«أطلب منكم تكثيف الزيارات الميدانية بالخصوص إلى مناطق الظل، التي كثرت فيها معاناة المواطن وَحرمانه من العيش الكريم، فالمواطن منذ 10 سنين، ما شافش قطرة الماء، ما شافش الكهرباء، ما شافش الطريق المعبد». *الرئيس الجزائري، عبد المجيد تبون
الجزائر، تلك الرقعة الجغرافية الشاسعة الضاربة في أعماق القارة الأفريقية؛ والرابطة بين البحر المتوسط والصحراء الكبرى، البلاد التي تنام على بحرٍ النفط والغاز، وتلتحف مجالًا جوّيًا شاسعًا يحتكر النسبة الأعلى من الأشعة الشمسية الساقطة على سطح الكرة الأرضية؛ وبها طاقة بشرية هائلة قدرت سنة 2020 بـ 44 مليون نسمة، ثلاثة أرباعهم من الشباب؛ يعيش خُمس مواطنيها خارج التاريخ.
فبالرغم من مرور ستّ عقودٍ على نيلها الاستقلال، وتعاقب عشرات الحكومات والرؤساء على إدارة شؤون البلد، وما سلف ذكره من خصائص تجعل الجزائر حتمًا دولةً قوية – إذا ما توافرت الظروف السليمة لذلك – فإنّ ما يقارب من 9 مليون جزائري لا يزالون لليوم مسجونين في غياهب العصور البدائية لا يعرف بعضهم ما الذي تعنيه كلمة كهرباء، أو إنترنت أو دراسة أو سفر، في الوقت الذي يتسابق فيه العالم اليوم لدخول عصر «فايف جي» وإنترنت الأشياء، التي تجعل حياة إنسان أسهل.
أبكت هذه الحالة الوزير الأوّل الجزائري عبد العزيز جراد؛ وذلك بعد عرض فيديو خلال اللقاء الأوّل الذي عقده الرئيس الجزائري تبون منتصف فبراير (شباط) الماضي من أجل تسليط الضوء على هذه المناطق، وعُقد العزم حينها على ضرورة القضاء على مناطق الظل، وإعادة جزءٍ من الحياة إلى ساكنيها؛ غير أنّه وبعد ستة أشهر من ذلك اللقاء، لا تزال معاناة تلك المناطق، والتي أحصيت بأزيد من 15 ألف منطقة مستمرة؛ بل زادها انتشار جائحة كورونا سوءًا.
ولتقييم مدى تطبيق المخطط الذي أعلن عنه في ذلك اللقاء، يجرى اليوم اللقاء الثاني لتبون مع ولاة الجمهورية، وهو اللقاء الذي أشار مقربون من الرئاسة أنّه سيشهد محاسبة تبون للمقصرين في مناطق الظل؛ وذلك على خلفية إقالة تبون أمس الثلاثاء لمسؤولين بتهمة خيانة الأمانة. في هذا التقرير نسلط الضوء على مناطق الظل بالجزائر؛ ونبرز معاناة قاطنيها؛ ونرصد خطط تبون للقضاء على تلك المناطق.
«مناطق الظل» الجزائرية.. أن تعيش خارج التاريخ
بخلفية موسيقية حزينة وتركيبٍ احترافي، عرض الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون على أعضاء حكومته وولاة الجمهورية خلال اجتماعٍ عُقد منتصف فبراير الماضي مقطع فيديو مدته نصف ساعة، يسلط الضوء على مناطق الظل بالجزائر. احتوى الفيديو على مشاهد صادمة لمناطق جزائرية تشكو التهميش وتعيش رغم جغرافيتها الجزائرية خارج نطاق التاريخ، الأمر الذي حوّل قصر الأمم – المكان الذي انعقد فيه الاجتماع – إلى قاعةٍ حزينةٍ ترتفع منها آهات حسرة المسؤولين الجزائريين، تقدمتها دموع الوزير الأوّل عبد العزيز جرّاد، وزاد من لهيبها خطاب الرئيس تبون الذي لم يخل من الشعبوية، حسب المتابعين.
