يقول الشاعر المصري صلاح جاهين: «اللي ما يتكلمش يا كتر همه»، وحكمة سقراط الشهيرة تقول: «تكلَّم حتى أراك». معظم الشعراء والفنانين يتحدثون عن أهمية الكلام ومشاركة المشاعر والأفكار مع الآخرين، وهو أمر يصعب إنكار أهميته، ولكن في بعض الأحيان والحالات، قد يكون الصمت هو الأفضل، ليس فقط للآخرين أو من حولك، بل لنفسك ولصحتك النفسية والعقلية. ليست كل الأحزان مما يكون من الأفضل أن تتحدث عنها، وليس من الصحي أن تتحدث طوال الوقت عن كل ما يدور في عقلك، وهذا ما سنحاول شرحه لك اليوم في هذا التقرير.
اختبار المارشميلو.. أهمية التأني والصمت
هي حقيقة معترف بها عالميًّا في علم النفس؛ أن التحدث عن مشكلاتك مع أحد المقربين أو طبيب نفسي قد يساعد على تخلصك منها، ولكن عالم النفس الأمريكي والتر ميشيل أجرى تجربة يطلق عليها تجربة المارشميلو أظهرت جانبًا مهمًّا عن أهمية الانتظار والصمت والتحكم في النفس.
في هذه التجربة وضع والتر أمام مجموعة من الأطفال في الرابعة من عمرهم بعض قطع المارشميلو، ومنحهم اختيار تناول المارشميلو فورًا أو على مهل، بعضهم تناول الحلوى سريعًا وملأ بها فمه وانتهى منها فورًا، البعض الآخر انتظر قليلًا ثم بدأ في تناول الحلوى بتأنٍّ، وبعد نهاية الاختبار اكتشف والتر أن الأطفال الذين انتظروا وتناولوا الحلوى على مهل استمتعوا بها أكثر.
ومن خلال تجربته التي انقسمت إلى العديد من الاختبارات الشبيهة؛ اكتشف والتر أن الحديث عن الصدمة النفسية ليس دائمًا في صالح المريض النفسي، بل أحيانًا قد يزيد حالتهم النفسية سوءًا، هذا النهج أطلق عليه عالم والتر اسم «stiff upper lip» وهو تعبير أمريكي يستخدم للتعبير عن الشخص الذي يمكنه التحكم في نفسه وعدم التحدث طوال الوقت عما يدور في عقله، وقد وجد والتر أن تلك الطريقة هي الأفضل في علاج الكثير من المشكلات النفسية، خاصة العاطفية منها.
تقول الطبيبة النفسية الأمريكية فيلبا بيري، في مقال لها بجريدة «الجارديان»، أن بعض الأطباء النفسيين قد يظنون أن مطالبة المريض بالصمت وعدم التحدث عن بعض آلامه النفسية، قد يكون ضربة قاضية لمهنة الطب النفسي، التي تعتمد في الأساس على الحديث، ولكن فيليبا توضح أن هذا ليس حقيقيًّا، فهناك خط رفيع يجب أن يدركه كل طبيب نفسي بين معالجة التجربة المؤلمة التي مر بها المريض، وإدارتها إدارة جيدة أثناء الحديث معه، وبين إعادة إحيائها بكل تفاصيلها وإعادة إيذاء المريض لنفسه من خلال تذكرها عن طريق التحدث.
في دراسة نشرت في عام 2010م تحت عنوان «أصوات الصمت في العلاج النفسي»، ناقشت تلك الدراسة أهمية فترات الصمت الممنوحة للمريض النفسي خلال جلسات العلاج النفسية، وأهمية إدراك الطبيب النفسي للوقت المناسب الذي يجب فيه إيقاف المريض عن الحديث تمامًا؛ حتى لا يؤدي به الأمر إلى إيذاء نفسه من كثرة التحدث عن مواقف مؤلمة أو صادمة في الماضي، ووضحت تلك الدراسة للأطباء النفسيين كل التفاصيل التي يحتاجونها لإدارة فترات الصمت إدارة جيدة، واستغلالها لمصلحة المريض النفسي. ولكن ماذا لو كان الشخص لا يتعامل مع طبيب نفسي، كيف يمكن للصمت أن يفيده في صحته النفسية؟
علاج متلازمة الضحية بالصمت
إذا كان المرء يمر بصدمة نفسية، ومن وقت وقوع الصدمة لا يكف عن التحدث عنها مع كل من يقابله، ويحكي تفاصيلها مرة وراء الأخرى، ويستدعيها من الذاكرة كل يوم؛ يخبره علم النفس بأنه بهذه الطريقة يؤذي نفسه بأقسى الطرق، وينصحونه بأن الصمت هو الطريق الأكثر صحة لسلامته النفسية.
