انتصرت الصين مؤخرًا على الولايات المتحدة في معركة قيادة العالم في مجال البحث العلمي، في سباق عالمي احتلت فيه الجزائر مراتب متدنية، ففي الوقت الذي بذلت فيه الجامعات الخليجية والعربية جهودًا بحثيةً مضنية سنة 2020، وأعلنت جامعة «الإمام عبد الرحمن بن فيصل» في السعودية، توصلها إلى لقاح مضاد لفيروس كورونا؛ ما تزال مختبرات الجزائر وجامعاتها غائبة عن العمل، فآخر الإحصائيات المرصودة من قاعدة بيانات «إس أر جي» و«سكوبس» تشير إلى أنَّ الجزائر باتت تحتل مراتب متأخرة عربيًّا من ناحية عدد الأوراق البحثية المنشورة في المجلات والجرائد العلمية المحكمة.
في هذا التقرير نسلط الضوء على واقع البحث العلمي في الجزائر وأسباب تدني الإنتاج البحثي، للأستاذ الجزائري، وأسباب عدم الاهتمام الرسمي به.
الباحثون الجزائريون.. سطوع في الخارج وأفول في الداخل
غادر الجزائر منذ سنة 2001 أكثر من 500 ألف باحث جزائري دون رجعة، بحثًا عن مستقبل أفضل وفرص أوفر للبحث العلمي، علاوة على عشرات الآلاف من الأطر والباحثين والمهندسين والأطباء الذين يغادرون الجزائر كل سنة؛ فالجزائر باتت في المرتبة الرابعة عربيًّا من ناحية هجرة الأدمغة بعد كلٍ من سوريا وتونس ومصر.
وترتكز هجرة الباحثين الجزائريين إلى أوروبا وأمريكا بالدرجة الأولى، والشرق الأوسط وآسيا الشرقية بدرجة أقل؛ فـ38% من الأطباء العاملين بالمستشفيات الفرنسية جزائريون؛ من بينهم أكثر من 10 آلاف طبيب مختص؛ بينما يدرس في الجامعات الأجنبية (فرنسية وروسية وأمريكية وعربية) أكثر من 150 ألف طالب جزائري، منهم 95 ألفًا في برنامج الدراسات العليا، و34 ألفًا يدرسون في طور الليسانس/ البكالوريوس.
وتمتلك الجزائر باحثين عالميين يرسمون قصص النجاح سنويًّا؛ أبرزهم البروفيسور بلقاسم حبة، الذي يُعرف بـ«العربي الأكثر اختراعًا» والذي ورد اسمه ضمن قائمة الباحثين المائة الأكثر اختراعًا في العالم، لحصوله على ما يزيد على 1500 براءة اختراع، وكذلك الباحث في مجال الطاقة البروفيسور كريم زغيب صاحب 500 اختراع، والحاصل على جائزة «ليونيل بوليت» لعام 2019، وهي أرفع جائزة علمية في كندا، وأحد أكثر العلماء نفوذًا بالعالم؛ إضافةً إلى الباحث بشير حليمي، الذي أدخل اللغة العربية إلى أجهزة الكمبيوتر.
وتمتلك الجزائر باحثين من طرازٍ عالمي في مجال الصحة، مثل أخصائي الطب المجهري البروفيسور إلياس زرهوني، الذي أصدر الرئيس الأمريكي الأسبق، جورج بوش، في 26 مايو (أيار) 2002، قرارًا بتعيينه مديرًا للمعاهد الوطنية الأمريكية للصحة في الولايات المتحدة الأمريكية. إضافةً إلى البروفيسور نور الدين مليكشي الذي يعدُّ أحد أبرز العلماء الباحثين في وكالة «ناسا»، والذي قاد فريق مركبة «كيوريوسيتي» الأمريكية التي حصلت على الصور الأولى للمريخ.
وفي مجال التكنولوجيا يعد الدكتور كمال يوسف التومي من أكبر المختصين في علم الروبوتيك، بعدما اخترع أسرع إنسان آلي يمكنه كتابة 1300 سطر في الثانية عام 1990؛ إضافةً إلى البروفيسور نضال قسُّوم وهو فيزيائي فلكي له بحوث حول أشعة جاما وخطوط أشعة جاما النووية، كما له إسهامات في علم الفلك الإسلامي.
ويشتركُ هؤلاء الباحثون الجزائريون ومعهم عشرات الآلاف، في كونهم صناعة محلية جزائرية؛ فمعظمهم هاجر بعد أن تلقى دراسته الأوَّلية في الجزائر، ومنهم من وصل حتى درجة الدكتوراه بالجامعات الجزائرية قبل أن يهاجر خارج البلد.
