وفقًا لمتابعين ومراقبين لم تتضح الرؤية بعد لما يجري في الأراضي الفلسطينية المحتلة، لا سيما في القدس والضفة، والاتفاق على مسمى” انتفاضة ثالثة”، أم” هبات” جماهيرية جاءت كرد طبيعي لجملة الانتهاكات المتصاعدة بحق الفلسطينيين من قبل الاحتلال الإسرائيلي.

حتى تضح الصورة أكثر لا بد من قراءة ومقارنة بدايات الانتفاضتين الفلسطينيتين الأولى والثانية، والأسباب التي أدت إلى اندلاعهما، وكيفية تطور مساراتها مع ما يدور الآن في القدس والضفة المحتلتين.

الانتفاضة الأولى

أسباب اندلاعها

يعود سبب الشرارة الأولى للانتفاضة لقيام سائق شاحنة إسرائيلي بدهس مجموعة من العمّال الفلسطينيّين على حاجز “إيرز” الإسرائيلي الذي يفصل قطاع غزة عن بقية أراضي فلسطين منذ سنة 1948.

ونتج عن ذلك استشهاد أربعة أشخاص وجرح آخرين، حينها اعتبر الفلسطينيون أن الحادث هو عملية قتل متعمدة، حتى اندلعت خلال جنازة الضحايا احتجاجات عفوية، تبعها إلقاء الحجارة على موقع للجيش الإسرائيلي في مخيم جباليا شمال القطاع.

لكن، ثمة من يرى أن هذه الحادثة كانت مجرد القشة التي قصمت ظهر البعير، لأن الانتفاضة اندلعت بعد ذلك بسبب تضافر عدة أسباب، وهي الأسباب غير المباشرة للاندلاع، ومنها عدم تقبل الاحتلال الإسرائيلي، والذي كان سببًا في عمليات التهجير القسري، فضلًا عن تردي الأوضاع الاقتصادية.

مطالبها

سعى الفلسطينيون عبر الانتفاضة إلى تحقيق عدة أهداف يمكن تقسيمها إلى ثوابت فلسطينية ومطالب وطنية، مثل إقامة دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس وتمكين الفلسطينيين من تقرير مصيره، وتفكيك المستوطنات، وعودة اللاجئين دون قيد أو شرط، إلى جانب تقوية الاقتصاد الفلسطيني.

ومن بين المطالب التي كانت حاضرة بقوة إخلاء سبيل الأسرى الفلسطينيين والعرب من السجون الإسرائيلية، ووقف المحاكمات العسكرية الصورية والاعتقالات الإدارية السياسية والإبعاد والترحيل الفردي والجماعي للمواطنين والنشطاء الفلسطينيين، ولم شمل العائلات الفلسطينية من الداخل والخارج.

تطور مسارها

تميزت الانتفاضة بحركة عصيان وبمظاهرات ضد الاحتلال، امتدت بعد ذلك إلى كامل الأراضي المحتلة مع انخفاض لوتيرتها سنة 1991 فبعد جباليا البلد انتقلت إلى مخيم جباليا ومن ثم انتقل لهيب الانتفاضة إلى خان يونس والبرج والنصيرات ومن ثم غطى كل القطاع وانتقل بعد ذلك إلى الضفة.

وقد تولى الانتفاضة عموما الأطفال والشباب الذين كانوا يرشقون الجنود بالحجارة ويقيمون حواجز من عجلات مشتعلة، كما كانوا يجتمعون حول الجوامع ويتحدون الجيش بأن يقوم بتفريقهم.

ونشأت لجان محلية داخل المخيمات عملت على تنظيم الغضب غير المسلح للشارع الفلسطيني ضد الاحتلال الإسرائيلي المسلح والشد من أزره والتقريب بين صفوفه وذلك عن طريق توفير المؤن والتعليم والأدوية وباقي الخدمات الضرورية للمخيمات والمناطق التي يطبق فيها حظر التجول.

لكن أبرز ما أفرزته تلك الانتفاضة هي نشوء حركة حماس الداعم القوي لها، والتي أعلنت عن نفسها عام 1987، حيث طلب حينها طلبة المؤسس العام للحركة الشهيد أحمد ياسين منه المشاركة ودخول المجال المسلح بدل الخط السياسي.

ولم يكن ياسين يريد مواجهة إسرائيل عسكريًّا وكان يمنع هذا النوع من الأنشطة لأنه كان يعتبر أن أي مواجهة مع الدولة العبرية سيكون مكلفًا. ولكنه غير من وجهة نظره بعد أسابيع من انطلاق الانتفاضة وتم البدء في توزيع مناشير تدعو للانضمام إلى صفوف الحركة.

