لدينا مشكلة في الطاقة، إذًا هيا بنا نغير اعتماد الناس الأبدي، على النفط والغاز والطاقة النووية، إلى مصدر مختلف لا ينفد ومجاني تمامًا. لدينا مشكلة أخرى في احتراق وقود السيارات، ماذا عن إقامة أضخم مشروع عالمي لصنع وتسويق السيارات الكهربائية إذًا؟ ومشكلة ثالثة تقابلنا في تقليل تكاليف السفر للفضاء، لا بأس سنعالج هذه المشكلة بعد قليل، وسنطلق أول صاروخ ينجح في الصعود للفضاء، ثم يعود للأرض قطعة واحدة، كما تفعل أي طائرة مروحية بسلاسة تامة. مرحبًا بكم في العالم المدهش للرجل الحديدي.

عام 1992، وقف شاب جنوب إفريقي المولد كندي الأصول، في باحة حرم كلية الفنون والعلوم بجامعة بنسلفانيا، يفكر في ما ينبغي أن يفعله في حياته. محطة الأفكار التي يمر عليها أي شاب في سنه تقريبًا، لكنه كان مختلفًا، ولذلك طرح على نفسه سؤالًا ثانيًا أهم وغير مطروق: «ما الذي سيؤثر ويتحكم في مستقبل البشرية فيما بعد؟». بعد لحظات قليلة سيضع الشاب قائمةً صغيرةً من خمسة أشياء، تمثل إجابة السؤال: «الإنترنت، والطاقة المتجددة، واكتشاف الفضاء، ومحاولة توطين البشر في الكواكب الأخرى، الذكاء الاصطناعي، والهندسة الجينية». بعدها سيبدأ مباشر في تعقب هذه القائمة، والتدخل الفعال في الثلاثة أشياء الأولى، وصولًا إلى تغيير قواعد اللعبة بالكامل.

حرب الطاقة الشمسية

باراك أوباما بجوار إيلون ماسك، في قاعدة كاب كانافيرال، في أبريل (نيسان) 2010

في بدايات عام 2010، تقدم الرئيس الأمريكي باراك أوباما بخطته، والتي كانت جزءًا من برنامج انتخابه الرئاسي، لتطوير قطاع الفضاء. ومثّل محورها الأساسي، زيادة الدور الذي تلعبه شركات الفضاء الخاصة، متولية مهام التوصيل للمحطة الفضائية الدولية، ومهام الإطلاق الواصلة إلى مدار الأرض الأقرب لنا. بعد بداية العام بأربعة أشهر، الخميس 15 أبريل (نيسان)، سيقف الشاب الذي كان يسأل عن مستقبل البشرية، والبالغ من العمر حينها 39 عامًا، بجوار أوباما في قلب قيادة مقر البرنامج الفضائي الأمريكي، قاعدة كاب كانافيرال، ليوثق دخوله إلى باحة ناسا الأمامية، وفوزه بعقود رسمية شكلت نقلة هائلة لشركته «SpaceX»، وليطلق ريادي أعمال وادي السيليكون الشهير، والملياردير أمريكي الجنسية إيلون ماسك، جزءًا آخر من أسطورته.

يبدو ماسك ناجحًا تقريبًا في كل ما يفعل، يشتري شركة باي بال الناشئة والمغمورة في أواخر التسعينات، فتتحول لعملاق نقل الأموال العالمي الأول، ولتحرك الآن سنويًّا أكثر من ربع تريليون دولار بين ما يقارب الـ200 دولة، يطلق شركته الفضائية الخاصة، فيصل بها إلى تعاون وشراكة وثيقة مع ناسا، وكالة الفضاء الأولى والأهم عالميًّا، والتي أصبحت تعتمد بشكل كبير على سلسلة صواريخ «فالكون» التي تصنعها الشركة، يشتري شركة «تسلا» للسيارات الكهربائية، بعد أشهر معدودة من إطلاقها في 2004، فتصبح الآن شركة السيارات الكهربائية الأولى عالميًّا، يمثل الرجل طفرةً بالفعل في كل شيء، وعلى حد تعبير المدون الشهير «تيم أوربن»، فإن إيلون ماسك هو «ريادي الأعمال الأكثر ثورية في وادي السيليكون»، لكن تيتانيك ماسك العملاقة على وشك مقابلة جبلها الجليدي الذي لا يرحم.

على الجانب الآخر من العالم هناك قائمة تعرف بقائمة «العشرة»، وهم رجال الأعمال والمستثمرون الأغنى على وجه الأرض، والأكثر تأثيرًا ونفوذًا في اقتصاد العالم، وبالتبعية في كل شيء آخر، أسماء لا يجهلها أحد مثل بيل جيتس، ومارك زوكربيرج، وكارلوس سليم، ومايكل بلومبيرج، وبالطبع وارن بافيت.

