مثل إعلان قيس سعيد بصفة رسمية يوم الأربعاء 9 فبراير (شباط) 2022 بحل المجلس الأعلى للقضاء مناسبة جديدة للنقاش حول علاقة الرئيس بالقضاء؛ حيث عرفت هذه العلاقة توترات عديدة قبل الانقلاب وبعده، ويعتبر المجلس الأعلى للقضاء مؤسسة دستورية تونسية ضامنة في نطاق صلاحياتها حسن سير القضاء، واستقلاليته، طبق أحكام الدستور، والمعاهدات الدولية المصادق عليها.
يقول قيس سعيد إن الهدف من حل مجلس القضاء هو تطهير البلاد، وأنه لن يتدخل في القضاء أبدًا، ويعود التجاذب بين سعيد والقضاء حسب العديد من المتابعين إلى ما قبل 25 يوليو (تموز). في هذا السياق يقول أحمد الذوادي عضو المكتب التنفيذي لحزب «حركة وطن عادل» المساندة لقيس سعيد لـ«ساسة بوست»: إن «توتر العلاقة بين قيس سعيد والمجلس الأعلى للقضاء سابق للحظة الانقلاب 25 يوليو حينما قرر المجلس نقل زوجة رئيس الجمهورية من العاصمة إلى صفاقس جنوب البلاد، حيث فهم بهذه الخطوة أن المجلس استهدف الرئيس»، وقد ذكَر الرئيس خلال لقائه إطارات وزارة الداخلية فجر الأحد السادس من فبراير 2022 حادثة نقل زوجته من العاصمة إلى صفاقس جنوب البلاد، واعتبر أنه وقع على قرار نقلها التزامًا بالقانون.
استقلال القضاء.. لم يعد في مأمن
عرفت تونس خلال زمن الاستبداد توظيف السلطة التنفيذية للقضاء في تصفية خصومها، لذلك كان شعار استقلالية القضاء من أبرز الشعارات التي رفعت إثر ثورة يناير 2011، وقد نص الفصل 102 من الدستور التونسي لسنة 2014 على أن «القاضي مستقل لا سلطان عليه في قضائه لغير القانون».
وقد ردد قيس سعيد في أكثر من مناسبة أن القضاء غير مستقل، وأن هناك أطرافًا سياسية «تسللت» إلى المحاكم وضربت استقلالية القضاء. كما اتهم المجلس الأعلى للقضاء بالفساد، وبيع الوظائف، والقيام بالحركة القضائية على أساس الولاء، مشيرًا إلى أن مكانهم في المحاكم يجب أن يكون كمتهمين لا قضاة.
يقول أسامة عويدات المسؤول الإعلامي لحركة الشعب – الموالية لقيس سعيد – في تصريح لـ«ساسة بوست»: إن «القضاء في تونس غير مستقل، ومخترق من قبل أحزاب سياسية للتغطية على الجرائم المتعلقة بملفات الاغتيالات السياسية، وملف الجهاز السري، والتمويل الأجنبي، بالإضافة إلى العديد من القضايا المتعلقة بشبهات فساد مرتبطة بقياداتها».
ويعتبر عويدات أن «رئيس الجمهورية يخوض معركة استقلال القضاء من أجل تطهيره من الفاسدين وتحريره من سيطرة الأحزاب السياسية»، ويضيف عويدات: «نحن نريد قضاء مستقلًا عادلًا، وناجزًا، قضاء للشعب التونسي، وليس قضاء البحيري، أو قيس سعيد».
في المقابل اعتبر وزير حقوق الإنسان والعدالة الانتقالية الأسبق والنائب سمير ديلو في تصريح لـ«ساسة بوست» أن « الدستور والقوانين التّونسيّة وضعت آليات لضمان استقلال القضاء، وأن المؤسّسات القضائية في تونس – وعلى رأسها المجلس الأعلى للقضاء – رغم كلّ الإخلالات والنّقائص، تتجه نحو تكريس استقلالية حقيقية».
