منذ بداية يومنا، وحتى نهايته تمثل اللغة، وكذلك الكتابة، جزءًا لا يتجزأ من تسهيل مهامنا، بدايةً من التواصل مع الآخرين، وحتى قراءة اللافتات في الطرقات، والتواصل من أجل إنجاز أعمالنا، مرورًا بالتعبير عن مشاعرنا الإيجابية أو السلبية، وكذلك التعلميات نلقيها على مسامع أبنائنا قبل ذهابهم إلى المدرسة.
«حدود لغتي هي حدود عالمي»؛ هكذا استطاع الفيلسوف النمساوي لودفيج فيتجنشتاين تلخيص قدرة اللغة على تحديد مصير الإنسان والعالم الذي ينتمي إليه في الحياة، فاللغة هي التي منحت البشر القدرة على التواصل وتكوين مجتمعات، ونقل المعرفة والثقافة من جيلٍ إلى جيل، عبر الكتابة.
فنجد على جدران المعابد والكهوف قصصًا تركها لنا أسلافنا تخبرنا عن أنماط حياتهم وعن المعرفة التي وصلوا إليها، ومن ثمَّ كان اختراع الأبجدية يعد ثورة في تسجيل المعلومات، فقد كانت أكثر من مجرد نظام للكتابة؛ حتى إن فيليبا ستيل أستاذ اللغة بجامعة «كامبريدج» وصفتها بأنها «رمز للثقافة».
فعلى الرغم من أن اللغة بدأت على شكل إشارات وأصوات عشوائية، فإن الإنسان وجد أن تدوينها وكتابتها ضرورة لا مفر منها، وبدأت الكتابة على شكل رموزٍ وصورٍ معقدةٍ كما نرى في لغة حضارة المايا أو الحضارة المصرية القديمة، لكن مع الوقت وصلت للشكل المبسط الذي نعرفه حاليًا؛ فكيف تطوَّرت الكتابة كما نستخدمها الآن؟ هذا أمر ما زال يُكشف الحجاب عن حقائقه باستمرار مع كل نص قديم يعثر عليه الباحثون، ويشرعون في دراسته، وفي هذا التقرير نتحدث عن نصٍّ نادرٍ بلغةٍ أفريقية قديمة قد يعيد كتابة تاريخ تطور الكتابة عالميًّا.
5 آلاف عام من النور.. هكذا ظهرت الكتابة في الشرق الأوسط
كان للشرق الأوسط وأفريقيا دور مهم في ظهور الكتابة كما نعرفها الآن، وهذا بناءً على ما عثر عليه الباحثون من نصوص قديمة حتى الآن، وفي تاريخنا المعروف يعد أول اختراع للكتابة في العالم منذ أكثر من 5 آلاف عام في الشرق الأوسط، قبل أن تنتشر في الصين والأمريكتين.
وتعد الحضارة المصرية القديمة من أولى الحضارات في التاريخ المعروف التي وضعت أساسًا للأبجدية واللغة عبر الهيروغليفية التي تجري دراستها أكاديميًّا الآن، ويعد أمنمحات الثالث الملك المصري الذي انتشرت وتطورت في عهده أبجديات اللغة المصرية القديمة، والتي كانت عبارة عن صورٍ ورموز.
وقد حكم أمنمحات الثالث مصر في الفترة من 1860 إلى 1814 قبل الميلاد، وهو أقدم تاريخ معروف لورق البردي، ولكن على الرغم من تأثير الكتابة في الحياة اليومية، فنحن لا نعرف سوى القليل عن كيفية تطورها في سنواتها الأولى.
في دراسة جديدة كتبها فريق من الباحثين في «معهد ماكس بلانك» لعلوم التاريخ البشري في ألمانيا، ونُشرت مع بداية يناير (كانون الثاني) 2022 تحت عنوان «Rare African script offers clues to the evolution of writing» أو «نص أفريقي نادر يقدم أدلة على كيفية تطور الكتابة»؛ أطلت أفريقيا مرةً أخرى برأسها في دراسات علوم اللغة لتثبت ريادتها في اختراع الكتابة وتطورها.
فقد أشارت الدراسة إلى أن البشر أدركوا ضرورة ضغط اللغة في نظام كتابة أكثر عملية من الصور والرموز؛ بعد اكتشاف الكتابة بفترة وجيزة، فلم يكن من العملي – على سبيل المثال- أن تُستخدم لغة مثل الهيروغليفية في معاملات يومية تخص الموظفين أو الوصفات الطبية أو حتى في كتابة الكتب.