أمَّا على الصعيد المحلي؛ فلم يفلح سوى أربعة أساتذة جزائريين في الوصول إلى قائمة أحسن الباحثين في العالم لسنة 2018، وذلك حسب تصنيف «Clarivate Analyties Highly Cited Researchers» ويتعلق الأمر بالأستاذ بن شهرة موفق، والأستاذ عباس عدة بيديا، والبروفيسور عبد الواحد تونسي، وهم أساتذة من جامعة جيلالي اليابس بسيدي بلعباس، بالإضافة إلى الدكتور هواري محمد سيد أحمد، وهو أستاذ بجامعة إسطمبولي مصطفى بمعسكر غرب الجزائر.
أمَّا الجهود البحثية الخاصة بفيروس كورونا؛ فلم يكن للباحثين الجزائريين المحليين أي جهود عدا محاولات فردية للمختبرات البحثية الجزائرية لابتكار أجهزة تنفسٍ اصطناعية، أو صناعة مواد تعقيمية وقائية من فيروس كورونا!
الأستاذ الجزائري الأقل بحثًا في الوطن العربي!
تمتلك جامعات الجزائر أكثر من 30 مختبرًا علميًّا على المستوى الوطني، و1400 مختبر داخل الجامعات بمختلف التخصصات، مع تسجيل ألفي باحث على مستوى التراب الوطني، و37 ألف أستاذ باحث؛ وفق إحصائيات وزارة التعليم العالي الجزائرية بخصوص البحث العلمي. غير أنَّ الإنتاج العلمي للجزائر لا يكاد يذكر كمًّا ونوعًا مقارنة مع الدول العربية؛ فبات الأستاذ الجامعي الجزائري الأقل بحثًا في الوطن العربي.
في جولة بقاعدة بيانات «آر أس جي» المعنية بترتيب المجلات والدول حسب الإنتاج العلمي؛ نجد أنَّ الجزائر تأتي في مؤخرة الدول العربية من حيث نسبة الاقتباسات من البحوث العلمية بعد المغرب وسوريا والعراق، وبنسبة 0.52 اقتباس لكلِّ بحثٍ علميٍ؛ بعد أن كانت تلك النسبة سنة 2016 في حدود 6.76 اقتباس لكلِّ وثيقة.
البحث العلمي في الجزائر يحتاج لإرادة حكومية قوية
ووفقًا لقاعدة بيانات «سكوبس» التي تحتوي على ملخصات ومراجع من مقالات منشورة في مجلات أكاديمية، فإنَّ الجامعات الجزائرية نشرت ما يقارب 500 بحث علمي خلال سنة 2020، في حين أنتجت جامعة الملك فهد للبترول والمعادن السعودية فقط، في السنة نفسها أكثر من ألفي بحث!
وفي السياق نفسه؛ أجرى الباحث الجزائري وعميد كليَّة العلوم بالشارقة الإماراتية نوَّار ثابت دراسةً نشرها على حسابه عبر «فيسبوك»؛ وجد فيها أنَّ معدَّل إنجاز الأستاذ الجامعي الجزائري هو الأدنى مقارنةً بالدول العربية بحيث يبلغ 0.3 منشور في السنة لكل أستاذ جزائري، بينما بلغ معدَّل الأستاذ بالجامعات الإماراتية في السنة 2.1 بحث منشور، ومعدل الأستاذ بالجامعات السعودية 1.7 بحث منشور لكل أستاذ حسب الدراسة ذاتها.
وإذا ما قارنا نسبة إنجاز الأستاذ الجزائري مقارنة مع أساتذة الجامعات السعودية والإماراتية، فسنجد أن الأستاذ في الدولتين الخليجيتين ينتج أكثر من ستة أضعاف ما ينتجه الأستاذ في الجامعات الجزائرية!
وكشف تصنيف مؤشر «نيتشر» للمؤسسات العلمية في العالم – المبني على عدد البحوث المنشورة في مجموعةٍ مختارة من الدوريات العلمية عالية الجودة – عام 2020، عن وجود ثماني جامعات جزائرية فقط من أصل أكثر من 105 جامعات على المستوى الوطني في التصنيف؛ وتوضح بيانات المؤشر أنَّ جامعة «قسنطينة 1» تعدُّ أفضل جامعة جزائرية من ناحية البحث العلمي، متفوقةً على مركز تطوير الطاقات المتجددة بالعاصمة، وعلى جامعتي وهران وهواري بومدين.
أمَّا أحسن الجامعات الجزائرية؛ وفق تصنيف «شيماجو» فتأتي جامعة الجيلالي اليابس بسيدي بلعباس، بوصفها أحسن جامعة جزائرية، بعد أن احتلت المرتبة 741 عالميًّا.