هناك شبه اتفاق عام على تنصيب وارن بافيت على عرش الاستثمارات العالمية، موصوفًا بالمستثمر الأنجح في العالم، أحد أكثر رجال العالم نفوذًا بحسب مجلة Time في السنوات القليلة الأخيرة، والملياردير مالك شركة «بيركشاير هاثاواي» القابضة، المستحوذة على أسهم عدد لا يستهان به من الإمبراطوريات الاقتصادية العالمية، والذي تقدر ثروته بأكثر من 60 مليار دولار، واضعة إياه دائمًا في المراتب الخمس الأولى لأكثر رجال العالم ثراءً.

حرب الطاقة الشمسية

وارن بافيت بجوار باراك أوباما في البيت الأبيض، في يوليو (تموز) 2010

عند تحليل نموذج أعمال ماسك، يبرز لنا أساس نجاحه المدهش المتمثل في معرفته لأهمية التأسيس للجذور، والتحكم بها قبل أي شيء آخر، ويمكننا رؤية المثال الأبرز على ذلك في استثماراته في محركات تسلا، فأي تحليل لسوق السيارات، أو النقل العالمي عمومًا، لا يمكنه فصلهما عن سوق الطاقة، ارتباطٌ وثيقٌ أساسه الرئيس هو النفط، الوقود الأحفوري الذي يمثل عماد شبكة النقل العالمية. لذلك عندما أراد ماسك أن يغير من منظومة النقل العالمية، بسيارات شركته الكهربائية، عرف أن عليه الاستثمار في بنية الطاقة التحتية العالمية أيضًا وتغييرها، ولذلك كانت استثماراته في مجال الطاقة المتجددة، سواء بمحطات شحن السيارات الكهربائية، والمتوغلة، مكونة حاليًا شبكة عالمية متمركزة في الولايات المتحدة وأوروبا خصيصًا، واستثماراته في مجال الطاقة الشمسية، عن طريق شركته الشهيرة Solarcity العاملة في الولايات المتحدة، الشركة التي ستمثل تقاطع الطرق بين ماسك وبافيت وبداية الحرب بينهما.

حرب نيفادا

قبل تسع سنوات من الآن، وفي عام 2007، بدأ الشقيقان بيتر وليندون رايف، في تفعيل شركتهما سولار سيتي للطاقة الشمسية، المسجلة منذ يوليو (تموز) لعام 2006، والآتية فكرتها من ابن العم «إيلون ماسك» نفسه. كانت بداية العمل بسيطة في ولاية كاليفورنيا، وكانت عروض العمل بسيطة أيضًا، تقوم الشركة بتحويل المنازل والشركات والمؤسسات إلى العمل بألواح الطاقة الشمسية، من خلال عقود طاقة ميسرة تمتد إلى عشرين عامًا، وبمقابل مادي أقل بنسبة لا بأس بها من شبكة الكهرباء الحكومية العادية، ولأن سولار سيتي قدمت خدمات تنافسية بالفعل، فإن الشركة في عام 2013 تحولت، في غضون ست سنوات فقط، إلى مزود الطاقة الشمسية الرئيسي الثاني في الولايات المتحدة بالكامل، لتعمل في عشر ولايات أمريكية، وبأرباح سنوية تقترب بشكل حثيث من الربع مليار دولار.

يمتلك نظام الطاقة الأمريكي، خاصية فريدة من نوعها، تدعى «القياس الصافي»، وهي الترتيب الحكومي المعمول به في دول العالم المتقدم، والمستخدمة للطاقة المتجددة، ومفادها أنه من حق أي شخص، أو أسرة، أو كيان امتلاك وتوليد طاقته الكهربائية بنفسه، مستقلًا عن الدولة وشبكتها المركزية ومزودي طاقتها الخاصين، مقابل دفع رسوم سنوية، مخفضة تمامًا لها، فضلًا عن إمكانية بيع فائض هذه الطاقة للدولة نفسها في أي وقت وبأسعار ربحية، وتخزين الطاقة واستعمالها في أي وقت، كأن ينتج منزل ما طاقةً شمسيةً في فبراير (شباط) ليستعملها في يوليو (تموز).

في عام 2014، واصلت سولار سيتي تقدمها، المثير للاهتمام، في سوق الطاقة المتجددة الأمريكي الواعد، لتصل أرباحها السنوية إلى 350 مليون دولار، وليكون الموعد مع الولاية 11، ولاية نيفادا، والتي ستشهد ساحة النزال المثلى بين بافيت وإيلون.

