استيقظ العالم هذا الصباح على خبر مفجع بالنسبة لمحبي العلوم والعلماء: وهو وفاة واحد من أشهر علماء الفيزياء في عالمنا الحديث، «ستيفن هوكينج»، والذي أراد دومًا أن يصل إلى المعرفة الكاملة؛ فسعت نظرياته كلها إلى تفسير تساؤلاته الخاصة جدًا منذ كان طفلًا صغيرًا، «كيف بدأ الكون؟ ولماذا بدأ؟ هل سيصل إلى نهاية؟ وإذا كان الأمر كذلك، فكيف ستكون النهاية»، ومن رحم تلك التساؤلات درس هوكينج الفيزياء، وتخصص في علم الكونيات خاصةً، وبعد أن كان ينظر إلى النجوم كطفل صغير، تشغله تلك النقاط المضيئة في السماء، أصبح يدرك تمام الإدراك ماهيتها.
كان ستيفن هوكينج يرى أن الأفكار الأساسية عن أصل ومصير الكون يمكن ذكرها دون رياضيات، وبشكل يمكن للقارئ العادي غير الدارس للعلوم أن يفهمه؛ ولهذا قدم كتابه الأول «موجز تاريخ الزمن»، بلا أية معادلات رياضية على الإطلاق، حتى يستطيع القارئ العادي أن يفهم الكون تمامًا كما فهمه هو؛ فأطلق على مؤلفاته «علم الكونيات الشعبي».
ومن نظرياته، ومؤلفاته الخاصة، وسيرته الذاتية وحواراته، سنتتبع سويًا خطاه؛ لنتعرف على الوجه الآخر لهوكينج الذي لا يعرفه غالبية من يسمعون عنه.
السفر إلى اللانهاية ونظرية كل شيء
يقول كمال القنطار في كتابه «رحلة إلى اللانهاية»: «إن لكلمة اللانهاية سحرها؛ لأنها تُغرينا، والانعتاق المطلق من كل ما هو محدود وقابل للزوال، وتعدنا بسفرٍ إلى مجهول لا نهاية له، بكل ما يحمله هذا المجهول من إثارة واندهاش، والسفر إلى اللانهاية كان الاسم الذي اختارته جين هوكينج، وهي زوجة ستيفن هوكينج السابقة، لتحكي من خلاله قصة حياتها مع هذا العالم العبقري، وسنوات زواجهما، والتي كانت أشبه بسفرٍ إلى المجهول، بكل ما حمله لها من إثارة وأسى».
خرجت مذكرات جين بشكلٍ مؤلم، يروي قصة انهيار جسد زوجها تدريجيًا؛ حتى وصل إلى الشلل التام، بعدما تم تشخيصه بمرضٍ نادر يسمى: «التصلب الجانبي الضموري»، والذي كان من الممكن أن يقضي على مستقبل هذا العالم الشاب حينذاك، خاصةً بعدما توقع له الأطباء سنتين فقط تفصله عن الموت.
كانت رعاية جين له على مدار اليوم، هي ما مكنه حينها من مقاومة المرض، بل مقاومة نفسه ذاتها إن حرضته على الاستسلام، ومن رحم تلك المعاناة استطاع ستيفن هوكينج أن ينتصر بعقله على هذا الجسد ميت، بل جعله قادرًا على التحليق في الفضاء؛ وعلى الرغم من أن العلاقة الزوجية ما بين هوكينج وزوجته قد انتهت، وعلى الرغم من أنه أطلق سراحها لتستكشف الزمن الباقي على طريقتها في النهاية، وتتزوج من آخر يستطيع أن يمنحها ما افتقدته من الحياة لسنوات، إلا أن علاقتهما الاستثنائية لم تنته بالطلاق؛ إذ كانت حياة جين مع ستيفن قد علمتها الحب بأبعادٍ كثيرة، أكبر من بعدي الزمان والمكان، وبتلك النفس الصافية كتبت أنها استطاعت أن تتغلب بالتأمل في الجمال على موجات الوحدة التي كانت تنمو داخلها.