نتائجها

يُقدّر أن 1300 فلسطيني قتلوا أثناء أحداث الانتفاضة الأولى على يد الجيش الإسرائيلي، كما قتل 160 إسرائيليّا على يد الفلسطينيين، حتى هدأت في العام 1991، وتوقفت نهائيًا مع توقيع اتفاقية أوسلو بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية عام 1993.

حققت الانتفاضة الأولى نتائج سياسية غير مسبوقة، إذ تم الاعتراف بوجود الشعب الفلسطيني عبر الاعتراف الإسرائيلي الأمريكي بسكان الضفة والقدس والقطاع على أنهم جزء من الشعب الفلسطيني وليسوا أردنيين.

الموقف الدولي

سمحت الانتفاضة بأن يطلع العالم ويهتم بالقضية الفلسطينية وكذلك المشاهد التلفزيونية للتعسف الإسرائيلي، مثل المشهد الذي التقطته أجهزة التصوير التلفزيوني الغربية للجنود الإسرائيليون الذين كانوا يكسرون أيدي بعض الشباب الفلسطيني بالحجارة الكبيرة.

وانتشرت الكوفية في المجتمع الغربي وكانت تدل على تعاطف ومساندة للفلسطينيين وأصبحت رمزا للثورة، فيما اكتفت الدول العربية ببيانات الشجب والاستنكار، والدعوات لتحقيق السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين.

الانتفاضة الثانية

أسباب اندلاعها

اندلعت شرارة الانتفاضة الفلسطينية الثانية، عقب اقتحام رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق “أرئيل شارون”، المسجد الأقصى، برفقة قوات كبيرة من جيش الاحتلال، وتجوله في ساحات الأقصى، وقوله: “إن الحرم القدسي سيبقى منطقة “إسرائيلية”.

أثار اقتحامه وتصريحاته استفزاز الفلسطينيين، فاندلعت المواجهات بين المصلين والجنود الإسرائيليين، وارتقى 7 شهداء وجُرح 250 آخرون، كما أُصيب 13 جنديًّا إسرائيليًّا.

وشهدت مدينة القدس مواجهات عنيفة، أسفرت عن إصابة العشرات، وسرعان ما امتدت إلى كافة المدن في الضفة الغربية وقطاع غزة، وسميت بـانتفاضة الأقصى.

ويعتبر الطفل الفلسطيني محمد الدرة، رمزًا للانتفاضة الثانية، فبعد يومين من اقتحام المسجد الأقصى، أظهر شريط فيديو التقطه مراسل قناة تلفزيونية فرنسية، في 30 سبتمبر/أيلول 2000، مشاهد إعدام حية للطفل الدرة (11 عاما)، الذي كان يحتمي إلى جوار أبيه بـ”برميل إسمنتي”، في شارع صلاح الدين جنوب مدينة غزة.

وأثار إعدام الجيش “الإسرائيلي” للطفل الدرة، مشاعر غضب الفلسطينيين في كل مكان، ما دفعهم بالخروج في مظاهرات غاضبة، ووقوع مواجهات مع الجيش الإسرائيلي، أسفرت عن استشهاد وإصابة العشرات منهم.

ومن بين الأسباب غير المباشرة لاندلاع الانتفاضة أنه من نهاية عام 1999 ساد شعور عام بالإحباط لدى الفلسطينيين لانتهاء الفترة المقررة لتطبيق الحل النهائي بحسب اتفاقيات أوسلو والشعور بالإحباط بسبب المماطلة وجمود المفاوضات بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي بعد مؤتمر قمة كامب ديفيد.

تطور مسارها

تميزت الانتفاضة الفلسطينية الثانية، مقارنة بالانتفاضة الأولى، بكثرة المواجهات وتصاعد وتيرة الأعمال العسكرية بين المقاومة الفلسطينية والجيش “الإسرائيلي”.

وتعرضت مناطق الضفة الغربية وقطاع غزة خلال انتفاضة الأقصى لاجتياحات عسكرية، وتدمير لآلاف المنازل والبيوت، وتجريف آلاف الدونمات الزراعية، فقد أحدثها اغتيال وزير السياحة الإسرائيلي آنذاك “رحبعام زئيفي” على يد مقاومين من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.

وعمل شارون على اغتيال أكبر عدد من قيادات الصف الأول في الأحزاب السياسية والعسكرية الفلسطينية، في محاولة لإخماد الانتفاضة الفلسطينية التي اندلعت عام 2000 ولإضعاف فصائل المقاومة وإرباكها، وفي مقدمتهم مؤسس حركة حماس الشيخ أحمد ياسين.

