(يجب على الحكومة في إسرائيل أن تبذل أقصى ما في وسعها، وأن تتخذ كل الإجراءات الممكنة في المجالات الاقتصادية والعسكرية لتضمن استفادة السيسي القصوى من أفعاله وتحركاته).
هكذا كانت الجملة الافتتاحية في المقال المنشور في صحيفة جيروزاليم بوست تحت عنوان (السيسي ليس مبارك)، ولنستعرض معًا في التالي رد فعل النخبة الإسرائيلية على تبرئة مبارك التي عرضتها كاتبة المقال.
دفع حكم المحكمة المصرية بتبرئة الرئيس السابق حسنى مبارك، وأبنائه، والمقربين منه من جميع التهم المتبقية ضدهم معظم المراقبين أن يعلنوا أن الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي قد عاد بعقارب الساعة إلى الوراء، حيث إنه تحت قيادته – كما يقولون- استعادت مصر نظام مبارك الشمولي تحت قيادة ديكتاتور جديد.
ولكن ربما هذا ما تبدو عليه الأحداث من السطح، ولكن الحقيقة عكس ذلك، فحقيقة الأمر أنه على الأقل ما دامت إسرائيل مهتمة فلا شيء يكمن أن يكون أبعد من الحقيقة، خلال فترة حكم مبارك التي امتدت لثلاثين عامًا كان تقييم مبارك أن التهديدات ضد إسرائيل لا علاقة لها بالتهديدات ضد مصر، ونتج عن وجهة النظر هذه أن مكن مبارك للإرهابيين أن يمدوا جذورهم ويرسخوها في سيناء، حيث سمحت مصر أن تستخدم سيناء كممر رئيسى للإرهابيين والأسلحة للدخول إلى غزة، وذلك بعد أن قام مبارك برد فعل ضعيف ضد أنفاق التهريب التي تربط قطاع غزة بسيناء. وبحلول عام 2005 أصبح واضحًا للعيان أن هناك قوات من حماس وحزب الله وإيران والقاعدة في سيناء يعملون على الأرض ويتعاونون مع بعضهم البعض. وعلى الرغم من التحذيرات الإسرائيلية لم يقم مبارك بأي إجراء فعال لتفريق هذا التحالف والتقارب بين هذه المجموعات في بدء نشأته. ونتيجة لرفض مبارك أصبح الفلسطينيين في غزة قادرين على البدء وبقوة في توسيع نطاق حربهم ضد إسرائيل باستخدام القذائف الصاروخية وقذائف المورتر والصواريخ، فمنذ أن بدأت تلك الهجمات الصاروخية قبل 14 عامًا لم تكن القذائف الفلسطينية الصاروخية لتحدث لولا التعاون المصري الفعال، فقد تمكن قادة الإرهابيين الفلسطينيين مرات كثيرة لا تعد من الهروب إلى سيناء وتجنب الاعتقال على أيدى القوات الإسرائيلية، وفوق ذلك العودة إلى غزة مرة أخرى، ومواصلة عملياتهم.
اعتقاد مبارك أن إسرائيل صمام الأمان له
كان مبارك يفترض أنه من خلال تسهيل العمليات الجهادية ضد إسرائيل من الأراضي المصرية يقوم بحماية وتأمين مصر من هذه العمليات، حيث رأى أن الإخوان المسلمين وحماس وحزب الله وإيران سوف يكونون راضين عن تعاونه معهم في جهادهم ضد اليهود، وهذا من شأنه أن يتركوه لحاله. إلا أنه فقط وفي عام 2009 عندما أعلنت مصر تفكيك شبكة إرهابية في سيناء تتألف من عناصر من الحرس الثوري الإيراني وحماس وحزب الله، والذين كانوا يخططون لشن هجمات ضد إسرائيل ومصر وفوق ذلك يسعون لإسقاط نظام الحكم، حتى إن مبارك بدأ يلمح إلى أنه ربما أخطأ في تقدير الموقف، لكن حتى ذلك الحين كانت ردود أفعاله متفرقة ومحدودة التأثير.