تعتبر شركة «NV» للطاقة المزود الرئيسي للكهرباء في ولاية نيفادا، وهي إحدى الثلاث شركات المنتجة للكهرباء، والأضلاع بدورهم في شبكة الطاقة المكونة من أكثر 10 شركات، يعملون جميعهم في الولايات المتحدة وبريطانيا، هذه الشبكة مملوكة بالكامل لشركة أم تدعى بيركشاير هاثاواي للطاقة.

عندما دخلت سولار سيتي لسوق نيفادا للطاقة، مستفيدة من سمعتها، وإقبال الأمريكيين على الطاقة المتجددة، وانخفاض تكلفتها الشديد مقارنة بأسعار الكهرباء التقليدية، والأهم خاصية القياس الصافي الحكومية، وجدت حينها إقبالًا كبيرًا من سكان نيفادا على عروضها، لتصبح في نفس العام المزود الأول للطاقة الشمسية في الولاية، ولتدق ساعة الخطر بالنسبة إلى NV ولوارن بافيت، منازعة إياهم في السيطرة على سوق طاقة نيفادا الذي تتحكم فيه عائلة الطاقة البيركشايرية منذ عام 1999.

سريعًا استلت شركة NV أسلحتها، بحسب القصة التي رواها نوح بوهايار، أحد محرري بلومبيرغ الاقتصاديين، في تقريره «كيف أصبح مستقبل الطاقة الشمسية صراعًا بين المليارديرات»، في البداية حشد جماعات الضغط الخاصة بها لتعديل قانون الطاقة، وتعديل كمية الطاقة المسموح بتوليدها بشكل مستقل للأفراد والمنازل، وتقليلها بالطبع، وهو ما نجحت فيه بالفعل، ثم اتجهت بجماعات الضغط وبنفوذها إلى إدارة الطاقة العامة في نيفادا، لتدفع في اتجاه رفع تكلفة انفصال سكان الولاية، أفرادًا وكيانات، عن الشبكة الكهربائية العامة أو عن NV للدقة، واتجاههم للطاقة الشمسية، ولم تكتفِ بذلك فحسب، وإنما جعلت الأمر أكثر كلفة وغير اقتصادي بالمرة على الآلاف من مستخدمي الطاقة الشمسية الحاليين في الولاية.

الثورة

يسير مارك رافالو، الممثل الأمريكي الشهير، والمعروف بدور العملاق الأخضر في فيلمي شركة مارفل «المنتقمون 1، 2»، في ظهيرة 13 يناير (كانون الثاني) الماضي، وسط تظاهرة بها بضع مئات من الأشخاص، أمام مكتب لجنة المرافق العامة «PUC»، بجوار لاس فيجاس، اللجنة التي تمثل القطاع الحكومي، المختص بإدارة المرافق العامة لولاية نيفادا، ومن ضمنها الطاقة بأنواعها. يدخل مارك إلى المكتب تتبعه أكثر من دزينة من آلات التصوير، وبجواره اثنان من موظفي سولار سيتي، ليخبر اللجنة أنهم يمثلون نقيض روبن هود، ويأخذون من الفقير ليعطوا رجال الأعمال ومحتكري الطاقة «في إشارة ضمنية إلى بافيت»، ليجتذب تغطية إعلامية أكبر، ويلقى من قبل المتظاهرين حفاوةً بالغةً.

«لجنة المرافق العامة لديها فطيرة كاملة، كل ما يريده المواطنون هو شريحة، مجرد شريحة صغيرة». – رافالو معلقًا على انصياع اللجنة لضغوط لوبيات بيركشاير

يصرخ رجل ما من الحشود، مهددًا موظفي لجنة المرافق برفع قضية، والمطالبة بتعويض قدره مليار دولار، وتهتف امرأة أخرى في ممثلي PUC، سائلة إياهم: «هل تتقاضون عمولات؟»، ليؤيدها آخرون، ويصرخ فيهم أحد المتظاهرين: «أجيبوها»، ويطالب البقية باستقالة موظفي قطاع إدارة المرافق الكبار، ويدخل المتضررون واحدًا تلو الآخر إلى لجنة الاستماع، في إدارة المرافق، حاملين غضبهم، لتبدو الأمور وكأنها تسير في اتجاه اعتراض عارم مناهض لسياسات الإدارة الحكومية، والتي أثارت الشك بقراراتها الزائدة عن الحد الطبيعي، خاصةً بعد أن مارست بيركشاير ضغطًا شبيهًا في أغلب الولايات التي تعمل فيها شركة ماسك، لكنه كان ضغطًا غير ناجح إلا في نيفادا.

