منذ ست سنوات أطلقت الصين أكثر مشروعاتها طموحًا، «طريق الحرير الجديد». مشروع يستغرق إكماله أكثر من 40 عامًا، ويتكلف أكثر من 8 تريليون دولار. تهدف الصين عبر مشروعها الناشئ إلى أن تجد لها موطئ قدم في أكثر من 60 دولة سوف تحتضن المشروع، تحمست الدول للمشاركة ظنًّا منها أنّه سيجلب فائدةً مشتركةً لجميع الأطراف. لكن صحوة مفاجئة ضربت رؤوس قادة معظم الدول، بعدما أدركوا أنّهم سوف يقعون فريسةً لدبلوماسية القروض السهلة التي تعطيها الصين ببذخ، بسبب تلك القروض التي ربما تفقد دولة أصلًا استراتيجيًّا أو منشأة من منشآت البنية التحتية الحيوية.
من بين تلك الدول كانت سريلانكا، التي ألغت قرارًا بالتعاون مع الصين في مشروع سكني لاستثمار 300 مليون دولار. كذلك فعل رئيس الوزراء الماليزي، مهاتير محمد، ورفض الاستمرار في ثلاثة مشروعات ضخمة تبلغ تكلفتها 20 مليار دولار، كان نجيب رزّاق، رئيس الوزراء الماليزي السابق لمهاتير، قد أقرّها؛ لكن مهاتير ألغاها وأعلن أن الصين تنهج طريقةً جديدةً للاستعمار.
قد تكون الصحوة الماليزية أتت في وقتها المناسب، لكن صحوة سريلانكا لم تكن كذلك. إذ كانت سريلانكا أول ضحايا الصين وأبرزهم. عجزت الدولة عن تسديد قرض قيمته مليار دولار لـ«إكسيم بانك» الصيني. هذا القرض الذي استخدمته سريلانكا في تشييد ميناء حيويّ لها، لكنّها وجدت نفسها مضطرة لتأجير الميناء نفسه لمدة 99 عامًا، لشركة موانئ مملوكة للدولة الصينية. وسرعان ما أرسلت الصين غواصاتها الحربية لتستقر في الميناء وفي قلب سريلانكا بدون سابق إنذار. الأمر الذي دقّ ناقوس الخطر في سريلانكا، وفي جنوب آسيا، وفي كل العواصم المتعاونة مع الصين.
الصين والهند.. صراع قديم لا ينتهي
التحركات الصينية أزعجت الهند التي تطمح هي الأخرى لبسط نفوذها في جنوب آسيا والمحيط الهندي، إذ تنازع الهند في إقليمها. لكن لم يكن ذلك السبب الوحيد لانزعاج الهند؛ السبب الآخر أن الصين تدفع أصدقاءها للوصول إلى السلطة في الدول التي تتعاون معها. فإذا كانت الآليات العسكرية الصينية في الموانئ، والأفراد الموالون للصين في السلطة، فقد صارت الدول قاعدةً عسكرية صينية؛ لذا خشيت الهند أن تصبح مهددةً بالجيش الصيني من كامل الجهات.
لمحت حكومة سريلانكا هذا القلق الهندي، فأرسلت إشارات طمأنة متكررة، وأعلنت أن العمليات الأمنية الحساسة داخل الموانئ سوف تقوم بها شركة وطنية وليست صينية، وأكدّت أن الميناء الذي استأجرته الصين لن يُستخدم في أغراض عسكرية. أيضًا رفضت سريلانكا طلبًا صينيًّا متكررًا بالسماح للغواصات الصينية بالدخول لميناء كولومبو. إذ رأت سريلانكا أنها تعيد بعضًا من التوازن لسياستها الخارجية بهذه الطريقة، لكن سريلانكا لم تكن مدركةً أنها قد حصرت نفسها بين قوتين لا ترحمان، بينهما حساسيات قديمة.
الحزازات بين الصين والهند وُلدت مع ولادة الدولتين؛ فحين حصلت كل دولة على استقلالها بقيت منطقة «أروناتشال براديش» قيد النزاع بين الطرفين. هذه المنطقة التي ضُمت للهند في أثناء الاستعمار البريطاني ولم تعد للصين بعد الاستقلال. تفاقم الصراع عام 1959 عندما لجأ الدلاي لاما للهند هربًا من الصين؛ فقامت الحرب بين الطرفين عام 1962، وهُزمت الهند. لكن اُضطرت الصين للانسحاب من المنطقة تحت الضغط الدولي، وعاد الصراع للواجهة عام 1987 حين أطلقت الهند لقب ولاية على المنطقة.