التطور الذاتي للغة «الفاي».. هكذا علمت أفريقيا العالم الكتابة
اعتمد باحثو معهد ماكس بلانك خلال بحثهم على دراسة نص قديم بلغة «الفاي» التي تنتمي لشعبٍ يحمل الاسم نفسه، وهي جماعة عرقية معزولة تمامًا عن العالم يعيش جزء منها في ليبيريا، بجانب أقلية صغيرة معزولة أيضًا تعيش في جنوب شرق سيراليون، وهي دولة تقع على الساحل الجنوبي الغربي لغرب أفريقيا وتحدُّها ليبيريا من الجنوب الشرقي وغينيا من الشمال الشرقي.
ويعد نظام الكتابة الذي كان يستخدمه شعب «الفاي» نادرًا، ويوضح بيرس كيلي المؤلف الرئيسي للدراسة وأستاذ اللغة بجامعة «نيو إنجلاند» بأستراليا أن هذا النص قد جرى ابتكاره في ليبريا للمرة الأولى على الإطلاق في حوالي العام 1834م، على يد ثمانية من رجال شعب «الفاي» والذين استخدموا التوت المسحوق في الحبر المستخدم في هذا النص، وتلك كانت المرة الأولى التي تدوَّن فيها لغة «الفاي».
وبسبب عزلة شعب «الفاي»، والطريقة التي تطورت بها لغتهم بمعزل عن التواصل الحضاري مع بقية اللغات؛ فقد منح هذا النص النادر نافذة للعلماء عن كيفية تطور الكتابة في فترات زمنية قصيرة، ويوضح كيلي أن هناك فرضية مشهورة في علم اللغة، وهي أن الحروف تطورت من الصور إلى العلامات المجردة، فعلى سبيل المثال فإن رأس الثور في الكتابة الهيروغليفية، والتي تمثل أول حروف الأبجدية، قد تطورت مع الوقت لتكون حرف الـA، كما هو موضح في الصورة التالية.
ولغة «الفاي» التي ظهرت على يد رجال لم يعرفوا الكتابة من قبل؛ استخدمت رموزًا مثل المرأة الحامل والماء والرصاص، بدلًا من الشعارات التقليدية الأكثر تجريدًا، وبعد ذلك درَّسوها بشكل غير رسمي من خلال نقل المعلومات شفهيًّا من إلى معلم إلى طالب.
وفي تلك الدراسة قام كيلي وزملاؤه من معقد ماكس بلانك بتحليل تلك الأبجدية المكونة من 200 حرف من أكثر من مصدر من أرشيف تلك اللغة، ولاحظوا من خلال دراسة تلك النصوص ذلك التطور الذي مرت به تلك اللغة من رسوم مثل «رجل يسير» أو امرأة حامل، إلى حروف مضغوطة سهلة الكتابة والحفظ، كما نرى في الصورة التالية.
ما وجده الباحثون في هذه الدراسة هو أن لغة «الفاي» والنصوص الخاصة بها قد تطورت تطورًا متزايدًا على مدار الـ171 عامًا الأولى من ظهورها لتتحول من رسوم كبيرة إلى حروف صغيرة مضغوطة، وحدث هذا التبسيط على مر أجيال متعددة، وبدأت بالرموز الأصعب والأكثر تعقيدًا حتى وصلت للرموز الأكثر بساطةً.
وأكد فريق البحث أن هذه التغييرات والتبسيطات التي مرت بها لغة «الفاي» الأفريقية بعيدة كل البعد عن العشوائية، فقد أدرك شعب «الفاي» ضرورة وأهمية تبسيط تلك الحروف قدر الإمكان حتى يسهل التعامل بها كتابيًّا وتعلميها للأجيال الجديدة بشكل أفضل وأيسر.
ولفت الفريق إلى أن التعقيد البصري قد يكون مفيدًا عندما تشرع ثقافةٌ ما في إنشاء نظام كتابة جديد، ولكن هذا التعقيد يعوق طريق الكتابة ونقل المعرفة السلس والفعال لاحقًا، ولذلك يتلاشى التعقيد مع الوقت عندما تمر اللغات بنوعٍ من عملية الانتقاء الطبيعي عبر الذاكرة والتعلم؛ إذ لا تستمر الميزات والأشكال التي يصعب تذكرها.
وفقًا لما ورد في هذا الدراسة من معلومات، والأدلة التي عُثر عليها حتى وقتنا هذا، فإن أفريقيا تمتلك المبادرة الأولى في ابتكار الكتابة وتطويرها، وتعليقًا على تلك النتائج، قال الفيلسوف النيجيري هنري إيبيكوي: «تظل النصوص الأصلية الأفريقية مستودعًا شاسعًا وغير مُستغل للمعلومات السيميائية [الدلالية] والرمزية، ولا يزال على العلماء طرح العديد من الأسئلة».
ولكن إلى أن يُجاب بشكل يقيني عن الأسئلة حول نشأة اللغة واختراع الكتابة وتطورها بالشكل المعروف لنا الآن؛ سيمكننا أن نقول – بحسب الأدلة الموجودة بين أيدينا الآن – إن أفريقيا هي من علَّمت العالم الكتابة المتطورة.