أصبحت مذكرات جين فيما بعد ملهمة للكثيرين، وتم تحويلها إلى فيلمٍ سينمائي بعنوان «The Theory of Everything»، يحكي – ولأول مرة – السيرة الذاتية لهذا العالم المُتفرد، ولكن من خلال عين زوجته، والتي شاركته أولى لحظات صعوده إلى عالم النجوم، أما اسم الفيلم، فقد كان مقتبسًا من اسم النظرية التي قضى هوكينغ عمره كله تقريبًا محاولًا تحقيقها على أرض الواقع.
«نظرية كل شيء»، هو مصطلح كان يطلق في السابق بشكلٍ ساخر على تلك النظريات العلمية العامة؛ وذلك لعموميتها الواسعة، إلا أنه مع مرور الوقت أصبح مصطلحًا علميًا جادًا، يصف نظرية قادرة على توحيد النظريات المعروفة، والتي تصف التفاعلات الأساسية الأربعة في الطبيعة، وهي نظرية من المفترض أنها قادرة على تفسير جميع الظواهر الفيزيائية بشكلٍ كامل.
كان هوكينج من بين كثير من الفيزيائين الذين أرادوا إيجاد نظرية كل شيء، والقادرة على توحيد نظرية آينشتاين النسبية، والتي تصف كل ما هو كبير في الكون، مع فيزياء الكم، وهو الأمر الذي ألهم هوكينج بتأليف كتابٍ بنفس الاسم يضم سلسلة من المحاضرات التي ألقاها على مستوى العالم في تسعينات القرن الماضي، وقد ضم الكتاب موضوعات شتى، بدءًا من حجج أرسطو حول كروية الأرض، وصولًا إلى تمدد الكون، ونظرية الثقوب السوداء.
هوكينج المناضل والمساند للقضية الفلسطينية
في عام 2013 انسحب ستيفن هوكينج من مؤتمر يناقش مستقبل إسرائيل في القدس؛ وذلك دعمًا لحركة المقاطعة، بعد أن نصحه بعض الأكاديميين الفلسطينيين بذلك، باعثًا برسالة إلى منظمي المؤتمر، يقول: «لقد تلقيت عدة رسائل من أكاديميين فلسطينيين يحثونني على الانسحاب من المؤتمر احترامًا للمقاطعة؛ ولذا سأنسحب».
كان الفيزيائي الشهير داعمًا لحركة مقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات على إسرائيل، بل إنه على مدار سنوات كان صوته للدولة الفلسطينية، وحقها في تقرير مصيرها.
كتبت عنه جريدة «هآرتس» الإسرائيلية أن علاقته مع إسرائيل لطالما كانت معقدة، مُشيرة إلى أن مقاطعته لمؤتمر القدس قد أثارت غضب المجتمع الإسرائيلي حينذاك، خاصًة مع حضور العديد من الشخصيات العامة، كان على رأسهم الرئيس الأمريكي بيل كلينتون؛ لتكريم شمعون بيريز. وردًا على قراره أصدرت اللجنة المنظمة للمؤتمر بيانًا جاء فيه: «إن المقاطعة الأكاديمية في نظرنا شاذة وغير لائقة، وبالنسبة لشخصٍ تكمن في رسالته الإنسانية والأكاديمية روح الحرية، فإن إسرائيل دولة ديمقراطية، يتمتع فيها جميع الأفراد بحرية التعبير عن آرائهم مهما كانت، وفرض العقوبات لا يتماشى مع الحوار الديمقراطي المفتوح».