افتخر الرئيس الجزائري ساعتها بكونه أوّل مسؤولٍ جزائري يفتح ملف مناطق الظل؛ ووعد بالقضاء على تلك المناطق من خلال إسدائه أوامر لولاة الجمهورية بإحصاء كل مناطق الظل وإعطائها الأولوية في التنمية وربطها بمقومات الحياة. كما لم يغب مصطلح «مناطق الظل» عن خطابات تبون منذ ذلك الوقت.
وقبل مجيء تبون، لم يكن مصطلح «مناطق الظل» متداولًا لدى الكثير من الجزائريين، وبالكاد كان يخرج من أفواه المسؤولين الجزائريين عندما كان وزير الاتصال السابق حميد قرين يتحدّث عن المناطق التي لا يصل إليها البث الإذاعي، وتعهّد – آنذاك – بالقضاء عليها سريعًا، لكنه ذهب وبقيت هذه المناطق.
وقصة مناطق الظل بالجزائر قديمةٌ تتصل بفترة الاحتلال الفرنسي للبلاد. فلإطالة فترة بقائها بالجزائر، استنجدت فرنسا الاستعمارية بسلاحٍ تنمية المناطق الهشة بالجزائر، وللدعاية لها وسط الجزائريين، فقامت بإنشاء مجموعةٍ من المشاريع السكنية والتنموية لفائدة الجزائريين والمعمرين الفرنسيين؛ بقصد عزل الشعب الجزائري عن جيش وجبهة التحرير الوطني؛ ومن أبرز تلك المشاريع التي قامت بها فرنسا ما يعرف بمشروع قسنطينة الذي أعلن عنه الرئيس الفرنسي ديجول، والذي يهدف إلى إنشاء مليون وحدة سكنية لفائدة الجزائريين والكولون؛ إضافةً إلى مشاريع أخرى لفائدة المناطق المعزولة من بناء مستشفيات وشقّ طرقٍ لا تزال إلى اليوم المتنفس لتلك المناطق.
وأحصت مصالح الجماعات المحلية على مستوى ولايات الجمهورية أزيد من 15 ألف منطقة ظل يقطنها نحو 9 مليون جزائري، وتتميّز تلك المناطق بغيابٍ شبه كلي لمقومات الحياة، من ماءٍ وغاز وكهرباء، وانعدام للطرق والمواصلات؛ وغالبًا ما تكون تلك المناطق في تجمعاتٍ سكانية ريفية مجاورةً للحقول والبساتين أو في القرى الجبلية المنتشرة في المناطق الداخلية الجزائرية، ناهيك عن مناطق واسعة من الجنوب الذي يعدّ بؤرةً أساسية لمناطق الظل.
ويعاني أغلب سكان تلك المناطق من الفقر المدقع والبطالة، ناهيك عن مشكل السكن، فغالبية السكنات في مناطق الظل هي عبارة عن بيوت قصديرية وأكواخ وبناياتٍ فوضوية غير مربوطة بشبكات الماء والكهرباء؛ ويضطر قاطنوها إلى استخدام الحيوانات في تنقلاتهم وقطع مسافاتٍ طويلة يوميًا من أجل جلب المياه الصالحة للشرب، كما يستخدم البعض الحطب من أجل التدفئة والطهي، بينما يستعمل من تواتيه ظروفٌ أحسن قارورات البوتان.
- مناطق الظل منتشرة بكثرة بالجزائر
ونظرًا لتلك الظروف المزرية؛ تتفشى بمناطق الظل الأمراض المعدية والناتجة عن غياب النظافة؛ ما يجعل سكان مناطق الظل بالجزائر أكثر تهديدًا للوفاة نتيجة الإهمال ونقص الرعاية الطبية، فمناطق عيشهم في الغالب تكون خاليةً من المستشفيات، وبها فقط عيادات طبية لا تصلح إلّا لعلاج الجروح البسيطة.
