع اتفاق حول حظر استخدام الأسلحة الكيميائية السورية والتأكيد على سياسة عدم التدخل في الشؤون الداخلية لسوريا وهو ما كان بمثابة نجاح للدبلوماسية الروسية بالرغم من استمرار عمليات القتل بحق المعارضة السورية في مقابل إخفاق الولايات المتحدة ودول الخليج والغرب الذين اتخذوا مواقف مبكرة مناهضة لبشار الأسد منذ البداية مع تقديم الدعم العسكري لقوات المعارضة.
أخيرًا كانت قضية منح السلطات الروسية حق اللجوء السياسي للمستشار السابق في وكالة الأمن القومي الأميركية إدوارد سنودن إضافة جديدة في مسلسل إخفاقات السياسة الخارجية للولايات المتحدة الامريكية والتي أحسن الرئيس الروسي بوتين استغلالها كوسيلة دعائية كانت لها تداعياتها الايجابية في تعزيز شرعيته على صعيد السياسة الداخلية واكتساب مزيد من الدعم والتعاطف على الصعيد الغربي.
قبول التحدي
إذن يمكننا القول بأن الوقت الراهن شهد عودة روسيا للساحة العالمية مع معارضة قوية للمعسكر الغربي من خلال تطبيق سياسة خارجية واعية تسعى نحو زحزحة الحكومات الغربية من أوكرانيا وجورجيا ودفع الولايات المتحدة خارج النفوذ الأوروبي والوقوف على قدم المساواة الدبلوماسية مع واشنطن.
وبالرغم من التحديات الاقتصادية التي تكتنف المشهد الروسي الذي لن تكفيه عائدات الغاز وهو ما سيدفع الرئيس الروسي نحو تغيير سياسته الخارجية، إلا أنه وعلى مدار السنوات المقبلة ستضطر الحكومات الغربية إلى قبول السياسة الخارجية الروسية خاصة في عهد بوتين خاصة وأن الاستمرار في تجاهل السياسة الخارجية للكرملين أو حتى التعويل على تغييرها في القريب العاجل بات محل شك ويفضي إلى طريق مسدود.