«ابتسم أيها الوغد»، جملة قد يتذكرها مواليد الثمانينيات والتسعينيات من الفيلم الأمريكي الشهير «Jaws» أو كما عرفناه في الوطن العربي باسم الفك المفترس، هذا الفيلم الشهير الذي يحكي عن قرش مفترس يهجم على البشر بالقرب من الشاطئ وهم يمرحون، ويقتلهم ثم يأكلهم، ولم يكن الفك المفترس هو الفيلم الوحيد الذي جسد القروش على كونها ماكينة لقتل البشر وأكلهم، بل تبعه الكثير من الأفلام الأخرى والتي ما تزال تنتج حتى الآن.
يوجد أيضًا إنمي ياباني اسمه «Gyo: Tokyo Fish Attack»، والذي تدور قصته حول مجموعة من الأسماك الشرسة التي تخرج من المياه على قدمين لتهاجم البشر، بعد أن طوروا قدرتهم على التنفس خارج المياه، بدت فكرة هذا الفيلم وقت ظهورها خيالية، ولكن في السنوات الأخيرة لم تعد كذلك، بعد أن عرف العلماء عن الجديد في تطور القرش، وهو ما نستعرضه معكم في هذا التقرير.
القرش «العسكري» أو الكتفي
القرش الذي سنتحدث عنه اليوم، والذي ظهرت عليه وحده من بين باقي أنواع القروش علامات تطور واضحة، هو قرش الكتاف أو ذو الكتافات، وهو من أنواع أسماك القرش طويلة الذيل، ويعيش في المياه الاستوائية الضحلة قبالة أستراليا وغينيا الجديدة وإندونيسيا، وأطلق عليه العلماء اسم قرش الكتاف نسبة إلى البقعة السوداء الكبيرة ذات الهامش الأبيض خلف كل زعنفة صدرية في جسده، والتي تشبه كثيرًا الكتافات العسكرية.
لنتعرف إلى طبيعة حياة هذا القرش، يجب أن نتعرف أولًا إلى المكان الذي يعيش فيه، وهو الحاجز المرجاني الضخم، أو كما يطلق عليه البعض الحاجز المرجاني العظيم، وهو أكبر نظام للشعاب المرجانية في العالم، ويتكون من أكثر من 2900 شعبة فردية، و900 جزيرة تمتد لأكثر من 2300 كيلومتر على مساحة تبلغ حوالي 344400 كيلومتر مربع، وتقع الشعاب المرجانية في بحر المرجان قبالة ساحل كوينزلاند بأستراليا؛ حيث يعيش قرش الكتاف، هذا المكان يبدو وكأنه مدينة كاملة تحت المياه، بها الآلاف من أشكال الحياة.
فهو – الحاجز المرجاني العظيم – وفقًا لتصنيف منظمة اليونسكو بأنه موقع متنوع ورائع على الساحل الشرقي لأستراليا، ويحتوي على أكبر مجموعة في العالم من الشعاب المرجانية، فهناك 400 نوع من الشعاب المرجانية، و1500 نوع من الأسماك، و4 آلاف نوع من الرخويات، ويحظى هذا الموقع باهتمام علمي لكونه موطنًا لأنواع مهددة بالانقراض مثل السلاحف الخضراء الكبيرة.
شاهد الحاجز المرجاني العظيم.
ولكن هذا المكان الجميل له أنياب يكشر عنها للكائنات الحية التي تعيش فيه، وهذا بعد أن أثبتت دراسة حديثة نُشرت في نهاية عام 2019، أن ارتفاع حركة المد والجزر في تلك المنطقة، يتسبب في تغيرات جذرية في الحاجز المرجاني العظيم، وهنا تأتي الأسباب التي دفعت سمك قرش الكتاف للتطور، وإلا سيهلك أمام تلك التغيرات.
تخيَّل قرش الكتاف الذي اعتاد على الحياة في المياه الضحلة، وهو يقضي يومه كالمعتاد، يتغذى على السرطان والديدان، وينعم بماء البحر فوقه درعًا يحميه من طبيعة اليابسة القاسية عليه، وفجأة يشتد انخفاض الجزر ويجد هذا القرش نفسه على اليابسة، فماذا عليه أن يفعل؟
منذ أن بدأت الحياة على الأرض كلما اشتدت الطبيعة على الحيوانات؛ ربما يموت بعضها في البداية، ولكن البقية عادة ما يجدون طريقة للتكيف على تلك الأوضاع الصعبة، وهو ما يدفع أي كائن للتطور، إنها الحاجات الجديدة التي يجدها مطلوبة من جسده من أجل البقاء على قيد الحياة.
وهذا القرش الكتاف ربما وجد أن أمامه ثلاثة احتياجات أساسية للبقاء على قيد الحياة في هذه الظروف الجديدة بسبب الجزر شديد الانخفاض، وهي: التنفس خارج المياه لفترة طويلة، وتحمل جلده لحرارة الطقس الشديدة، وطريقة أسهل للحركة بدلًا من السباحة.
