بلاثيدو دومينغو يغنِّي أغنية بعنوان I will paint sounds: «سأرسم أصواتًا، ستسمعها أنت في اللونين الأحمر والذهبي، أصواتًا جديدة وقديمة، مثل قصة محكية، كل همسة وكل صوت همهمتَهُ، مع ضوءٍ وظلٍّ سيحيا من جديد، سأجعل العالم يراهما».
قبل القرن التاسع عشر كان الرسم فنًّا صامتًا، ورسامي عصر النهضة في القرن الـ17 – 18 لم يتمكَّنوا من التعبير عن الأصوات والروائح في لوحاتهم، وحتى إذا اختاروا الزهور أو البحار والعواصف موضوعًا لهم؛ ولكن كان للرومانسيين أفكارهم الخاصة، حين قال جوته: «إنّ العمارة موسيقى مجمَّدة» وقال والتر باتر: «كل فنٍّ يطمح ليكون مقطوعةً موسيقية؛ حتى اندلعت ثورة جريئة من محاولات مكثفة للانطباعيين لإدخال الصوت والرائحة والوشوشة في فنهم. غير أنه بحلول أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين أصبح محو الحدود بين الموسيقى والفنون الأخرى هاجسًا واسع النطاق نحو تجربة جديدة يذوب فيها التمييز بين الكلمة والصورة والصوت بعيدًا في شكل روحاني يشبه نشوة من شأنها أن تهز الجسم والعالم فأصبحت القصائد لوحات موسيقية واللوحات الموسيقية قصائد».
أمَّا الرسام الروسي الشهير «فاسيلي كاندينسكي» فقد ذهب في مرة إلى حفلة موسيقية للملحن «أرنوالد شوينبيرج» عام 1911، ثمَّ رسم لوحة بناءًا على ما شاهده عند الاستماع للحفل، وبدأ الاثنان صداقة طويلة وعاصفة في كثيرٍ من الأحيان تنطوي على انتقادٍ شرس لأعمال بعضهما البعض، وتقاسم مكثف للأفكار والتأثيرات.
كان شوينبيرج – الذي كان أيضًا رسامًا وكاتبًا – مشاركًا عميقًا في فكرة كسر الحواجز بين الفنون المختلفة كما كاندينسكي؛ فكتب لأوبراه قبل اختراع الإضاءة الحديثة: «في الخلفية خلفية زرقاء ناعمة، مثل السماء، أسفل، يسار، على مقربة من الأرض بنيّ ساطع، قطعٌ دائري تدريجي بقطر خمسة أقدام، ضوء شمس أصفر صارخ ينتشر على خشبة المسرح».

لوحة كاندينسكي التي استقاها من موسيقى شوينبيرج
ما تفسير هذا؟
تشابك الحواس هي ظاهرة عصبية تجمع حاسّتين أو أكثر عند 4% من البشر، المصاب بتشابك الحواس قد لا يستطيع قراءة هذه الكلمات دون سماعٍ صوتيّ وتذوُّقه وحتى الشعور به كلمسةٍ جسدية. فتخيل عالمًا ترى فيه الأحرف والأرقام الملونة، على الرغم من كونها مطبوعة بالأسود، وتُطلق فيها موسيقى وأصوات؛ فتتحول إلى دوَّامات ملونة متحركة، وتملأ فيه الكلمات فمك بنكهاتٍ غريبة؛ كلمة السجن بطعم اللحم المقدد البارد صعب المضغ. فإذا كان الخَدَر هو توقُّف الحواس، فإن تشابك الحواس يعني الإحساسات المجتمعة. وإذا كنت مصابًا بنوعٍ واحدٍ، مثل السماع الملوَّن؛ فإن هذا يعطيك احتمال 50% لحصولك على نوع ثان وثالث أو حتى رابع.
بعض الأشخاص يسمعون الألوان.. هل أنت أحدهم؟
عندما أقارن بين النغمات السريعة والناعمة، فأنا بين درجات الأزرق ودرجات الأخضر، وعندما أفكر في نغمة حادة أرى اللون الأحمر، وكلما ازدادت النغمة في حدتها انتقلت من الأحمر إلى البرتقالي، ثم الذهبي. الملحن بيلي جويل
فيديو على قناة Good Mythical Morning عن حالة السماع المصاحب للألوان«chromesthesia».
«السماع المصاحب للألوان» هو أكثر أنواع تشابك الحواس انتشارًا، وهناك الكثير من الموسيقيين مصابون بها، مثل «بيلي جويل»، «موزارت»، «جيمي هندريكس» و«كاني ويست» والذي قال: «أنا أمنحك اللوحات والنغمات الصوتية معًا، فأنا أرى الأصوات أمامي».
