تعرضت مصر خلال الأسبوعين الماضيين لموجة أمطار غرقت بسببها الشوارع والمنازل والمحال، في مشهد أثار استياءً كبيرًا شعبيًّا وإعلاميًّا، قبل أن ينعكس أثره على الواقع السياسي بإقالة مُحافظ الإسكندرية، أكثر المُحافظات تضررًا من الأمطار.
وكانت هيئة الأرصاد الجوية المصرية قد حذرت في أغسطس الماضي من تعرض البلاد لسيول خلال شهري أكتوبر ونوفمبر، في إطار ما أسمته بالموجة الباردة الخريفية، مُوضحة أن فصل الشتاء سيبدأ رسميًّا في 22 ديسمبر المُقبل.
هذا ويُرجح زيادة عدد الأيام الممطرة في مصر هذا الشتاء لـ31 يومًا بعد أن كانت 20 يومًا العام الماضي. كما يُرجّح أن يطول شتاء هذا العام عن سابقيه، وصولًا إلى 5 أشهر مُقابل 7 لباقي الفصول، وذلك بسبب انتقال مُنخفض جوّي من جنوب أوروبا إلى مصر والمنطقة الواقعة شمال شبه الجزيرة العربية.
وتسببت الأمطار الخريفية التي تعرضت لها مصر مُؤخرًا وما أدت إليه من سيول؛ إلى موت عشرات الأرواح البشرية، فضلًا عن خسائر فادحة اقتصاديًّا، ففي الإسكندرية وحدها خسر القطاع الزراعي جرّاء السيول أكثر من 22 مليون جنيهٍ مصري.
ويُشار إلى أن مصر قد شهدت في أغسطس الماضي موجة حر شديدة، إذ وصلت درجة الحرارة في بعض المناطق لأكثر من 47 درجة مئوية، وهو ما أسفر عن وفاة أكثر من 75 شخصًا، وفقًا لإحصائيات وزارة الصحة المصرية.
وكانت هيئات أرصاد جويّة دولية ومراكز دراسات مُناخ قد حذّرت منذ بدايات العام الجاري، وربما قبل ذلك، من تأثير عميق للاحتباس الحراري على المُناخ. ويظهر أثر ذلك في درجات الحرارة التي لم تشهدها الكرة الأرضية منذ أكثر من 100 عام سواءً من حيث الصيف الأكثر سخونة أو الشتاء الذي يُرجح أن يكون أكثر برودة وأمطارًا.
وعلى الرغم من كل ذلك وما تضمنه من تحذيرات هيئة الأرصاد الجوية المصرية الرسمية، إلا أن قضية تغيّر المناخ وأثرها على مصر لا تأتي ضمن أولويات النظام المصري، الذي يُذكر أن رئيسه قد وصل إلى منصبه دون برنامج انتخابي أصلًا، في الوقت الذي تُحدد فيه قضية المناخ توجهات الناخبين في دولٍ مثل كندا والاتحاد الأوروبي فضلًا عن الولايات المتحدة الأمريكية.
ولم يتوقف تجاهل النظام المصري للتحذيرات عند قضية تغيّر المناخ وأخطاره على مصر اقتصاديًا وبشريًا، لكن الأمر تجاوز إلى تجاهل الإعداد لاستقبال الأمطار على مُستوى البنى التحتية بخاصة شبكات الصرف الصحي. فإذا كان 31 يومًا هو عدد الأيام الممطرة في مصر هذا الشتاء، وإذا كانت 4 أيام منها فقط تسببت في هذا القدر من الخسائر، إذًا فيرجح أن يكون هذا العام هو الأسوأ في تاريخ مصر منذ عام 1994 أو كما يعرف بعام السيول.

من مشاهد غرق مدينة الإسكندرية في خليط مياه الأمطار ومياه الصرف الصحي
نظرةٌ على تاريخ شبكة الصرف الصحي المصرية
أصدرت دار الإفتاء المصرية، أمس الإثنين (9 نوفمبر) فتوى “تُجيز” دفع أموال الزكاة لصالح شبكات الصرف الصحي بِنيّة إصلاحها، مُستدلة على مصرف “في سبيل الله” الوارد في آية مصارف الزكاة.
وتأتي فتوى دار الإفتاء في الوقت الذي تسببت فيه عدم جاهزية شبكة الصرف الصحي بمحافظة البحيرة، في نفوق نحو 275 رأس ماشية وأكثر من 40 طن أسمدة، كجزء من الخسائر الإجمالية التي تسببت فيها على مستوى الجمهورية.
ويعود تاريخ شبكة الصرف الصحي الحديثة في مصر، إلى عام 1914، حيث إنشاء مصلحة المجاري الرئيسية كنواة لمشروع مُتكامل بدأ في القاهرة عام 1915 مع أوّل شبكة صرف صحّي في مصر أنشأها مهندس إنجليزي يُدعى تشارلز جيمس كاركيت، بتكلفة تكاد تُقارب تكلفة إنشاء سد أسوان.