القضاء سلطة مستقلة أم وظيفة
تضمن الدستور التونسي بابًا كاملًا تحت عنوان السلطة القضائية، ونص الدستور على أن «القضاء سلطة مستقلة تضمن إقامة العدل، وعلوية الدستور، وسيادة القانون، وحماية الحقوق والحريات»، ويعتبر رئيس الجمهورية القضاء «وظيفة داخل الدولة»، حيث يؤكد كل مرة أن الشعب وحده صاحب السلطة، وأن الجميع موظفون عند الدولة، بما في ذلك القضاة، مضيفًا أن القضاء ليس دولة داخل الدولة، وأن القضاة هم قضاة الدولة، وليس الدولة دولة القضاة.
وقد أثارت هذه التصريحات حفيظة القضاة وهياكلهم النقابية، معتبريها مقدمة لضرب استقلاليتهم، ومدخلًا للسيطرة على القضاء، حيث صدر عن المجلس الأعلى للقضاء بيان شدد فيه على تمسكه بوضع القضاء كسلطة من سلط الدولة ضمانًا لاستقلال القضاء.
في نفس السياق أصدرت جمعية القضاة التونسيين بيانًا حذرت فيه من «المساس بضمانات وآليات استقلالية القضاء ومن التراجع على تصور السلطة القضائية المستقلة المحققة للتوازن بين السلطات، والضامنة لإقامة العدل، وسيادة القانون، ونفاذه إلى تصور القضاء الوظيفي، والجهاز التابع للسلطة التنفيذية والخاضع لها».
ومن جهة أخرى يعتبر أستاذ القانون في الجامعة التونسية وعضو المجلس الوطني التأسيسي رابح الخرايفي في تصريح لـ«ساسة بوست» أن الجدل القائم حول هذه المقاربة، حاصل منذ أكثر من 200 سنة، وللبتَ في الموضوع ذهبت الأنظمة المقارنة إلى تكريس نظرية المحاكمة العادلة التي تضمن للقاضي استقلاليته من خلال عدم تدخل السلطة التنفيذية في الملفات القضائية المنشورة، وعدم الضغط على القاضي، وابتزازه، بالإضافة إلى عدم التدخل في قرارات نقلة القاضي وتأديبه وترقيته».
مشروع الصلح الجزائي.. النقطة التي أفاضت الكأس
رفض المجلس الأعلى للقضاء إبداء الرأي في مشروع القانون المعروض عليه من قبل وزيرة العدل، والمتعلق بالصلح الجزائي مع من يعتبرهم الرئيس «فاسدين»، وقد اعتبر المجلس الأعلى للقضاء أن مشروع القانون المعروض عليه «جاء بصنف جديد مستحدث يتمثل في العدالة التصالحية التي تنم عن خيار تشريعي جديد، قائم على اعتماد المصالحة كأحد الطرق الودية البديلة لفض النزاعات الجنائية»، معتبرًا أن «اعتماد هذه الطرق في فض النزاعات، تغييرًا جوهريًا طال القضاء وإجراءات التقاضي وأسند للقاضي دورًا جديدًا لا تستوعبه أحكام الفصل 102 من الدستور، كما لا يستوعبه النظام الإجرائي المعتمد حاليًا في التقاضي أمام محاكم القضاء ولا سيّما الجزائي منها، وفقه.
يقول النائب عن حزب قلب تونس فؤاد ثامر لـ«ساسة بوست» بأن«رفض المجلس الأعلى للقضاء إبداء الرأي في علاقة بمشروع قانون الصلح الجزائي هي النقطة التي أفاضت الكأس في العلاقة بين سعيد والقضاء».
وفي السياق ذاته يضيف فؤاد ثامر أن «قيس سعيد يراهن كثيرًا على مشروع الصلح الجزائي، ويعلق عليه آمالًا كبيرة لتحقيق منجز اقتصادي واجتماعي، حيث يعتبره من أهم المشاريع التي يدافع عنها منذ سنة 2012، أي قبل توليه الرئاسة، كما يعتبر هذا القانون أحد العناوين الأساسية لحملة سعيد الانتخابية».