يوضح علم النفس أن الصمت في أوقات الصدمة والحزن يكون مهمًّا لعدة أسباب، موضحين أن استخدام الكلمات للتعبير عن الحزن مباشرة وقت حدوث الصدمة لا يكون في مصلحة المريض، وعليه أن يصمت لفترة يحاول خلالها الاكتفاء بالشعور بالحزن العميق أو الغضب دون وصفه بكلمات قد تشتت هذا الإحساس، أو تضفي عليه معاني ليست حقيقية، ولهذا لا يفضل أطباء النفس حث المرضى النفسيين الذين تعرضوا لموت قريب لهم؛ بالتحدث مباشرة عن مشاعرهم، بل ينصحونهم بفترة من الصمت والتأمل الهادئ لمشاعرهم قبل الحديث عنها.
في الواقع، فإن فترة الصمت تمنح الإنسان القدرة على إدراك حجم مشاعره الحقيقي، وتقدير الموقف كما هو دون إضافة أي مشاعر دراماتيكية عليه فيصبح أكثر مأساوية، ويتحول الحديث وقتها إلى تجربة مرهقة لصاحبها، ولذلك في فترات الحزن الشديد؛ يوفر الصمت علاجًا طبيعيًّا لحالات القلق المزمن أو نوبات الفزع التي قد تهاجم المريض النفسي.
هذا بالإضافة إلى أن الحديث لفترات طويلة عن المأساة التي يمر بها المرء، تعزز متلازمة الضحية بداخله، ومع الوقت سيكون لديه متعة لا يدركها واعيًا للحديث عن آلامه؛ ما قد يدفعه لتحمل الإهانات وتعريض نفسه لتجارب مؤذية، حتى يكون لديه مادة جديدة للحديث عنها بعد أن يمل من حوله من أحاديثه عن صدمته القديمة.
وتتحول حياته لسلسلة متواصلة من السعي وراء صدمات يمكنه التحدث عنها؛ للحصول على تعاطف ودعم الآخرين، أما إذا عالج الإنسان من البداية صدمته بالصمت، واستطاع أن يدير حوارًا ذاتيًّا عقلانيًّا بينه وبين نفسه حول أبعاد الصدمة، وما إذا كان في يده تغيير الماساة أم لا، فإذا كانت الإجابة لا؛ سيدرك أن الحل الأمثل هو متابعة حياته نحو الأفضل، دون أن يُسجن في دائرة لا تنتهي من الحكي عن الصدمة، التي تتحول مع الوقت إلى بركة من الآلام يغرق فيها وينسى ما عليه فعله في حياته لتكون أفضل.
العلاقة الأهم في حياتك.. ماذا لو لم نتحدث لـ3 أيام؟
الغرض الأساسي من الحديث هو التواصل مع الآخرين، ولكن ما يحدث للبشر هو أنهم يتحدثون كثيرًا، ويتواصلون مع الآخرين تواصلًا دائمًا ودؤوبًا، حتى يفقدوا قدرتهم على التواصل مع أنفسهم. ليس علم النفس فقط هو ما ينصح بفترات من الصمت لكل إنسان، وليس للمرضى النفسيين، أو من يعانون من الصدمة فقط، بل إن العديد من الديانات والثقافات الشرقية من آلاف السنين تدعو البشر إلى فترات من الصمت بغرض التواصل مع الذات وهدوء العقل والروح، تلك الفترات تجعل من يمارسها يبني ويقوي أهم علاقة في حياته، وهي علاقته بذاته، فنحن نتحدث مع الكثير من البشر يوميًّا، ولكن لا نتحدث مع أنفسنا بالقدر الكافي.
الصمت يذكرنا بأهمية حب الذات التي نهملها، ويجعل الإنسان ينصت لجسده بشكل أفضل، ويتعرف إلى مواطن آلامه الجسدية والنفسية ومن ثم يدركها، وتلك هي بداية الطريق لعلاج أي مشكلات نفسية يعاني منها، بالإضافة إلى أن العلاقة مع الذات تعد التدريب الأفضل لعلاقتك الشخصية بالآخرين.