استمرت الاعتداءات من حماس ضد إسرائيل منذ ذلك الحين وفي السنوات التالية. وتوسع نفوذ قوات الإخوان المسلمين والقاعدة في سيناء، كل ذلك كان إشارة واضحة أن مبارك لم يكن راغبًا في التعامل مع هذا الواقع غير السار، وهو أن هذ القوات التي تهاجم إسرائيل بضراوة كانت تسعى للإطاحة بنظامه وتدمير الدولة المصرية، وفي تناقض شديد تسلم السيسي وزارة الدفاع بينما تستعد هذه القوات ذاتها لتدمير الدولة المصرية، وفي نفس الوقت تسلم الإخوان المسلمون السلطة جزئيًّا نتيجة للدعم الذي تلقوه من حركة حماس. فخلال أحداث ثورة يناير 2011 ضد مبارك لعب نشطاء حركة حماس دورًا رئيسيًّا في اقتحام السجون المصرية في سيناء وتحرير قادة الإخوان المسلمين من السجن، بما في ذلك رئيس جماعة الإخوان المسلمين محمد مرسي. وفي عام 2012 و 2013 خدمت قوات حماس في قمع الاحتجاجات ضد نظام الإخوان المسلمين حين تصاعدت الاحتجاجات ضد مرسي الذي كان يحلم بممارسة نفس الصلاحيات الديكتاتورية لمبارك، وأيضًا المكائد الدستورية التي كان يهدف من خلالها إلى تحويل مصر إلى دولة إسلامية ومركز الخلافة الإسلامية في العالم في المستقبل.
ولكن السيسي وجنرالاته أطاحوا بنظام جماعة الإخوان المسلمين بدعم من السعودية والإمارات العربية المتحدة، وذلك لمنع مصر من التورط في محور سني جهادي مع حماس يكون اللاعب الأساسي فيه القاعدة والحركات الجهادية الأخرى، وتكون إيران وحزب الله قوات متحالفة. و بسبب الأحداث التي أوصلته للسلطة تبنى السيسي موقفًا استراتيجيًّا يختلف عن مبارك، حيث يرى السيسي الأمور على حقيقتها وهي أن القوات الجهادية السنية وحلفاءهم الشيعة الذين تقودهم إيران بمثابة تهديد حقيقي للدولة المصرية، وإن كان هدفهم الأساسي هو إسرائيل، ولذلك فهم السيسي أن الحرب الإسرائيلية المباشرة ضدهم سوف تكون ذا فائدة كبيرة لمصر، وأدرك أنه عندما تنجح إسرائيل في هزيمتهم سوف يجعل مصر أكثر أمانًا، وعندما تكون إسرائيل ضعيفة سوف يكونون مصدر تهديد متزايد لمصر.
يدرك السيسي مثل إسرائيل أن فكر وأيديولوجية الإخوان المسلمين، والتي تتشارك فيها مع حماس والقاعدة والجماعات السنية المهمة الأخرى، تجعل من هذه المجموعات تهديدًا مباشرًا لمصر، وبسبب هذا الإدراك تخلى السيسي عن سياسة مبارك السابقة من تمكينهم من الحرب ضد إسرائيل، وأكثر من ذلك ليس التخلي عن هذه السياسة فقط، ولكن عمل السيسي في تحالف مع إسرائيل لمكافحتهم، ولن يكون هناك دليل أكثر وضوحًا على ذلك من ردود أفعاله ضد حماس في قطاع غزة.