وبالرغم من غياب إحصائياتٍ رسمية عن الواقع المعاش في مناطق الظل بالجزائر؛ إلّا أنّ نسبة الأمية بالجزائر وصلت نهاية السنة الماضية إلى 8.71 % غالبيتهم يقطنون في مناطق الظل، أمّا نسبة التغطية الصحية في الجزائر فهي طبيب واحد لكل 545 نسمة في المناطق الحضارية، بينما تصل تلك النسبة في مناطق الظل إلى طبيب واحد لكل 50 ألف نسمة، وفي جانب التعليم تحتوي الجزائر على مدرسة لكلّ 1466 مواطنًا، ما يجعل أغلب ساكني مناطق الظل يقطعون عشرات الكيلومترات من أجل الوصول إلى المدرسة.
المصائب لا تأتي فرادى.. كورونا يؤخر أي محاولات تنمية لـ«مناطق الظل»
شاءت الصدف أن يكون الحظ المتعثر سمةً متلازمةً لمناطق الظل، ففاقمت من معيشتهم الضنكة؛ فبعد أن سنحت الفرصة أن يتحوّل النقاش عن مستقبلهم إلى الهرم الأعلى في السلطة بالجزائر، ويدافع تبون شخصيًا عن أصحاب المناطق المهمشة، ويدعو إلى دفع الضرر عنهم؛ تأتي جائحة كورونا التي اكتسحت العالم لتزيد من ألم سكان مناطق الظل أكثر، وتفاقم من معيشهم.
فطيلة الأشهر السابقة التي تلت دخول جائحة كورونا إلى الجزائر، عاش سكان مناطق الظل عزلةً كبيرة بسبب إعلان الحكومة الجزائرية لقرار الحجر الجزئي، فتوقفت معظم المشاريع التنموية التي أعلن عنها في لقاء رئيس الجمهورية بالولاة، كما امتنع المسؤولون المحليون من زيارة تلك المناطق، خوفًا من الجائحة ممّا ضاعف من معاناة أهلها، ناهيك عن غياب التوعية ضد الفيروس.
محمد عيسى شاب جزائري من دوار لالة مريم بولاية تيارت، أصيب والده بفيروس كورونا؛ وعانى الأمرين في إيجاد سريرٍ له بالمستشفى، في حديثه لـ«ساسة بوست» أنّ: «دوارنا لا يوجد به قاعة علاج، ونسكن بمنطقة أقرب طريق معبد لها يبعد 14 كلم. في إحدى الليالي ساءت حالة والدي الصحية، فلم أجد سوى حمله على دابةٍ وقطع مسافة 10 كلم لإيجاد مكان به تغطية الهاتف، وانتظرت حتى الصباح حتى أوصلت والدي بسيارة الإسعاف إلى المستشفى». يضيف عيسى أنّ فترة الحجر الصحي التي فُرضت على المنطقة، كانت بمثابة الجحيم، فقد عانت منطقته من نقصٍ في التموين الغذائي وانقطاع مادة البوتان التي تستعمل في الطهي خصوصًا في شهر رمضان.
- لا يزال 9 مليون جزائري يقطنون في مناطق بدائية معزولة
حالةٌ ثانية من مناطق الظل رصدتها «ساسة بوست» عانت من جائحة كورونا؛ وهي عائلة م. سليمان، الذي فقد اثنين من عائلته بسبب الفيروس، وبسبب الإهمال الطبي يقول سليمان «أصيب أخي بفيروس كورونا نظرًا لكونه عامل بولاية المسيلة، وأثناء عودته لمنزل العائلة في حي البراكتية ونظرًا لغياب وسائل التعقيم، أُصيب كامل أفراد العائلة، وتوفي أبي وجدتي، وما يحز في نفسي أنّ الطاقم الطبي تركهم للموت دون حتى أية رحمة بسبب نقص المعدات الطبية والأوكسجين بالمستشفى».