لماذا لم تعد الحكومة الجزائرية مهتمة بالبحث العلمي؟
مع اقتراب نهاية كلِّ سنة؛ يتفاجأ الجزائريون بحجم الميزانيات المرصودة لكلِّ قطاع في إطار موازنة السنة؛ وتبدأ المقارنات التي لا تنتهي بين جدوى رصد المليارات لقطاعاتٍ لا تعدُّ بالنسبة للجزائريين مهمَّة مقارنةً مع حجم ميزانيتها.
ففي الوقت الذي قفزت فيه مخصصات وزارة المجاهدين في مشروع قانون المالية لسنة 2021 إلى 1.8 مليار دولار أمريكي. بعد أن كانت مليار دولار قبل سنتين؛ واستقرَّت ميزانية الدفاع عند 9.6 مليارات دولار؛ والثقافة عند 119 مليون دولار؛ بلغت ميزانية التعليم والبحث العلمي 2.9 مليارات دولار تذهب حصة الأسد منها إلى ميزانيات الخدمات الجامعية.
فتشير الأرقام إلى أنَّ 9% فقط من ميزانية وزارة التعليم العالي تخصص للجهود البحثية، كما أنَّ تلك النسبة لا تذهب في الغالب إلى تمويل المشروعات البحثية ومساعدة الباحثين على الإنتاج العلمي، بل مخصصة، حسب مسؤولٍ بوزارة التعليم العالي اتصل به «ساسة بوست»، للخدمات المرافقة للبحوث العلمية!
وعن أسباب عدم الاهتمام الرسمي بميدان البحث العلمي؛ يؤكد لنا المسؤول بوزارة التعليم العالي – الذي رفض الكشف عن هويته – أنَّ الحكومة الجزائرية باتت مقتنعةً تمامًا بأنَّها ليست بحاجة إلى بحث علمي تنفق عليه بدون أن تأخذ ثماره.
ويضيف المتحدث «إذا ما نظرنا إلى الميدان اليوم، فسنجده غير منتج، والجزائر دولة لا تتمتع بالموارد، عكس الدول الأوروبية التي يفرض عليها واقعها تشجيع البحث العلمي؛ كما أنَّ أغلب الشركات في الجزائر هي شركات استهلاكية لا تبحث عن سند بحثي لها».
وختم المسؤول حديثه بالقول إنَّ «عدم الاهتمام الرسمي بالبحث العلمي هذا أفرز أزمة جديدة، وهي آلاف الطلبة والباحثين الذين يعانون البطالة، والذين يتوجهون قسرًا إلى مغادرة الجزائر وبالتالي خسارتهم» بحسب المتحدث.
مقر وزارة التعليم العالي والبحث العلمي الجزائرية، مصدر الصورة: الجزائر الآن
وفي رحلة البحث عن أسباب عدم الاهتمام الرسمي بالبحث العلمي، علينا أن نقف جديًّا عند واقع البحث العلمي في الجزائر، ففي الجزائر لا توجد منحٌ خاصة أو علاوات عن البحث العلمي؛ كما أنَّ ترقية الأساتذة في الجامعات يعتمد على أسس غير تلك المتبعة عالميًّا، فالأستاذ الجزائري بإمكانه أن يرقى من درجة أستاذ محاضر صنف ب إلى درجة الأستاذية فقط إذا نشر ثلاثة مقالات بحثية، بينما في الدول الأوروبية قد تجد طالبًا بالدكتوراه بعشرات البحوث العلمية!
ولا يمكن إغفال السياسة حين نتحدث عن البحث العلمي في الجزائر؛ فالمناصب العليا بالبحث العلمي لصيقةً بالسياسة. فعمداء الجامعات الجزائرية يعينون بقرار سياسي من رئيس الجمهورية، وبالتالي كيف للأستاذ الجامعي الجزائري أن يفكر بالمناصب عن طريق البحث العلمي ما دامت السياسة تختصر الطريق!
ويلخص الباحث والدكتور محمد لمين بن بوراس، نظرة الحكومة الجزائرية إلى ميدان البحث العلمي في حديثه لـ«ساسة بوست» بقوله: «كل دول العالم بما فيها دول العالم الثالث؛ كلما زاد إنتاجك العلمي زادت المنح والعلاوات، وتتحصل على راتب أعلى، إلا في الجزائر، «السوسيال (الشبكة الاجتماعية)» هو سيد الموقف. سواء كنت ناشرًا للبحوث والمنشورات، أو كنت نائمًا يقتصر إنتاجك على التدريس فقط، فالأمر سيان والراتب واحد. بل ربما ينال النائم غير المنتج راتبًا أعلى ومنزلة أكبر بحكم الأقدمية لا الأحقية».