ثم في يونيو (حزيران) 2017 أرسلت الصين قواتها لحماية أعمال بناء في منطقة دوكلام (منطقة حدودية متنازع عليها)، فردّت الهند بنشر قواتها، ما منع استمرار البناء؛ لأن الطريق الذي تُنشئه الصين سيعطيها أفضلية عسكرية في أي مواجهة لاحقة، وهو ما لن تسمح به الهند. جاء رد الصين شديد اللهجة بأن الجيش الصيني جاهز للتدخل في أي وقت. اتفاق دبلوماسي بالتراجع حال دون نشوب حرب. لكن تراجعت القوتان وهما يعلمان أن الصراع لم ينته، فقط تأجل ونُقل لمكان آخر.
المسلمون في سريلانكا.. بين شقي رحى
في مارس (آذار) 2018 أعلنت سريلانكا حالة الطوارئ في البلاد. الإعلان جاء بعد أن شهدت منطقة كاندي الجبلية اضطراباتٍ دينية. إذ قام أحرق بوذيّون يتبعهم حشد شعبي مساجد ومحال مملوكة لمسلمي سريلانكا، الأقلية. الحادثة – بحسبهم- كانت رد فعل على حادثة سبقتها بعدة أيام، فقد وقع حادث سير بين سائق شاحنة بوذي ومجموعة من المسلمين، توفي السائق على إثره، وسُجن المسلمون.
لكن المجموعة التي هاجمت المساجد لم تكن من أهل منطقة السائق المُتوفى، ولا من أهل منطقة المسلمين، لذا لم يكن الحشد عشوائيًّا أو ردًّا عفويًّا غاضبًا. بل قرارًا مُتعمدًا حُشد له على وسائل التواصل الاجتماعي تحت سمع السلطات المحلية ونظرها. لكن الشرطة تجاهلت تلك الدعاوى، وتباطأت في إيقاف أحداث العنف، وكانت النتيجة تخريب ستة مساجد، و46 محلًّا تجاريًّا، علاوة على 37 منزلًا.
لم تكن هذه هي المرة الأولى التي يقع فيها المسلمون، ضحيةً لهجمات عنصرية. ففي عام 2014، وقبل الانتخابات الرئاسية، قُتل أربعة أفراد، وجُرح عشرات المسلمين في هجمات متفرقة. القوة البوذية الضاربة أو المعروفة اختصارًا بـ«بي بي إس (BBS)» هي التي وقفت وراء تلك الهجمات، وتسببت في تشريد أكثر من 10 آلاف مسلم بعد تدمير بيوتهم ومحالهم ومساجدهم.
تدين هذه القوة البوذية بالولاء للرئيس السابق ماهيندا راجا باكسا، ما دفع المسلمين للتصويت لخصمه ووزيره المنشق مايتريبالا سيريسينا. فاز الأخير بالانتخابات بسبب أصوات الأقلية المسلمة، التي رجحت كفته وسط انقسام الغالبية السنهالية. لكن سرعان ما تلاشى أمل المسلمين في دولة آمنة، إذ تحالف سيريسينا مع أحد الأحزاب البوذية المتطرفة ليضمن بقاءه في السلطة.
وسط هذا القمع استطاع بعض المسلمين أن ينتزعوا بعض المناصب الحكومية المرموقة، وذلك بسبب أن المسلمين فقط هم من يتحدثون اللغة السنهالية المحلية، والإنجليزية، والهندية. فقد حاول سكان سريلانكا الهرب من سيطرة الهند بإضعاف لغتها. لكن يدور الزمان وترتمي سريلانكا في أحضان الهند هربًا من جحيم الصين، وتنقسم الغالبية السنهالية بين الصين والهند، ويبقى الثابت أن يكون المسلمون ضحيةً في كل الأحوال.
شبح الحرب الأهلية حاضر..
الصراع بين الهند والصين لم يقتصر على مجرد رسائل التحذير، بل وصل إلى الانتخابات الرئاسية في سريلانكا. ففور انتخاب ناريندا مودي رئيس وزراء الهند اجتمع مع باكسا، وطالبه بتخفيض النفوذ الصيني في البلاد، فرد باكسا باستضافة الرئيس الصيني، وفتح موانئه لحاملتي طائرات صينيّة. لكن لم تمض عدة شهور إلا وباكسا يدعو لانتخابات مبكرة مضطرًا، بالرغم من أنه عدّل الدستور ليسمح لنفسه بالفوز بولاية ثالثة، لكنّه فشل وفاز سيريسينا. لتتعرض الصين لضربة قوية، وتلتقط الهند أنفاسها استعدادًا للجولة التالية من المعركة.