كان غرض الإنجليز من إنشائهم مشروعًا مُوسعًا للمجارير المصرية؛ الحد من انتشار الأمراض والأوبئة بخاصة بين الفلاحين، في وقت اعتمدت فيه الإمبراطورية البريطانية على المحاصيل المصرية لسد حاجتها في ظل الحرب العالمية الأولى، ولاحقًا في ظل الحرب العالمية الثانية. ومما يدل على هذه الفرضية، أن وصول كاركيت إلى مصر للبدء بالتخطيط للمشروع تزامن مع انتشار وباء الكوليرا.
اعتمد المهندس الإنجليزي كاركيت في رسوماته التخطيطية لشبكة المجاري الأولى في مصر، على دراسة الجغرافيا المكانية والاجتماعية لمناطق القاهرة. وهذه الأخيرة تعني دراسة الحالة الاجتماعية لسكان مناطق القاهرة ليستطيع تحديد التصميم الأفضل لشبكة الصرف فيها بتحديد حجم وسعة كل محطة لكل منطقة، إذ اعتبر أنّ المناطق الأكثر ثراءً بالضرورة أكثر استهلاكًا للمياه، والعكس صحيح.
ورغم أن كاركيت قد وضع تصميمًا لشبكة صرف صحي صالحة للعمل لمدة 25 عامًا، واضعًا في الاعتبار نسب الزيادة السكانية. إلا أنّه قد غفل عن باله التغيرات الاجتماعية/ المكانية في القاهرة خلال تلك المدة. ففي حين اعتمد على وجود مناطق يسكنها الأكثر ثراءً وأُخرى الأكثر فقرًا، فاجأه الواقع بتشكّلٍ أكثر حِدّية لما يُسمّى بالطبقة الوسطى أو الأفندية كما كان يُطلق عليهم.
وواجه الإنجليز العديد من المشاكل خلال عملهم على توسعة المشروع ليشمل الضواحي والمدن الأُخرى، من بينها الرفض المجتمعي لمشروع يُديره ويُنفّذه المُحتل/ الإنجليز، إذ غالبًا ما يرفض الوعي الجمعي رُؤية أي إفادة من وراء أي مشروع يقف وراءه المُحتل، إذ إنه لم يكن مُضرًا فهو على الأقل يصب في النهاية لصالح المُحتل، وهو رأي لا يُمكن إنكار ما فيه من مُقاومة وربما وجاهة.
وكانت من أصعب وأطرف المشاكل التي واجهها الإنجليز في إطار الرفض المجتمعي للمشروع، هي الإشاعات التي رُوّجت حول المشروع، وأنّه سيؤدي إلى إخراج مزيدٍ من الأمراض والأوبئة من أعماق الأراضي المحفورة. وهي إشاعة لها أصلها الضارب في مُخيّلة الفلاح المصري الذي يُقدّر الأرض ويهابها.
هذا ويمكن القول إن أصل مشروع شبكة الصرف الصحي المصرية تعود إلى شبكة مجاري المياه التي أنشأها مستثمرون أوروبيون بإشراف مُباشر من الخديوي إسماعيل في ستينات القرن التاسع عشر. ولاحقًا جرى تطوير هذه الشبكة عدة مرات لتشمل نظامًا لصرف مياه الأمطار لعبت “الشنايش” فيه دورًا مُهمًا، قبل أن تكون جُزءًا من المنظومة المتكاملة لشبكة الصرف الصحي.

اعتمدت مصر على الشنايش (مصارف مياه الأمطار) منذ أكثر من 100 عام
الصرف الصحي في الجمهورية المصرية: كثير من المال قليل من الاهتمام
أمم جمال عبدالناصر مصلحتي المياه والصرف الصحي، وصحب ذلك حركة اجتماعية كبيرة غيّرت كثيرًا من الملامح الجغرافية والاجتماعية في مصر، بالتوازي مع حربي (العدوان الثلاثي وحرب 67) كانتا كفيلتين بتدمير جزءٍ لا بأس به من البنية التحتية للبلاد.
وبدايةً من سبعينات القرن العشرين، تحديدًا الفترة اللاحقة لاتفاقية كامب ديفيد، حصلت مصر على مبالغ ضخمة مُخصصة لقطاع الصرف الصحي على هيئة منح دولية بدأت من الولايات المتحدة الأمريكية. ورغم ذلك بقي القطاع يعاني المشاكل بشكل شبه مزمن، وذلك لعدة أسباب بينها تركيز الدولة في مشاريعها الخاصة بالقطاع على مدينتي القاهرة والإسكندرية مع تجاهل باقي مُحافظات الأقاليم ناهيك عن الصعيد. وتجاهل الصيانة الدورية المحددة بمواصفات مُعيّنة، فضلًا عن قلة العمالة الماهرة المدربة داخل القطاع.
وفي أواخر السبعينات أصدر البنك الدولي تقريرًا لرصد التطورات في قطاع الصرف الصحي في مصر، بعد المساعدات التي تلقاها؛ وصف ظروف القطاع بـ”الكئيبة”، مشيرًا إلى استمرار وجود المشاكل سابقة الذكر. ثُم في أوائل الثمانينات قدّم كل من البنك الدولي وألمانيا منحتين لإصلاح البنية التحتية للقطاع، استخدمتهما الدولة في إنشاء الشركة القابضة لمياه الشرب والصرف الصحي، وفي الترويج لإنشاء كيانات استثمارية مُستقلة في باقي مُحافظات الجمهورية للإشراف على القطاع فيها. لكن تقريرًا للوكالة الأمريكية للتنمية الدولية صدر في أوائل التسعينات، أكّد على فشل القطاع مرة أخرى رغم المنح.