وشهدت أيضًا تطورًا في أدوات المقاومة الفلسطينية، مقارنة بالانتفاضة الأولى، التي كان أبرز أدواتها “الحجارة” و”الزجاجات الحارقة”، إذ عملت فصائل المقاومة على توسعة أجنحتها العسكرية، وصناعة صواريخ لضرب المدن والبلدات الفلسطينية المحتلة.

نتائجها

وأسفرت الانتفاضة عن استشهاد 4412 فلسطينيًا و48322 جريحًا، فيما قتل 1069 إسرائيليًّا وجرح 4500 آخرين، وتصفية معظم الصف الأول من القادة الفلسطينيين أمثال ياسر عرفات وأحمد ياسين وعبد العزيز الرنتيسي وأبو علي مصطفى، وتدمير البنية التحتية الفلسطينية.

اختراع أول صاروخ فلسطيني في غزة من نوع “قسام” وتطورت الفصائل وصنعت صواريخ كثر مثل صاروخ “قدس 4″ التابع للجهاد الإسلامي و”صمود” التابع للجبهة الشعبية و” أقصى 103″ لكتائب شهداء الأقصى، و”ناصر” للمقاومة الشعبية.

ومن بين النتائج أيضًا بناء جدار الفصل العنصري الإسرائيلي، بينما انعدم الأمن في الشارع الإسرائيلي بسبب العمليات الاستشهادية، وضرب السياحة في إسرائيل بسبب العمليات الاستشهادية، واغتيال وزير السياحة الإسرائيلي (زئيفي) من أبرز ما أفرزته الانتفاضة للإسرائيليين.

وتوقفت الانتفاضة فعليًّا في 8 فبراير 2005 بعد اتفاق الهدنة الذي عقد في قمة شرم الشيخ والذي جمع الرئيس الفلسطيني المنتخب حديثًا آنذاك محمود عباس ورئيس الوزراء الإسرائيلي الراحل “أرئيل شارون”.

الموقف الدولي

تفاعل الشارع العربي مع الانتفاضة لدرجة أن دولا لم تعرف المظاهرات مثل دول الخليج خرجت فيها مظاهرات تأييدية لانتفاضة الأقصى، وهو ما أحرج الأنظمة العربية التي عقدت بعد ما يقرب من شهر على اندلاع الانتفاضة القمة العربية الطارئة في القاهرة وخرجت ببيان لم تصل فيه إلى مستوى آمال الشارع العربي.

حتى المجتمع الدولي خرج عن صمته وأدان الاعتداءات الإسرائيلية والاستخدام غير المتوازن للقوة العسكرية وصدرت العديد من القرارات والمقترحات الدولية التي تعتبر وثائق إدانة للجانب الإسرائيلي.

انتفاضة ثالثة أم هبات جماهيرية

أسباب اندلاعها

يرى بعض المحللين أن تصاعد وتيرة ما يجري بدأت ملامحه تموز الماضي عندما أضرم مستوطنون النار في بيت فلسطيني بالضفة الغربية مما أدى إلى حرق رضيع نائم فورًا ووفاة أبويه لاحقا، يرونه مؤشرًا لقرب انطلاق انتفاضة فلسطينية، خاصة مع احتدام الجدل حول الحرم القدسي وتكرار المواجهات بين الفلسطينيين والمستوطنين فيه.

إلى جانب سعي الاحتلال الإسرائيلي إلى وضع قدم له بالمسجد الأقصى، ضمن مساعيه المتكررة لتهويده والسيطرة عليه، وتقسيمه مكانيًّا وزمانيًّا بين المسلمين واليهود، التي بدأ تنفيذها فعليًّا مع الاقتحامات منذ سبتمبر الماضي وحتى الآن.

وفشل المفاوضات الفلسطينية-الإسرائيلية، وانسداد أفق التسوية، والتوسع الاستيطاني في معظم مناطق الضفة والقدس، بالإضافة إلى استمرار اعتقال الفلسطينيين، ومصادرة أراضيهم الزراعية، وعلميات القمع والقتل المتعمد للمقدسيين مؤخرا.

تطور مسارها

حالة التصعيد والغليان المُشتعلة في عموم الضفة الغربية ومناطق القدس، وحالة الاستعداد العالية لدى أبناء الشعب الفلسطيني للتضحية والإقدام، لا تعنيان أن الانتفاضة الفلسطينية الثالثة قد باتت على الأبواب تمامًا.

ويعزوا المراقبون إلى ذلك العوائق الكُبرى والتي ما زالت تعترض طريقها، من ناحية الواقع الموضوعي في المُحيط العربي والإقليمي وحتى الدولي، والذاتي الفلسطيني. فالجميع يَعلم أن الفلسطينيين في ظل الواقع الراهن لا يستطيعون وحدهم، في غياب أمتهم، مواجهة ما يجري لهم ولقضيتهم.