فشلت الهند في ملء الفراغ التجاري الذي خلفته الصين، وفشلت سريلانكا أيضًا في توفير بديل قوي للأموال الصينية. بينما لا تريد واشنطن التورط في دولة صغيرة لا تفيدها. البنك الدولي هو الآخر لا يمنح قروضه بسهولة، ويريد ضمانات ضخمة لا تمتلكها سريلانكا، فعادت الحكومة السريلانكية مرةً أخرى لتطلب العون الصيني. لم ترض الصين بهذا التنازل من جانب سيريسينا. واستمرت في دعم باكسا الذي يقود حملةً شرسةً للتشكيك في سياسات الحكومة، وبالفعل آتت حملته ثمارها وفاز حزبه في آخر انتخابات بلدية شهدتها سريلانكا.
ما يعني أن الصين قد فرضت إرادتها على الجميع، بالوسائل الدبلوماسية السلمية. لكن في وجود مودي القومي المتطرف على رأس الحكومة الهندية، فلا يُتوقع أن يبقى الأمر سلميًّا لفترة طويلة. فيمكن أن تُستخدم ورقة الاضطرابات والحرب الأهلية في أي لحظة، وقد بدت بوادرها. خاصةً وأن سريلانكا عانت من حرب أهلية طوال 28 عامًا. انتهت الحرب لكن بقيت جمرتها متوقدةً تحت الرماد، تنتظر أي ريحٍ عابرة لتشتعل مرةً أخرى.
دخلت «داعش» هي الأخرى على خط الأزمة مؤخرًا، ففي أبريل (نيسان) 2019 شهدت سريلانكا عدة تفجيرات استهدفت عددًا من الفنادق والكنائس، وراح ضحيتها أكثر من 395 قتيلًا وفق الإحصاءيات الرسمية. انتهت تفجيرات الأحد الدامي بخسائر فادحة، لكن لم ينته الحديث عن اكتشاف عبوات متفجرة في أماكن أخرى، وفي كل مرة يبزغ بعض المتطرفين المسلمين التابعين لتنظيم «داعش» ويعلنون مسئوليتهم عن الحادث. البيان أراد أن يُظهر الحكومة بمظهر العاجز ويدفعها للتخبط حول رد الفعل. وهو ما حدث فعلًا بإقالة وزيري الدفاع والشرطة. لكن الأهم أن خطورة تلك التفجيرات تكمن في أنها ستبدد حالة التعاطف الدولي التي اكتسبها المسلمون بعد حادثة نيوزيلندا.
صورة لمتجر رجل مسلم أضرمت النار به في أحداث مارس (آذار) 2018
المثير للشكوك أنّ التحقيقات أظهرت أن بعض المسئولين حجبوا معلومات استخباراتية، أفادت باحتمالية تعرض البلاد لهجمات إرهابية. كانت الاستخبارات الهندية قد بعثت معلومات مُفصلة عن التفجيرات والقائمين عليها. وأرسلت الاسم الكامل لزعيمهم، الزعيم الذي ظهر لاحقًا في مقطع فيديو يتبنى التفجيرات وسط ثمانية آخرين. فقد ظهر محمد قاسم محمد زهران بدون لثام بينما تلثّم الثمانية الآخرون.
وبالرغم من أن المعلومات الهندية المُفصلة وصلت قبل حدوث التفجيرات بأكثر من أربعة أسابيع، فإن التفجيرات وقعت على كل حال. هذا الحجب المُتعمد للمعلومات يؤكد أن التفجيرات جزء من الصراع الأكبر بين الصين والهند لإضعاف السلطة المركزية. كما يثير الرعب من أن اللجوء لسيناريو الحرب الأهلية، ربما يكون قد دخل حيز التنفيذ. فإذا دخلت «داعش» في اللعبة؛ فذلك يُنذر باقتراب احتراق كل من في اللعبة. والمُؤكد أن مسلمي سريلانكا سيدفعون الثمن مهما كان المنتصر؛ فالصين تحتجر مسلمي الإيجور في معسكرات اعتقالات ضخمة، والهند تعتقل إقليم كشمير بالكامل.