ويهدف مشروع الصلح الجزائي إلى توظيف الأموال المودعة بصندوق الصلح والمسترجعة من قبل «المتورطين في الاعتداء على المال العام» في تمويل إنجاز مشاريع تنموية بالجهات الأكثر فقرًا بالبلاد اعتمادًا على مبدأ التمييز الإيجابي.
هل الحل في حل المجلس الأعلى للقضاء؟
أعلن قيس سعيد عن حل المجلس الأعلى للقضاء معتبرًا إياه من الماضي، وفي تعليق على هذا القرار يقول مراد المسعودي رئيس جمعية القضاة الشبان إن الهدف من حل المجلس الأعلى للقضاء هو السيطرة على القضاء من قبل الرئيس حتى يستعملها في تصفية المعارضين والإعلام والجمعيات.
وفي السياق ذاته يعتبر النائب والمحامي سمير ديلو أن «إصلاح المنظومة القضائية يجب أن يكون من داخل المنظومة القضائية، وفي إطار الدّستور، والقوانين النّافذة، وليس لرئيس الجمهوريّة أن ينفرد في تنفيذ إرادته الخاصّة لفرض ما يراه إصلاحًا دون أيّ حوار، ولا تشاركيّة، بما ينفي أيّ رغبة في الإصلاح، أو قدرة عليه، ويخفي نوازع تسلّطيّة ترغب في السيطرة على القضاء، واستهداف استقلاليته، وتوظيفه لتأبيد حكمه، واستهداف خصومه».
في المقابل يعتبر علي الشورابي القاضي المباشر «رتبة 3» أن «قرار رئيس الجمهورية قيس سعيّد بحلّ المجلس الأعلى للقضاء جاء استجابة لدعوة كلّ القضاة، ونشطاء المجتمع المدني، وعميد المحامين، وكلّ من يريد قضاءً عادلًا، وأداة لارجاع الحقوق لاصحابها»، حسب قوله.
وبين الشورابي أن القرار جاء في إطار الاستثناء، وهو في الطريق الصحيح، وهو بداية الإصلاح الحقيقي، ولا بدّ عن تفعيله لضمان عبور تونس لدولة ديمقراطية مدنية حقيقية، وفي نفس السياق، وبنفس النبرة التأييدية، يقول رابح الخرايفي لـ«ساسة بوست»: إن «الإجراءات المعلنة من قبل قيس سعيد – أي حل المجلس الأعلى للقضاء – إجراءات شجاعة فمنذ 10 سنوات لم تتم الإصلاحات الضرورية في علاقة بالقضاء، بل إن الحكومات المتعاقبة حافظت على نفس المنظومة القضائية الموروثة من قبل بورقيبة وبن علي».
ويقول الخرايفي في نفس الصدد: إن «عدم الجرأة على إصلاح القضاء مرده خوف السابقين من شعار الاستقلالية، وسعيد شجاع في التجرؤ على فتحه»، ويعتبر الخرايفي أن المجلس الأعلى للقضاء فشل خلال فترة وجوده، ولم يقدم أية رؤية لإصلاح المنظومة القانونية، مضيفًا أنه كان خاضعًا لأطراف خارجية، منها النقابات القضائية، والأحزاب السياسية.
على جانب آخر تعتبر استقلالية القضاء من مقومات الدولة المدنية الديمقراطية، كما يؤثر المس بهذا المبدأ حتى في الجانب الاقتصادي؛ إذ يؤكد أستاذ الاقتصاد في الجامعة التونسية والخبير الاقتصادي رضا الشكندالي لـ«ساسة بوست» أنه « في كل المؤشرات الاقتصادية والمالية المتعلقة بمناخ الأعمال ومخاطر الاستثمار، المؤسسات الدولية تأخذ بعين الاعتبار «استقلالية القضاء» كعنصر مهم في جاذبية الدول للاستثمار، وفي مؤشر الحرية الاقتصادية، ومدى قدرة البلد على جلب الاستثمار»، ويضيف بأن ضرب استقلالية القضاء هو ضرب للاستثمار الخاص المحلي والأجنبي ودفع البلاد إلى المجهول؛ إذ لا نمو ولا تنمية اقتصادية في دولة بدون قضاء مستقل.