كيف تطور قرش الكتاف؟
طبيعة الحياة التي كان يعيشها هذا القرش ساعدته بشكل ما على التطور، فهو الذي يعيش في بيئة مليئة بالشعاب المرجانية كان عليه أن يجد طريقة ناجحة للتحرك بين الشقوق والممرات لمتابعة فريسته والانقضاض عليها، ولذلك يعتقد العلماء أن هذا القرش طوَّر قدرة على المشي في قاع البحر من خلال تعديلات تطويرية حدثت له في الزعانف الصدرية والحوضية، والتي منحته القدرة على التحرك عليها وكأنها مثل الأقدام بالضبط، وكان لتلك الحيلة دور مهم في تلك اللحظة التي وجد فيها نفسه على اليابسة دون مياه يسبح فيها، فاستدعى قدراته في الصيد بقاع البحر وحاول استخدامها على اليابسة مستخدمًا أقدامه الجديدة، ولكن واجهته مشكلة أكبر، وهي مشكلة التنفس.
الطقس حار وقاس على جلد قرش الكتاف، يحاول أن يسير على أقدامه بصعوبة بين الشعاب المرجانية المتداخلة بعد أن تلاشت المياه نتيجة الجزر المنخفض، ولا يستطيع أن يعود إلى المحيط؛ فهي مسافة طويلة للسير، فعليه البقاء في هذا المكان، والبقاء على قيد الحياة أيضًا.
ولذلك يعتقد العلماء أن هذا القرش طوَّر طريقة ساعدته على تحمل العيش دون أوكسجين لمدة ساعة كاملة، وهذا عن طريق إبطاء معدل ضربات القلب والتنفس، والحد تدريجيًّا من تدفق الدم إلى بعض أجزاء من المخ، والطريقتان منحتا القرش القدرة على السير في اليابسة لمدة ساعة كاملة دون الحاجة للعودة إلى البحر أو المحيط، ومع الوقت أيضًا، طوَّر هذا القرش قدرة الجلد الذي تعود على المياه؛ فأصبح يتحمل حرارة الشمس القاسية.
«من الأنواع النادرة التي ما زالت تتطور حتى الآن»
تعد تلك الأسماك مثيرة للاهتمام علميًّا، لأن أسماك القرش تجوب محيطات العالم منذ مئات الملايين من السنين، وخلال تلك الفترة الزمنية الكبيرة، بالكاد تطورت أنواع أسماك القرش، ولكن هذا القرش الكتاف من الأنواع النادرة التي ما زالت تتطور حتى الآن.
هذا القرش الذي يبلغ طوله ثلاثة أقدام ويعيش في أستراليا وإندونيسيا وغينيا الجديدة، هو القرش الوحيد القادر على البقاء حيًّا على اليابسة، بل صيد الطعام أيضًا، من خلال التنقل بين برك المد ومناطق مختلفة من الشعاب المرجانية للعثور على فريسة من السلطعون أو الجمبري، أو أي شيء يجده في ظل هذه الظروف القاسية، ويصنف بكونه المفترس الأول الذي يعيش في الشعاب المرجانية المتبقية على اليابسة بعد انخفاض الجزر، ولكنه خطر على الكائنات البحرية فقط، فلم يعرف عنه هجومه على البشر.
وفي دراسة طويلة نُشرت في بداية هذا العام 2020 أكد الباحثون أن هناك أربعة أنواع جديدة من أسماك القرش طوَّرت قدرتها على السير في قاع المحيط منذ العام 2008، موضحين أن تلك الأنواع تطورت جميعها في التسعة ملايين سنة الماضية.
أكد جافين نايلور، مدير برنامج فلوريدا لأبحاث سمك القرش بجامعة فلوريدا، لـ«ناشونال جيوجرافيك» أن هذا الكشف في الدراسة يعد مهمًّا للغاية، وهذا لأنه أمر غير معتاد لدى القروش، نظرًا إلى أنه يعرف عنها علميًّا أنها تتطور ببطء. ما أنجزته تلك الأنواع من القروش خاصة قرش الكتاف يعد كشفًا مهمًّا، فتلك الأسماك تطورت في 9 ملايين سنة، بينما عادة ما تتطور أسماك القرش بعد مدة قد تزيد على 180 مليون سنة، ووضح نايلور أن دراسة تلك القروش التي استطاعت السير على أقدام سواء في قاع المحيط، أو على اليابسة مثل قرش الكتاف؛ قد يمنح العلماء مفتاحًا للإجابة عن سؤال مهم وهو: لماذا تتطور بعض الكائنات الحية، ولماذا لا يتطور البعض الآخر؟
يقول نايلور إنه منذ 400 مليون سنة لم يكن هناك سوى حوالي 1200 نوع من أسماك القرش، وهذا لأن تلك الأسماك غالبًا ما تكون بطيئة النمو، وبطيئة أيضًا في التكاثر، وطويلة العمر، وفي أي كائن حي آخر إذا توفَّرت فيه تلك الصفات مثل عدم القدرة على التكيف والتطور ببطء مثل القروش؛ كان من المفترض أن تنقرض في وقتنا الحالي، ولكن القروش تبهر العلماء ولا تنقرض، بل اختارت بعض الأنواع منها فجأة أن تتطور بوتيرة لم يرها علماء الحيوان في القروش من قبل أبدًا.
وفي النهاية؛ إذا ذهبت إلى واحدة من البلاد التي يعيش فيها قرش الكتاف، وقابلته على اليابسة، لا تخف، فلم يثبت حتى الآن قدرته على مهاجمة البشر، بالإضافة إلى أنه حتى الآن لم يستطع أن يطوِّر قدراته ليكون على اليابسة بقوته نفسها كما يتمتع بها تحت المياه، ربما فقط ستأخذ صورة معه، لتخبر أصدقاءك بأنك قابلت أندر أنواع القروش، والتي لديها قدرة على التطور تذهل العلماء.