يتعرض فيلم «What Women Want » للممثل «ميل جيبسون» لفكرة لطالما أسرت خيال المؤلفين والمبدعين، وهي القدرة على قراءة أفكار الآخرين. ماذا لو امتلكنا هذه القدرة؟ وكيف سيكون الأمر غريبًا بحق؟ يدور الفيلم في سيناريو كوميدي بين الأب والنساء اللاتي يقابلهنّ في الشارع والمحال التجارية محاولًا استغلال قدراته الخارقة في صناعة حياة اجتماعية أفضل. من ناحية أخرى قد يبدو الأمر مرعبًا إلى حد ما، لن يكون من المريح لأي شخص إدراكه بأن شخصًا ما يمكنه الاطلاع على ما يفكر فيه أو ما يشغل أفكاره.
الحقيقة أن هذه الفكرة لم تعد خيالًا علميًا الآن؛ فقد استطاع العلماء، وبتقنيات مختلفة، تنفيذ هذه الفكرة في تطبيقات علمية وصحية مختلفة. سنتناول هنا بعض تلك التطبيقات التي استطاع العلماء من خلالها تحويل هذا الأمر – الذي كان يعتبر مستحيلًا حتى وقت قريب – إلى واقع؛ سيجعل حياة الكثير من البشر أفضل.
عقلك بيدين وقلم
كم جميل أن يصبح العلم أداة البشرية لتعويض كل عجز يعترينا. جيمي هندرسون هو طبيب أعصاب في مركز جامعة ستانفورد الطبي، توصل في فبراير (شباط) 2017 إلى نتيجة مفادها: أن ثلاثة أشخاص يعانون من الشلل، تعلموا أن يكتبوا فقط باستخدام قدرتهم على التفكير وزرع دعامات بالمخ، اثنان من الخاضعين للتجربة يعانون من دمار في الخلايا العصبية المرتبطة بالنشاط الحركي، والثالث مصاب في الحبل الشوكي، والثلاثة يعانون من الشلل الكُلي، وجاءتهم فرصة للتعبير عن أنفسهم، حتى وإن فقدوا القدرة على النطق.
تم زرع رقعة سيليكون لتغطي مئات من أجهزة الاستشعار الكهربائية، مثبتة على قشرة الدماغ الحركية الأولية – وهي الجزء المسؤول عن الحركة في الدماغ – وقال هندرسون إن هؤلاء الثلاثة فكروا في تحريك أجزاء مختلفة من أجسادهم، واستطاع الحاسوب ترجمة هذه الأفكار إلى حركات يصنعها المؤشر على الشاشة، وفي غضون يوم واحد تعلم الثلاثة السيطرة على المؤشر جيدًا بما يكفي لكتابة ثماني كلمات في الدقيقة، وسجلوا أعلى سرعة في نظام الكتابة بالأفكار، حتى أن هندرسون يعتبر أنهم يعبرون عن أفكارهم في نصف الوقت الذي يعبر فيه شخص طبيعي دون إعاقة.
هناك بالفعل نظام يمكنه مساعدة فاقدي النطق والحركة على التعبير عن أنفسهم بتحريك الرأس أو الخد أو العين، بشكل يشبه الطريقة التي يستخدمها ستيفن هوكينج كمثال، ولكن الأبحاث الجديدة تسعى لتطوير النظام ليكون التفاهم أسهل، وتقليل الوقت بين التفكير وحركة المؤشر، عن طريق قراءة نشاط المخ، إما خارجيًا، أو من داخله، عن طريق زرع جزء بالمخ، وتحويل الإشارات لرموز مفهومة للآخر.
فرصة أسهل لتعلم العزف الموسيقي
هل شعرت بأنه لا بد من وجود طريقة أخرى أسهل لفهم المعلومات التي نتلقاها في المحاضرة أو أثناء المذاكرة؟ في عام 2016 طور بيست يوكسل وروبرت جاكوب من جامعة تافتس في ماساتشوستس؛ طريقة لقياس درجة صعوبة استقبال عقولهم للتعليمات، وأسموها «باخ» (BACH).
