يرتاح السوريون حين الموت، يرتاحون من قسوة الحياة والخوف والألم، لا تخفَى العبارة على أحد حين تُردد عزاءً: «مات وارتاح». يرتاحُ السوريون في قبورهم الأخيرة، سواء كانت قبورًا أو ردمًا أو شواهدَ مهيبة، سواء تحولت أجسادهم إلى رمادٍ أو استقرت في البحار، يرتاح السوريون في النهاية.
لم يكن الموت يومًا حدثًا اعتياديًا للسوريين، بل حضر في كل مرة بطريقة مختلفة، وهذا ما أصاب السوريين بالدهشة على الدوام.
ينال هذا الشعب – لسببٍ ما – نصيبًا من الموت أكبر من غيرهم من الشعوب، وكان عليهم – كسلسلة حياتهم القاسية – أن يتعاملوا معه بطريقتهم، طريقة باتت تسمى السوريّة، فالناس في ذلك المكان لهم طرقهم في التعامل مع الأشياء، هذه الأشياء التي يدعوها العالم بالحياة الروتينية، لكن هنا في سوريا تبدو حياةً شاقةً ومستحيلةً.
القبور ومجسمات هوليود
على مدخل إحدى القرى النائية، تستقر شواهد لأبناء القرية مِمن استشهدوا في الحرب السوريّة، أمام أحد القبور صنعت عائلة الشاب مجسمًا كرتونيًا لابنهم وهو واقف ويحمل البندقية، شاب فقد حياته في إحدى معارك الغوطة في ريف دمشق.
يبدو المشهد أقرب إلى مجسمات هوليود حين يصنعون مثلها للمشاهير في إعلان عروض الأفلام، وتخرج والدة الشاب أمام المجسم لتمسحه من الغبار، وتضع بعض الزهور الاصطناعية التي لا تذبل على القبر. كان المجسم بدأ يفقد ألوانه بفعل عوامل الجو، والشمس، والريح، وكانت والدته تتشح بالسواد، وتنظر إلى الألوان الباهتة للمجسم المسطح والفارغ من الخلف، المجسم الذي هو ابنها.
في قرية أخرى فُقِدَت جثة ابن إحدى العائلات، فلم يستطيعوا إيجاد الجثة ليصلّوا عليها ويواروها التراب، وفي النهاية صنعت عائلة الشاب قبرًا فارغًا أمام منزلهم مباشرة، قبرًا رخاميًا كبيرًا وواسعًا، وزّعوا عليه صور ابنهم وكتبوا اسمه بخطّ عريض.
يصادف والديه هذا القبر كلما خرجوا أو دخلوا من المنزل وكلما جلسوا على الشرفة. تساءلتُ طويلًا لمَ يريدون عيش هذا الألم للأبد؟ لماذا لا يتعاملون مع الموت على أنه حدث غائب، في مكان بعيد؟ لكنني أعلم أنّهم يحتاجون هذا القبر الفارغ ليدفنوا ألمهم فيه كلّ صباح، أشكالٌ كهذا الموت لا تنتهي، إنّها تستمر وعلى القبر أن يكون قريبًا جدًا، وأن يتحمل موتًا لا ينتهي، موت أخذ ابنهم حقًا، وأخذ جسده أيضًا.
تنتشر هذه القبور على أغلب مداخل القرى والمدن في سوريا؛ قبورٌ مهيبة تستقبل الزوار، بصورةٍ لصاحب القبر، معلقة في الوسط، حيث خُطَّ على الحجر اسم الشهيد بإتقان. إنّها الأرث الذي يتركه السوريون للأجيال القادمة، هكذا سيتعرف الأطفال على الموت.
على أحد القبور صنع الوالد صقرًا عظيمًا من الحجر الأسود بجناحين مفتوحين وألصقه على القبر، هكذا يبدو الموت ذا مجدٍ ويتعظم شكل النهاية، إنّها القوّة والشهادة، لا شيء أكبر من الشهادة في هذا البلد، في يوم استيقظت القرية فوجدت الصقر قد سُرق عن القبر.