يخبرك الطب النفسي بأنه من الرائع أن تتعاطف مع مشاعر الآخرين وتنصت لها، وأن يكون لديك القدرة على الإنصات للآخرين إنصاتًا جيدًا في فترات احتياجهم، ولكن هل لديك القدرة على أن تصمت لمدة أيام حتى تقدم هذا لنفسك، تسمع أفكارك، وتستعرضها وتجردها من آراء الآخرين وردود أفعالهم عندما تحدثهم عن مشاعرك، والتي قد تؤثر في رؤيتك لمشاعرك الخاصة؟ لتلك الأسباب يكون الصمت لفترات قد تصل لأيام مهمًّا لك.
أدرك البعض في الدول الأوروبية والولايات المتحدة مؤخرًا أهمية الصمت لعدة أيام، وأطلقوا على هذا الطقس اسم «silence challenge» أو «Vow of Silence»، وهناك من يمارسونه لأكثر من ثلاثة أيام، ولمدة تصل إلى أسبوع أو شهر، ويستعدون ببطاقات عليها العبارات المهمة للتواصل في الأماكن العامة، يرفعونها للآخرين في حين الحاجة، ولا يتحدثون مع أي شخص على الإطلاق طوال هذه الفترة، والعديد من الناس شاركوا مشاعرهم تجاه تلك التجربة بعد أن انتهوا منها في أكثر من منصة إعلامية أجنبية.
فيباسانا.. رؤية الأشياء كما هي
مع رواج الثقافات الشرقية مؤخرًا في مختلف أنحاء العالم، وانتشار ممارسات مثل ممارسة اليوجا والتأمل، وانتشار المراكز التي توفر معلمين في أمريكا وأوروبا وأحيانًا بعض الدول العربية ليقدموا دروسًا في التدريبات الخاصة بتلك الثقافات؛ بدأت أيضًا ممارسة الفيباسانا، وهي ممارسة بوذية تعني حرفيًّا رؤية الأشياء كما هي بالفعل، أو رؤية الأشياء على حقيقتها، وهي واحدة من أقدم وسائل التأمل في الهند، والتي كانت تمارس منذ أكثر من 2500 عام.
تهدف ممارسة التأمل والصمت لمدة 10 أيام أو ثلاثة أيام لمن لا يقدرون على الصمت فترات طويلة، والتأمل لساعات، لوصول الإنسان إلى حالة من الهدوء والسلام النفسي، ويجب على من يمارسها أن يكون منتبهًا تمامًا لما يشعر به جسده ومراقبة الأفكار التي تمر على ذهنه وتمييز السام منها والتخلص منه فورًا.
تأتي آنالييس استنى السائحة الهولندية إلى مصر سنويًّا لممارسة الفيباسانا في واحد من منتجعات الصعيد، حيث تصمت آناليس سنويًّا لمدة ثلاثة أيام، مؤكدة لـ«ساسة بوست» أنها لم تستطع حتى الآن أن تمارس هذا الطقس لمدى أطول، توضح آناليس أنها على مدار العام تشعر بالقلق الدائم والتوتر نتيجة عملها في الطيران مضيفة، فدائمًا عليها التحدث إلى الركاب والسعي وراء راحتهم على متن الطائرة، ولكن في تلك الأيام التي تصمت فيها تشعر بالهدوء النفسي، وتشعر وكأن هناك عبئًا أزيل من على كاهلها وكأنها ليست في حاجة لتبرير نفسها إلى أحد، أو شرح أيٍّ من مشاعرها.
هذا الطقس الذي تمارسه آناليس سنويًّا على مدار ستة أعوام حتى الآن، أكدت أنه غيَّر من نظرتها إلى نفسها والعالم، وجعلها تتواصل مع نفسها تواصلًا أفضل، بل ساعدها على النوم الهادئ بعد أن كانت تعاني من الأرق والإرهاق المزمن، وأحيانًا عندما تشعر بالضغط العصبي أثناء وجودها في هولندا تمارسه لمدة يوم واحد بغرض تهدئة روعها والتركيز على تواصلها الذاتي.
بعد أن قرأت في هذا التقرير عن أهمية الصمت للعلاج النفسي؛ قد تكون فكرت في تجربته على أرض الواقع لترى فوائده، في هذه الحالة عليك الانتباه لأهم نصيحة قدمها الطب النفسي لمن يريدون ممارسة الصمت لفترة طويلة، وهي تجنب الحديث السلبي الذاتي، ولذلك عليك مراقبة أفكارك جيدًا أثناء فترات الصمت، وإذا راودتك فكرة سلبية عن نفسك أو عن حياتك وقراراتك؛ عليك التخلص منها فورًا، ووقتها عليك أن تسأل نفسك ماذا ستقول لصديقك المقرب إذا قال عن نفسه تلك الأشياء السلبية؛ وردد هذا الكلام المشجع الداعم لنفسك.