كان ستيفن هوكينج أول عالم ذي مكانة كبيرة ينضم إلى حركة المقاطعة؛ مما ترتب عليه – بحسب الجريدة – معارضة تامة لقراره في وسائل الإعلام، واتهامه بمعاداة السامية؛ حتى وصل الأمر بهؤلاء حد السخرية من حالته الصحية، وشكله الجسماني. وفي مقالٍ بمجلة «تايم» أعرب الحاخام ديفيد ولب عن سخطه لما جاء في رسالة هوكينج، مُشيرًا إلى أن مقاطعته تعني مقاطعة المجتمع اليساري الأكاديمي في إسرائيل، أي مقاطعة من يتفقون مع موقفه السياسي، وهو ما أشار إليه الحاخام على أنه فعل خاطئ لن يجلب السلام الذي يرجوه.
لم يكن موقف هوكينج من إسرائيل هو الموقف الوحيد النضالي الذي خاضه هذا العالم القعيد، بل – وعلى الرغم من حالته البدنية السيئة – شارك بعكازين في مظاهراتٍ تندد بالحرب الدائرة في فيتنام، وفي عام 2004، وأثناء الحرب العراقية الدائرة، وقف ستيفن وسط الحشود يقرأ أسماء من راحوا ضحية تلك الحرب في الوقفة الاحتجاجية المناهضة للحرب بميدان ترافالغار، قائلًا: «تلك الحرب كانت قائمة على كذبتين، وكانت مأساة لجميع العائلات، إن لم تكن تلك جريمة حربن فما هي؟» مُضيفًا: «أعتذر عن نطقي، إذ لم يتم تصميم جهاز النطق الخاص بي للأسماء العراقية».
كان هوكينج ضد اقتناء الأسلحة النووية؛ إذ رأى فيها مستقبل دمار البشرية، كما دافع عن حقوق المدنيين في حياة أفضل، وعدم استخدام الحيوانات في التجارب العلمية.
وجه ستيفن هوكينج الآخر
كانت النظرة السائدة عن ستيفن هوكينج هي أنه ذلك الفيزيائي الفذ، حبيس جسده المريض، الذي اقترن اسمه بالذكاء الشرس، كرمز إلى الإمكانات غير المحدودة للعقل البشري، إلا أنه قد غير تلك النظرة التقليدية لعالم الفيزياء بحس دعابة عالٍ، كان يقول: «إن الحياة كانت لتصبح مأساوية بشكلٍ لا يطاق، لو لم تكن هزلية ومثيرة للضحك»؛ فكانت السخرية من كل شيء هي ما جعل منه شخصية عامة محبوبة من الجميع، ويبدو أن احتياله على الموت بشكلٍ أو بآخر، هو الذي صنع لديه تلك القابلية على السخرية من الحياة؛ ففي عام 1963 اقتيد هوكينج إلى مدينة فاجنر، حيث تُنبئ له وهو في الحادية والعشرين من عمره أنه يعيش لعامين آخرين فقط، إلا أنه قد استطاع أن يحيا لأكثر من نصف قرن بعدها، متحديًا قوانين الأطباء، وطوال الخمسين عامًا، استطاع أن يحب الحياة قدر المستطاع، وأن يأخذ منها أكثر مما أرادت منحه له.

استطاع هوكينج أن يصبح وجهًا مألوفًا في الحياة العامة، ليس فقط من خلال الفيلم السينمائي، والذي يتناول سيرته الذاتية، ولكن من خلال ظهوره هو شخصيًا في بعض الأعمال الفنية؛ كان أحدها كضيف شرف في مسلسل «Big Bang theory» عام 2012، والذي تدور أحداثه حول مجموعة من عباقرة الفيزياء، يواجهون رهاب التحدث مع النساء؛ إذ كان المثل الأعلى لأحد الشخصيات الرئيسة في المسلسل.
(ظهور خاص لستيفن هوكينغ في مسلسل The big bang theory)
لم تكن تلك هي المرة الأولى التي يشق فيها هذا العالم الفيزيائي طريقة إلى عالم الكوميديا الأمريكي؛ إذ سبق له الظهور في المسلسل الكوميدي «The Simpsons»، بعد عامٍ واحد فقط من صدور كتابه الأكثر مبيعًا: «موجز تاريخ الزمن»، كما ظهر في عام 1999 بمسلسل «Springfield »، وفي حلقةٍ خاصة جدًا من مسلسل «Star Trek: Next Generation»، ظهر هوكينغ يلعب البوكر بصحبة آينشتاين ونيوتن، كأعظم عقول في الفيزياء.