الموت مفهوم غريب في سوريا، فبعد صراخ وولولة بعض الأمهات على أبنائهن الراحلين، يرددن في النهاية أنهنّ على استعداد لإرسال بقية أبنائهن إلى الموت، ثم يطلقن زغاريدًا مخنوقة، وحين النظر إلى تلك الوجوه البائسة والخاسرة والمتألمة، أتساءل لماذا نحن قساة إلى هذا الحد؟
لكن الشهادة ليست ذاتها لدى الجميع، المعارضة ترفض أن يكون الطرف الآخر شهداء فهم قتلة وحسب، والمؤيدون يجدون مقاتلي المعارضة مجرد حيوانات نافقة، لكن على قبور الطرفين هناك دومًا عائلات وزوجات وأطفال يبكون، وفي اللعبة الكبيرة للوطن يبدو أننا كلنا قتلة، كلنا أنهينا حياة آخر، وصنعنا له قبرًا، لم نستطع يومًا أن نتجاوز الموت، ونصل إلى صيغة مفهومة ومشتركة تدعى وطنًا.
الموتى في المقابر الجماعية.. وحدهم الأحرار
لم تحصل كل الأجساد على قبور حقيقيةٍ أو افتراضية، فالمقابر الجماعية كانت الخيار القاسي لتجسيد فكر الفناء، أن تذوب الأجساد سويًّا وتختفي وسط قبرٍ واسع. القبور الجماعية هي الطريقة المُثلى لإخفاء الموت الكبير وإهالة التراب على الجرائم والتعذيب والقتل.
اكتُشِفت العديد من المقابر الجماعية في سوريا، وأحدث مقبرة اكتشفت في فبراير (شباط) الفائت في منطقة دوما شرق العاصمة السوريا دمشق، وتحوي أكثر من 70 جثةً، يُرجّح أنها تعود لمدنيين وعسكريين. صرحت الحكومة السوريا أنهم قتلوا على يد «جيش الإسلام»، الذي كان يسيطر سابقًا على المنطقة.
اكتشفت أيضًا مقبرة جماعية في منطقة العامرية في مدينة تدمر عام 2016، وتحوي حوالي 40 جثةً بينها رفاتٌ لأطفال ونساء، وكانت بعض الجثث مقطوعة الرأس.
مقبرة ثالثة اكتشفت في بلدة تركمان بارح بريف حلب الشمالي، في 15 نوفمبر (تشرين الثاني) 2019. أمّا أكثرها انتشارًا فكان في مدينة الرقة في الشمال، حيث كان يسيطر «تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)». تبطن المقابر خليطًا من أجساد الأطفال والنساء والرجال، من مقاتلي «داعش»، أو الجيش السوري، أو المدنيين، نحو 4 آلاف جثة مكتشفة لم يُعْرَف غالبية أصحابها.
دُفِنَتْ مرة أخرى في مكان لائق، على الأقل مع رقمٍ ووصفٍ تقريبيّ لعمر صاحبِ الجثّة أو ما بقي من ثيابه، أو أغراضه الشخصيّة، وأيّة علامة أخرى قد تدل على الجثة المتفسخة، فتغدو ساعة اليد دليلًا على هوية الجثة، طول الشعر، العمر والثياب، كلّها هوية لأشخاص مجهولين.
انتشرت هذه الجثث مجهولة الهويّة في تل البيعة، حطين، مقبرة الرشيد، مقبرة التاج، مقبرة الحديقة البيضاء، مقبرة حارة النجارين، مقبرة حي القادسية، مقبرة البانوراما، وهي أكبر مقبرة في الرقة وتحوي حوالي 1500 جثة، ومقبرةُ الجامع القديم التي تحوي جثث المدنيين.