وبالتالي، فإن اندلاع انتفاضة فلسطينية شاملة وعامة في الضفة الغربية يَحتَاجُ الى حواضن مُسانده سياسيًا وماديًا ومعنويًا، حواضن عربية وإسلامية، كما يَحتَاُج لحل الاستعصاء الأكبر في الساحة الفلسطينية والخروج من حالة الاحتراب الذاتي والمُتمثل بوجود الانقسام الداخلي.

فضلا عن حالة التضارب والافتراق البرنامجي بين برنامج السلطة الفلسطينية في رام الله ورهانها على المفاوضات كطريق وحيد، والبرنامج الآخر الذي تتبناه حركتي حماس والجهاد الإسلامي وبعض القوى من فصائل منظمة التحرير الفلسطينية كالجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وحتى أجنحة من داخل حركة فتح.

لذلك، ليس بالضرورة ان تأخذ الموجة الحالية تسمية انتفاضة ثالثة، على اعتبار وجود جملة من المتغيرات السياسية والأمنية والاجتماعية لم تكن حاضرة في الانتفاضتين السابقتين 1987، 2000.

وهذه المرة مختلفة عن سابقتيها في حجم المشاركة في العمليات الفردية واستهداف الجيش الإسرائيلي والمستوطنين، وعدم وجود إجماع فلسطيني رسمي حول المضي قدمًا فيها حتى النهاية.

لكن يمكن القول وجود هبة شعبية في القدس لحماية المسجد الأقصى المبارك من التهويد، هبة لا تقتصر على المرابطين في الأقصى، مع مخاوف مشروعة في ذات الوقت من عدم وجود حاضنة فلسطينية سياسية لاستمرار هذه الهبة، وغياب حاضنة عربية وإسلامية كما كان عليه الحال إبان انطلاقة انتفاضة الأقصى في عام 2000.

وبالتالي، فإن تزايد الصدامات والمواجهات في أعمال العنف التي تجري بين الإسرائيليين والفلسطينيين في الضفة الغربية وغزة ومناطق أخرى من الأراضي الفلسطينية، وذلك في ما يصفه محللون ومراقبون بكونه يمثل اندلاعًا للانتفاضة الفلسطينية الثالثة أو ثورة السكاكين.

الموقف الدولي

رغم الصمت لمعظم دول العالمين العربي والدولي، لما يجري في الأراضي الفلسطينية المحتلة، واستناد بعضها على الشجب والاستنكار ووقف ما تسميه “العنف”، فإن ثمة من يرى أن توقيت الهبة الشعبية الفلسطينية الحالية يبدو غير مشجع على الإطلاق من الناحية الإقليمية والعربية، “فلكل امرئ منهم شأن يغنيه”.

يفسر ذلك المحلل السياسي والمحاضر في الشأن الإسرائيلي عدنان عامر، في حديثه لـ” الجزيرة نت”: “إنه مجرد متابعة أولية لنشرات الأخبار العربية تعطينا الجواب اليقين بأن المشاكل الداخلية تتصدر الاهتمامات، وهذا أمر لا يعيب أحدًا”.

ويرى أن ترتيب الأولويات قد يعيق تقديم عون عربي رسمي أو شعبي لأي انتفاضة فلسطينية، وقد عشنا ذلك للأسف خلال حرب غزة الأخيرة 2014، وحجم التفاعل الشعبي والرسمي العربي، الذي كان خجولًا في معظم الأحيان، ودون المستوى المطلوب بكثير.

نتائج متوقعة

استعادة القضية الفلسطينية لجوهرها كقضية احتلال غاصب لأرض، وشعب يكافح من أجل استعادة حقوقه الوطنية، والتذكير بأن القضية لم تمت رغم وضعها عنوة في ثلاجة أوسلو منذ نحو 22 سنة.

ووقف الانتهاكات بحق المسجد الأقصى، وتأخير مشروع التهويد أو التقسيم الزماني والمكاني له. والتأكيد مجددًا أن القدس خط أحمر، بالإضافة إلى إحراج السلطة الفلسطينية، ودفعها لوقف التنسيق الأمني مع الاحتلال، مع استبعادنا لسيناريو حل السلطة أو شطب خيار التسوية في المدى المنظور.

ومن بين النتائج المتوقعة أيضًا استعادة التوازن الوطني نسبيًا للعلاقة بين حركة “فتح”، وحركة “حماس” والفصائل الأخرى؛ وإحراج الدول العربية والإسلامية، وخاصة التي تتمتع بعلاقات سياسية أو تجارية مع الاحتلال، ودفعها لممارسة الضغوط عليه لوقف انتهاكاته بحق الأقصى.

عرض التعليقات
تحميل المزيد