تعمل أداة القياس هذه باستخدام أجهزة استشعار مثبتة على جبين الشخص لقياس مستوى الأكسجين في قشرة الفص الجبهي، وتعتمد عليه النتيجة، فإذا انخفض المستوى كان المخ على استعداد لاستقبال المزيد من المعلومات، وتم تطبيق النظرية على متدربين جدد على عزف البيانو، والذين نجحوا في تعلم مقطوعات موسيقية أسرع من نظرائهم وبدقة أعلى.
يقول يوكسل: إن هذا النهج يمكنه المساعدة في تعلم أي موضوع، الرياضيات، والهندسة، والبرمجة، واللغات الأجنبية، ويخطط يوكسل إلى إضافة العواطف لقياسها بالاستشعار، حيث ترتفع القدرة على استقبال المعارف مع توفر المشاعر الإيجابية، في حين أن المشاعر السلبية تجعلنا محبطين.
ويشير يوكسل لمعلومة قد نغفلها، وهي أن الإفراط في المذاكرة وإدخال معلومات بكثافة إلى عقولنا، ربما يؤدي إلى محو معلومات أخرى قد تكون أهم منها، لكننا لا نعلم؛ لأننا بالفعل نسيناها، وهو ما يساعدنا النظام الجديد على تجنبه، ويؤكد «تون دي جونغ»، عالم النفس التربوي في جامعة توينتي بهولندا: «أجد هذا مثيرًا جدًا؛ فهذا يجعل التعلم لا يحتاج لمدرس، بل لحاسب آلي، وهذا أقصى ما نطمح له، حيث يجعل التعلم أسهل ومتكيفًا مع الظروف الخاصة لكل منا دون التزام».
نوايانا وإرادتنا الحرة لتحقيقها
ماذا لو تمنيت في لحظة شرب كوب من الشاي ووجدت الماء قد بدأ في الغليان في الغلاية دون أن تتحرك أنت؟ في عام 2015 زرع ريتشارد أندرسن وفريقه في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا في باسادينا قطبين صغيرين في القشرة الجدارية الخلفية برأس شخصين، وسجلوا نشاط مئات الخلايا العصبية لكل منهما مع جهاز حاسب آلى لترجمة هذا النشاط إلى رموز مفهومة، ونجحوا في ترجمة رغبة الأول في تحريك ذراعه، والثاني في لعب لعبة على هاتفه عن سجين يحاول تبرئته مع غياب للأدلة.
يقول «بيدرو لوبيز»، والذي يعمل في مختبر للتفاعل بين الإنسان والحاسب الآلي في معهد هاسو بلاتنر في ألمانيا: «نحن نعيش لحظات مثيرة بفضل العلم، فهذا التطور يعطينا أملًا في مستقبل مبهر، حيث تفهم الأجهزة أمنياتنا ونوايانا، وتساعدنا في تحقيق لحظي لخططنا».
تم تصميم الجهاز في الأساس لأصحاب الأطراف الصناعية؛ لمنحهم قدرة على تحريكها بإشارات من المخ، وتم زرعها على رأس ريك سركو، وهو المصاب في حبله الشوكي منذ 12 عامًا ولا يستطيع الحركة، وكانت الفكرة في منحه القدرة على تحريك ذراع صناعية من خلال رصد نشاط في القاع الجداري الخلفي للرأس، وهو الجزء المسؤول عن التخطيط للأنشطة الحركية، ولكن ما يطمح له العلماء اليوم هو التخلي عن الخطط المستقبلية المؤجلة، فما نريده يحدث الآن دون انتظار، وهو ما قد يكون قادرًا على تغير مفهومنا عن الإرادة الحرة من فهم معنوي حقيقي وواقعي، ويمكننا تطبيقه. هذه النوعية من الأجهزة ستجعل الحياة أكثر تشويقًا.