«أعظم إنجازات البشرية جاءت من خلال الحديث، أما الصمت فلم يحقق سوى الفشل»، كانت تلك هي الكلمة التي صدرت على لسان هوكينج بإعلان تليفزيوني، وألهمت الفريق الموسيقي الشهير «Pink Floyd» لعمل أغنيتهم «Keep talking»، إلا أنه وفي تقرير لـ«الجارديان» عنه، تمت الإشارة إلى أن هوكينج لم يصل إلى شهرته هذه، سواء كعالم فيزياء، أو كشخص يتهافت الفنانون عليه، إلا من خلال مرضه، ومظهر جسده المميز، لكن استمرار ظهوره معهم كان دليلًا قاطعًا على سعادته بأعماله هذه، رغم ذلك.
«الذين يعيشون في ظل الموت هم غالبًا الأكثر قدرة على مواجهة الحياة»
«رغمًا عن وجود تلك السحابة التي خيمت على مستقبلي، إلا أنني فوجئت بنفسي أستمتع بالوقت الحاضر أكثر من أي فترة مضت من حياتي»، هذا ما قاله هوكينج عن بدايات مرضه، مُشيرًا إلى أنه قد بدأ حينها إحراز تقدم في بحثه العلمي، مُضيفًا «كان هدفي بسيطًا جدًا، وهو فهم كامل للكون».
الحياة بالنسبة إلى ستيفن هوكينج كانت مُحملة بالأمل لتحقيق المزيد؛ إذ صرح قبل ذلك أنه لا يخشى الموت، فقط لا يريد أن يتعجله؛ لأن هناك الكثير من الأشياء التي يود أن يفعلها أولًا. أما عما بعد الموت، فلم يعتقد ستيفن في وجود حياة أخرى، كان فقط مؤمنًا بوجود تلك الحياة، ولهذا كان يقدرها كثيرًا، وربما من هنا نبع تمسكه بها؛ إذ كان يرى أن التفسير الأبسط هو التسليم بعدم وجود خالق لهذا الكون، وأنه لا أحد – بحسبه – يحدد مصائرنا سوانا، ولهذا كان يقول دائمًا: «إنه ممتن لهذه الحياة».
«حتى في حالة وجود إله، فإن العلم يمكنه أن يفسر الكون دون الحاجة إلى خالق»، هكذا عبر هوكينج عن إيمانه بالعلم فقط، وهو ما أدى إلى اتهامه بالإساءة للدين، خاصةً بعد نشر كتابه «التصميم الكبير»؛ إذ أعلن أن الكون لا يحتاج إلى إله لضبطه، مُشيرًا إلى أن الدماغ ما هي إلا جهاز كمبيوتر، والموت نتيجة لتعرضه للعطب، وأنه ليس هناك جنة، أو نار لأجهزة الكمبيوتر المعطوبة.
صرح ستيفن هوكينج أكثر من مرة إلى أن حياته، حتى وإن كانت قصيرة، فسيجعلها سلسلة من النجاحات، إلا أنه عاش طويلًا، ومات يبلغ من العمر 76 عامًا بهدوءٍ في فراشه، وقد حقق الكثير: زواجًا دام لسنوات، وثلاثة أطفال، وثلاثة أحفاد، ونظرياتٍ لا تحصى عن الكون، سافر تقريبًا في العالم كله، وخاض تجربة انعدام الجاذبية مع «ناسا»، وهذا الصباح نعاه أولاده صباحًا قائلين: «كان يقول إن الكون لا قيمة له، دون وجود من نحب، ولهذا سنفتقده أبدًا».