أمر السيسي بعد توليه السلطة في يوليو عام 2013 على الفور الجيش المصري باتخاذ إجراءات لتأمين الحدود بين غزة وسيناء، ولتحقيق هذا الهدف ولأول مرة اتخذت مصر إجراءات مستمرة وفعالة من أجل منع تهريب الأسلحة والأشخاص بين المنطقتين. وكان لهذه الإجراءت تأثير كبير على حركة حماس، فقد دخلت حماس الحرب مع إسرائيل الصيف الماضي في محاولة لإجبار مصر وإسرائيل على فتح حدودهما مع غزة لدعم حكومة حماس وحلفائها الجهاديين. وكانت حماس متأكدة من أن عرض بعض لقطات المعاناة في غزة من شأنه أن يجبر مصر على معارضة إسرائيل، وبالتالي فتح الحدود مع غزة، وسيؤدي أيضًا إلى أن الضغوط التي تمارسها الولايات المتحدة على إسرائيل سوف تجبر إسرائيل على الرضوخ لمطالب حماس.
ولكن الذي حدث أن أيد السيسي إسرائيل ضد حماس، وذلك خلافًا لكل التوقعات والتصرفات السابقة للموقف المصري تحت قيادة مبارك أو مرسي، بل وأكثر من ذلك أدخل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة في تحالف غير رسمي مع إسرائيل، وكان التكتل الذي شكله السيسي قويًّا بما فيه الكفاية للتغلب على الضغوط الأمريكية لإنهاء الحرب عن طريق الخضوع لمطالب حماس وفتح حدود غزة مع مصر وإسرائيل.
منذ أن دخل وقف إطلاق النار حيز التنفيذ قبل ثلاثة أشهر، واصل السيسي إغلاق الحدود، ونتيجة لذلك فقد قلص قدرة حماس على إعادة بناء بنيتها التحتية للإرهاب في قطاع غزة، وفي حالة الضعف هذه، تقل قدرة حماس أيضًا على تسهيل العمليات الجهادية في سيناء، والتي كانت تشارك فيها في المقام الأول لعمل تمرد ضد الدولة المصرية.
للتأكيد فإن إعادة تنظيم استراتيجية الولايات المتحدة في عهد الرئيس أوباما هي التطوير الاستراتيجي الأكثر أهمية، حيث إنه في عهد الرئيس أوباما كانت الولايات المتحدة تلعب على كلا الجانبين بدعمها لإيران وحلفائها بالأقمار الصناعية والمساعدات، بما في ذلك جماعة الإخوان المسلمين وحماس ضد حلفاء أمريكا من السنة، وكذلك إسرائيل، لكن التحالف الذي ظهر هذا الصيف بين مصر وإسرائيل بمشاركة المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأمريكية يعد أيضًا بمثابة تطور استراتيجي كبير للغاية، لأول مرة تبنى قوة إقليمية كبرى فهمها للموقف الاستراتيجي على أن التهديدات ضدها وضد إسرائيل تأتي من نفس المصادر، وبالتالي فأي حرب ضد إسرائيل هي حرب ضدها أيضًا.
وقد بذلت إسرائيل أقصى جهودها في هذه القضية لسنوات لإقناع جيرانها من العرب، ناهيك عن الولايات المتحدة الأمريكية ودول غرب أوروبا، ولكن لأسباب عدة لا أحد كان على استعداد فيما مضى لقبول هذه الحقيقة الأساسية الواقعية، ونتيجة لذلك كان كل من الولايات المتحدة والأوروبيين حتى السعوديين يدعمون السياسات التي تدعم الجهاديين ضد إسرائيل.
أصبح السيسي أول زعيم كبير يكسر هذا المنوال كرد فعل لتصرفات حماس الماضية منذ وصوله إلى السلطة، وجلب معه المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة على نفس النهج الفكري له، وكان لإعادة التقييم هذه تأثير عميق على الواقع الإقليمي عمومًا، وعلى الموقف الاستراتيجي لإسرائيل على وجه التحديد.
فمن وجهة النظر الإسرائيلية يعد هذا حدثًا فاصلًا.
مرة أخرى يجب على الحكومة في إسرائيل أن تبذل أقصى ما في وسعها، وأن تتخذ كل الإجراءات الممكنة في المجالات الاقتصادية والعسكرية لتضمن استفادة السيسي القصوى من أفعاله وتحركاته.