كيف نخفي مشاعرنا؟
يبدو أن هوايتنا في الحديث إلى أنفسنا بينما ننظر في المرآة قد انتهت، فأصبح للباحثين القدرة أخيرًا على سماع المونولوج الداخلي الخاص بنا للمرة الأولى، سيمكنهم قريبًا تفسير ما يدور بداخلنا، أصواتنا الداخلية وشفراتها التي لم تصل إلى أحد، مفتاح هذا الكشف هو نشاط الخلايا العصبية بعقولنا التي تمثل استجابة لمشاعر مختلفة بداخلنا، مثل التردد أو الخوف. في عام 2014 قام فريق بقيادة بريان باسلي بجامعة كاليفورنيا، يتطوير أسلوب يمكنه فك شفرات نشاطنا العصبي، ومعرفة استجابة عقلنا إلى المواقف التي نمر بها.
خضع للتجربة سبعة أشخاص مصابون بالصرع، زرعوا بأدمغتهم أنسجة تمكنهم من سماع استجاباتهم بصوت عال، بالاعتماد على تجارب سابقة لبناء قاعدة بيانات تربط بين كل نشاط دماغي والاستجابة الخاصة به. طلبوا من المختبَرين تحديدها بينهم وبين أنفسهم، واستطاعوا باستخدام هذه البيانات الكشف عما يدور بداخل الآخرين دون أن يفصحوا عنه.
أكد الباحثون احتياجهم لمزيد من الوقت قبل أن يتم اعتماد هذا الأسلوب والوثوق بنتيجته بدرجة كافية، لكنهم يأملون في النهاية في تمكين العاجزين عن التعبير الجسدي من التواصل مع الآخرين دون عائق في فهمهم، ويقول بريان باسلي من جامعة كاليفورنيا: «إذا كنت تقرأ نصًا في صحيفة أو كتاب، فإنك تسمع صوتك يقرأ في رأسك، نحاول فك شفرات نشاط مخك لسماع هذا الصوت، كمساعد طبي لأشخاص عاجزين أو فاقدين للقدرة على النطق، فعندما نسمع شخصًا يتحدث، تنتقل موجات صوته لتنشط الخلايا العصبية الحسية في الأذن الداخلية، والتي تمرر المعلومات إلى المخ، حيث يفسر ما يصله على هيئة كلمات، ويرد عليها المخ دون أن ينطق بها الشخص».
انتهى عصر الترجمة.. فعقولنا تنطق لغة واحدة
في 2012 وجد «جواو كوريا» وزملاؤه بجامعة ماستريخت في هولندا طريقة تمكنهم من الكشف عن نشاط المخ فيما يتعلق بمعنى كلمة واحدة في لغات وثقافات مختلفة. خضع للتجربة متطوعون يتحدثون الهولندية والإنجليزية، ورصدوا نشاطًا في مخهم بماسح تصوير وظيفي بالرنين المغناطيسي عند سماعهم لأسماء أربعة حيوانات تتشابه نغمة نطقها بالإنجليزية: الثور والحصان وسمك القرش والبط، باللغة الإنجليزية أولًا؛ فوجدوا نمطًا مميزًا لنشاط عقلهما لكل حيوان، وعند سماعهم أسماء الحيوانات نفسها بالهولندية، احتفظت الأسماء كلها بنمطها؛ ما يعني أن الكلمات والمفاهيم مهما اختلفت في اللغات تثير في عقلنا نفس الاستجابة، وهو ما جعل كوريا واثقًا في قوله إنه في يوم قادم سيمكننا فك شفرات الكثير من اللغات، دون الحاجة لتعلمها أو البحث في القاموس.
بالرغم من توفر أجهزة متعددة تستطيع التنصت على الكلمات التي نرددها وتحددها لاستخدامها في الإعلانات الموجهة، ويكون كل شيء أقرب لرغباتنا، أراد جواو كوريا تجاوز المعرفة بنشاط الدماغ نحو كلمات معينة، وعبر عن رغبة أكبر. فهناك في نقطة ما بالمخ يُفترض وجود تفسيرات يمكننا سماعها وقراءتها على الحاسب عن الكلمات التي يسمعها من يخضع للتجربة، وهذه النقطة التي يتم فيها معالجة ما نسمعه هي هدف العلماء.