وتعتمد المنح الخارجية الممنوحة لقطاع الصرف الصحي شروطًا تتعلق بتحقيق مكاسب استثمارية أو على الأقل استرداد التكلفة من المشاريع المُنشئة، وهو الأمر الذي لاقى بدوره فشلًا ذريعًا وفقًا لتقرير صدر في بداية الألفية الثالثة عن الشركة القابضة لمياه الشرب والصرف الصحي. وبالإضافة لذلك خلص التقرير إلى “عدم وجود إدارة مؤهلة، ولا نظم إدارية حديثة بالقطاع”.
هل تآمرت شبكات الصرف الصحي على مصر؟
على ما يبدو، لا يُحقق قطاع الصرف الصحي في مصر أي نجاح إطلاقًا، لا على مُستوى الخدمة ولا حتى على مُستوى الأرباح. ورغم النسبة العالية لأعداد الموظفين بالقطاع، إلا أنّ نسب التشغيل في المُقابل لا تزال ضئيلة. فوفقًا لإحصائية أجراها المركز القومي للبحوث عام 2008، فإن 40% من سكان القاهرة يُواجهون مشاكل مُستمرة مع الصرف الصحي ومياه الشرب، بعضها يتعلق بعدم وصول مياه الشرب أو عدم جودة شبكة صرف، وبعضٌ آخر يتعلق باختلاط مياه الصرف مع مياه الشرب.
في مارس 2008 وافق البنك الدولي على تقديم منحة للحكومة المصرية تحت اسم “مشروع البنية الأساسية المتكاملة للصرف الصحي”. يستهدف المشروع عدة قطاعات متعلقة بالمياه والبيئة فضلًا عن الصرف الصحي الذي خصصت له نسبة 65% من التكلفة الكلية للمشروع والتي تربو على 200 مليون دولار.
ووفقًا للبيانات التي تعرضها صفحة المشروع على الموقع الإلكتروني للبنك الدولي، فإنّ تقديرات التقدم في إنجاز أهداف المشروع لا تزال غير مرضية على عدة مُستويات، من بينها النسبة السكانية المستفيدة من خدمات الصرف الصحي، ومحطات التجميع المُستهدف إنشاؤها، وتدريب موظفي القطاع. وبعد تحسّن نِسبي تحقق خلال عام 2013، وفقًا لإجمالي المؤشرات البيانية؛ شهد عام 2014 تدهورًا كبيرًا في معظم تلك المؤشرات.

إجمالي المؤشرات البيانية يكشف تدهورًا خلال عام 2014
ولم تكن الأمطار التي تعرضت لها مصر الفترة الماضية، كاشفة فقط عن الحال المتدهورة لقطاع الصرف الصحي في ظل استمرار أجل منحة البنك الدولي. لكنها أيضًا تكشف عن بعد سياسي هام يمكن تقسيمه إلى جُزأين: الأول يتعلق بشبهة فساد مالي عميق وقديم، والثاني بتضارب داخل النظام الحاكم.
وتظهر دلائل شبهة الفساد المالي في التناقض بين حجم المبالغ المالية المخصصة للقطاع وبين نسب النجاح التي يبدو – بدون الحاجة لأي مؤشرات – أنها متدنية لدرجة “كئيبة” بتعبير البنك الدولي، كما بدا الأمر مع الأمطار الأخيرة. وفضلًا عن المنح الخارجية المقدمة للقطاع منذ السبعينات، وآخرها منحة البنك الدولي الجارية إلى الآن، ثمة مُخصصات داخلية للإنفاق على القطاع، كان آخرها 4.7 مليار جنيه أُنفقت لتطوير الصرف الصحي في الإسكندرية في بدايات العام الجاري، في عهد محافظ الإسكندرية السابق اللواء طارق المهدي، الذي صرح بذلك.
أما الجزء الثاني المتعلق بالتضارب داخل النظام الحاكم، فتظهر دلائله في إلقاء وزارة الداخلية القبض على ما أسمته “خلية إخوانية”، قالت الوزارة إنّها ضالعة في أزمة غرق الإسكندرية، قبل أيام قليلة من إعلان عبدالفتاح السيسي تخصيص مبلغ مليار جنيه لتطوير شبكات الصرف الصحي في الإسكندرية.
وقبل ذلك، تحديدًا مع أزمة الغرق الأولى، صرح محافظ الإسكندرية السابق، بأن السبب الحقيقي لغرق شوارع المدينة، عائد إلى عدم مُعالجة وتنظيف الشنايش قبل حلول فصل الشتاء، وهو ما أكّد عليه وزير التنمية المحلية الأسبق، أحمد زكي عابدين، حين قال إن “الإهمال هو السبب وراء أزمة محافظة الإسكندرية”.