وتفتقد مناطق الظل لمستشفيات لمجابهة كورونا، ويضطر المصابون بكورونا التنقل إلى مستشفيات الولاية والتي غالبًا تبعد عشرات الكيلومترات، وفي المناطق الصحراوية قد يصل تنقل المريض للعلاج إلى قطع مئات الكيلومترات، كون المستشفيات الكبيرة والمتخصصة متواجدة فقط في الشمال الجزائري.
لكن الجائحة لم تمنع سكان مناطق الظل من الخروج في احتجاجات متتالية، ففي يونيو (حزيران) الماضي اندلعت احتجاجات عنيفة بمنطقتي تيمياوين وتينزاواتين الحدوديتين؛ بسبب انقطاعات في ماء الشروب وللمطالبة بالتنمية، كما لم تهدأ الاحتجاجات في مدن ومناطق واسعة من الجنوب الجزائري بسبب التهميش وعجز المسؤولين المحليين عن التسيير.
وإلى جانب جائحة كورونا؛ يعاني سكان مناطق الظل من التهميش الذي ظلّ يرافقهم طويلًا، فقاطن مناطق الظل قد يجد صعوباتٍ كبيرة حتى في تسجيل أبنائه في البلديات؛ ناهيك عن تجاهل المسؤولين لتلك المناطق، و استثنائها من مشاريع التنمية، الأمر الذي فاقم من وضع هذه المناطق.
هل ستنجح الحكومة الجزائرية في القضاء على مناطق الظل؟
«أطلب منكم تكثيف الزيارات الميدانية بالخصوص إلى مناطق الظل التي كثرت فيها معاناة المواطن وَحرمانه من العيش الكريم، فالمواطن منذ 10 سنين، ما شافش قطرة الماء، ما شافش الكهرباء، ما شافش الطريق المعبد». بهذه الكلمات أبرز الرئيس الجزائري عبد المجدي توجهه الجديد بخصوص التنمية في الجزائر؛ وأعلن عن مشروعه للقضاء على مناطق الظل بالبلاد.
وفي سبيل ذلك، خصصت الحكومة الجزائرية 126 مليار دينار، مبلغًا ماليًّا أوليًّا للتكفل بألفي مشروع بهذه المناطق، على أن تخصص إيرادات جديدة بعد اللقاء الثاني الذي سيعقده تبون مع ولاة الجمهورية، لبحث آلية الدفع بمناطق الظل نحو التنمية، والذي يأتي حسب الرئاسة لتصحيح وتدارك الأخطاء والنقائص.
وشدّد الرئيس الجزائري ووزيره الأوّل على ضرورة إزالة تلك المناطق، مؤكدين حصر الحكومة الجزائرية على ذلك العمل، كما أكد تبون أنّه لن يتسامح مع من يعمل على إغراق المناطق المهمشة والمعزولة في دائرة الفوضى.
واستباقًا لللقاء التقييمي مع الولاة، أقال الرئيس الجزائري يوم أمس مجموعةً من المسؤولين بسبب مناطق الظل، وأوضح التلفزيون الجزائري، أن تبون أنهى مهام أربعة رؤساء بلديات، وأربعة رؤساء دوائر، وكذا مسؤولين على مكاتب لقطاع السكن والأشغال العامة، بمناطق مختلفة من البلاد، وأضاف ذات المصدر أن هذه القرارات جاءت بعد تحقيقات أظهرت «خيانة الأمانة، والتلاعب في مشاريع موجهة لمناطق الظل».
وفي حديثه صبيحة اليوم في افتتاح اللقاء التقييمي مع الولاة، اتهم تبون جهاتٍ تعمل على إحداث «ثورة مضادة» في البلاد، بعرقلة مخططه للقضاء على المناطق المعزولة والمهمشة، وتوعد تبون هؤلاء بالمحاسبة قريبًا، كما عاتب ولاة الجمهورية على التقصير في تنفيذ قراراته بخصوص تأثير الجانب الاقتصادي على مناطق الظل، فهل ينجح تبون في القضاء على هذه المناطق، وانتشال أهلها من الحياة البدائية؟