لم يبدُ على اللجنة أي تأثر بكل ما يحدث منذ الصباح، وفي الساعة الرابعة والنصف من نفس اليوم، صوتوا بالإجماع على رفض طلبات تأجيل تعديلات القوانين الجديدة، لتصبح التعديلات حقيقةً واقعةً، وليخرج الرئيس التنفيذي لسولار سيتي، ليندون رايف، قائلًا إن «ما حدث كان مريعًا»، وأن سكان نيفادا بالطبع لم تعد لديهم أي حوافز للخروج من منظومة الكهرباء الخاصة التي ترعاها الولاية، إلى تركيب ألواح شمسية على أسطح منازلهم، أما المتعاقدون مع سولار بالفعل فهم معرضون -بسبب التعديلات- لدفع مبلغ زائد يقدر بـ11 ألف دولار على مدار العشرين عامًا القادمة، ثم ختم قائلًا إنهم سيكافحون ما حدث قانونيًّا، وأنه على ثقة من إبطال تلك التعديلات وعودة الأمور لطبيعتها.

في هذا الوقت وطوال شهر يناير (كانون الثاني) لم ينجح أحد في الوصول إلى وارين بافيت، والحصول على تعليقه على ما يحدث، إلى أن جاء فبراير (شباط) الماضي، موعد خطاب الملياردير الأمريكي لشركته القابضة وعامليها ومساهميها، والتي تزيد قيمتها عن 200 مليار دولار أمريكي، ليتضح بالفعل أنه يأخذ الأمر على محمل الجدية، وأنه ومن ورائه بيركشاير القابضة للطاقة «BHE»، لا يتعاملون مع منافسة قطاع الطاقة المتجددة بثقة الرابحين.

ربما يبدو حجم أعمال سولار سيتي مقارنة بإمبراطورية BHE مثيرًا للسخرية، وأن المباراة محسومة منذ بدايتها، لكن الملياردير الأمريكي يعلم قبل غيره عدم صحة ذلك، موضحًا في خطابه للشركة أن قطاع أعمال الطاقة الكهربائية «يخطو تجاه فترة غير مستقرة»، وأن BHE ربما تعمل بنموذج أعمال متغير اقتصاديًّا وشديد المرونة، إلا أن بقاء شركات الكهرباء على قيد الحياة لا يتعلق بالكفاءة بقدر تعلقه باستيعابه لتطور البيئة المجتمعية، وأصر رجل الأعمال الأمريكي على أن وجود منافسين، من قبيل شركات الطاقة المتجددة، يرجع إلى الدعم الحكومي الكبير لهذه الشركات.

يرى بافيت أن المجتمع الأمريكي قرر منذ فترة لا بأس بها، اعتبار الطاقة المتجددة، خاصة «الرياح والشمس»، في مصلحة الولايات المتحدة على المدى الطويل، ولأن الحكومة الأمريكية تتماهى في العموم مع المزاج المجتمعي، الخاضع بدوره لتأثيرات أخرى، فإنها قدمت إعفاءات ضريبية ومساعدات من خلال القياس الصافي، ساعدت في جعل الطاقة المتجددة منافسًا قويًّا للشركات التقليدية، وهذا في رأي بافيت سيؤدي إلى تآكل البنية التحتية الاقتصادية للقطاع التقليدي ومرافقه، خاصةً إن كان عامل التكلفة عاليًا مقابل المستقبل السهل الذي يقدمه ماسك ورفاقه.

لا يبدو انتباه وارن وليد اللحظة، وبالرجوع إلى السنوات القليلة السابقة، نجد أن بيركشاير ضخت 16 مليار دولار كاستثمارات في قطاع الطاقة المتجددة، مما جعل طاقة الرياح تحتل نسبة 7% من إجمالي إنتاج BHE للكهرباء، و6% للطاقة الشمسية. ورغم أن وارن لم يتطرق مباشرةً لمعركته مع ماسك، أو محاولات شركته لإلغاء القياس الصافي تمامًا من الولايات الأمريكية، فإن الكثيرين يرون مستقبلًا حربًا واسعة النطاق بدأت رحاها في نيفادا، بين بافيت والرجل الحديدي، بين اتجاه ملياردير بيركشاير الذي يفضل «مركزية الطاقة»، وأن تصدر الطاقة من محطات ضخمة متجددة كانت أم لا، واتجاه إيلون ماسك الذي يفضل «اللامركزية»، وأن يضع كل شخص، أو أسرة، أو شركة ألواحها بمفردها، الحرب التي يربحها بافيت حكوميًّا، وماسك شعبيًّا، حتى الآن.

تحميل المزيد