في حين أن السماع المصاحب للألوان لديه بعض السلبيات، مثل الخلط بين يدك اليمنى واليسرى، وصعوبة حفظ أسماء الألوان، إلا أنه ثبتت إفادتها. ففي دراسة بجامعة برن في سويسرا نصت على أن: «تشابك الحواس قد يسهِّل عملية التعبير عن الإبداع، وأظهرت الدراسة أيضًا أنه يرتبط بتعدُّد المواهب»، ومن أحد حاملي سمة السماع المصاحب للألوان منتج الهيب هوب فاريل ويليامز، والذي وصف الأمر بـ«الهدية التي لا غنى له عنها».
كيف يبدو طعم يوم الثلاثاء؟
اكتشفنا أن أحرفها تتشابه مع أحرفي في اللون. *فلاديمير نابوكوف عن لحظة اكتشافه هو ووالدته تشاركهما سمة تشابك الحواس
تشابك الحواس قد يكسب الرقم 9 طعمًا أو يرفق لونًا إلى كلِّ يومٍ من أيام الأسبوع. وهو ما شرحه ريتشارد آي كيتويك طبيب الأمراض العصبية على قناة «تيدكس» بعنوان «كيف يبدو طعم يوم الثلاثاء؟».
فتشابك الحواس سمة كامتلاك أعينٍ زرقاء، وليس مرضًا؛ لأنه لا يوجد خطأ في ذلك، بل إنه يمنح من يمرون بهذه الحالة ذاكرة قوية؛ فمثلًا فتاة تقابل شخصًا لم تره منذ فترة طويلة، وتتذكره باللون الأحمر فاسمه بين «أحمد، محمد، محمود، أمجد،..»، وامتلاك هذه الحالة منذ الطفولة يُبقي هذا الاقتران مدى الحياة.
تشابك الحواس يولد ميلًا حيويًا للاتصال المفرط في أعصاب الدماغ، لكن بعد ذلك يجب التعرض لعوامل الثقافة مثل التقويم وأسماء الأطعمة والأحرف الهجائية؛ الأمر المذهل هو أن تغيرًا واحدًا في إحدى النوكليوتيدات في نمط الحمض النووي يُغيّر التصور، وبهذه الطريقة فتشابك الحواس يوفر طريقًا لفهم الاختلافات الموضوعية، وعن كيف يستطيع شخصان رؤية نفس الشيء، لكن بنظرةٍ مختلفة؛ فمثلًا لدينا شخص يحب الأكل ذا الطعم الأزرق، مثل اللبن والبرتقال والسبانخ؛ هذا الجين يضاعف الروابط الطبيعية التي تحدث بين منطقة التذوق في مقدمة دماغه، ومنطقة التعرف على الألوان في خلفية دماغه؛ لكن افترض أن الجين عمل عند شخص آخر في المناطق غير ذات الصلة بالحواس؟ عندها تستطيع أن تربط بين الأشياء التي يبدو أن لا علاقة لها ببعض، وذلك تعريف «الاستعارة» وهي رؤية التشابه بين أشياء غير متشابهة. وبدون غرابة؛ فتشابك الحواس دارج أكثر بين الفنانين المتفوقين في تكوين استعارات، مثل الروائي «فلاديمير نابوكوف» والرسام «ديفيد هوكني» والملحن «بيلي جول» والفنانة «ليدي جاجا».
واحد من أصل 90 منا قد جرب «الغرافيم»، وهو العناصر المكتوبة من اللغة، مثل الأحرف وعلامات الترقيم والأرقام عندما نراها ملونة، حتى أن بعضهم يملك جنسًا أو شخصية، فرقم 3 رياضي ونشيط، أما رقم 9 فهو لفتاةٍ مغرورة ومن النخبة؛ وعلى العكس فوحدات الصوت في اللغة أو «الفونيمات» تثير حاسة تشابك الحواس؛ فكلمة مثل «مدرسة» طعمها كالخبز الأبيض، وكلمة مثل «ساعة» طعمها كقطعة ثلج تذوب في الفم.
ولكن لم البقية منا لا يملكون تشابكًا في حواسهم؟
يحدث كثيرًا أن البصر والصوت والحركة يكونون قريبين من بعضهم البعض، حتى أنّ الذي يتحدث من بطنه يقنعنا أن الدمية هي التي تتحدث، الأفلام أيضًا تستطيع إقناعنا أنّ الصوت يخرج من أفواه الممثلين، وليس من مكبرات الصوت التي حولهم، لذا جميعنا نمتلك تشابكًا في الحواس داخلنا، دون انتباهنا لوصلات الإدراك التي تحدث حولنا طول الوقت. تداخل الكلام في الدماغ هو القاعدة، وليس الاستثناء.