لأنَّ هويات هذه الجثث تبقى مجهولة في الغالب، لا يستطيع أحد إطلاق اسم شهيد عليها، فماذا لو كانت الجثّة لأحد عناصر «داعش»؟ لذلك تبقى جثثًا وقد تُرفَقُ معها كلمة سوريين، المقابر الجماعية تُسْقِطُ الصفات عن الموتى، وتجعلهم أحرارًا من أعباء الانتماء، الموتى في المقابر الجماعية وحدهم الأحرار في هذا البلد.
البحار قبورٌ من ماء
ما هي المأساةُ؟ المأساةُ هي أن تهرب من الموت فتموت بطريقة أخرى، المأساةُ هي أن تركب قاربًا مطاطيًا برفقة العشرات، وتجبر على رمي آخر ما تحمله من وطنكَ في البحر كي تخفف وزنًا عن قاربٍ متهالك، المأساة هي أن تقلب العاصفة القارب وألّا تتقن السباحة، المأساة هي أن يضيع جسدك للأبد في البحر، أو أن عائلةٌ تتناول غداءً روتينيًا على أحد الشواطئ اليونانية تجد هذا الجسد طافيًا في البحر.
هرب السوريون كثيًرا عبر الصحاري، والغابات، والبحار، هربوا وهم يخشون النظر خلفهم، وعلى شواطئ المتوسط كانوا ينتظرون أقدارهم، وفي وسط البحر تختلف الذكريات والمشاهدات، لكن البحر في كل مرّة يحيط بأحلام السوريين وبمستقبلهم وبموتهم.
يردد صديقي أنه لا يتذكر أيّ تفاصيل تتعلق برحلة الهرب، لا يتذكر سوى أن الرحلة عبر البحر استمرت ثماني ساعات، يقول إنه نسي تقريبًا كلّ شيء، هكذا ببساطة يسعى السوريون إلى النسيان بطريقة أخرى لقتل الماضي ولمعاينة الموت بطريقة مواربة تقول للذكريات القاسية: لا مكان لكِ في حياتنا.
لم يكن البحر أكثر رفقًا بالسوريين، فحسب الإحصائيات الصادرة عن مركز تحليل بيانات المهاجرين العالمي، التابع لمشروع «المهاجرون الضائعون»، فإن عدد الغرقى منذ خمس سنوات تقريبًا هو حوالي 500 غريق بينهم 67 طفلًا، مع التأكيد على أن هذه الأعداد أقل من العدد الحقيقي بسبب فقدان الكثير من الجثث.
وحسب منظمة «هيومن رايتس ووتش»، وصل عدد القتلى في سوريا منذ 2011 بلغ حوالي 400 ألف شخص، لكن العدد قد يكون أكبر من ذلك بكثير بسبب اتساع الرقعة الجغرافية وكثرة الانتهاكات. يوجد بين هؤلاء القتلى حوالي 21 ألف طفل، و13 ألف امرأة، حسب المرصد السوري لحقوق الإنسان.
أحدث أنواع الموت
يواجه السوريون اليوم موتًا بتقنيات جديدة، بلا سكاكين لحزّ الأعناقِ ولا بنادقَ ولا قصف طيران، وبلا مياه تخطفك لأعماقها، لكن الأمر ليس مقنعًا، على الأقل للكثير من السوريين، فكيف للأنفلونزا أن تقتل؟
الموت بصورته المعتادة عند السوريين يحتاج أدواتٍ أشدَّ بطشًا، لكن الأرقام المتزايدة للموتى تقول شيئًا آخر، إن الحياة مبدعة في خلق طرق الموت ودعمها بأدواتها.
حُرم السوريون مثلًا من نظامٍ صحيّ قوي، فنصف الأطباء غادروا البلاد خلال السنوات الماضية، ويفتك حصارٌ اقتصاديُّ بلقمة عيش الناس، وتتجاهل الحكومة أبسط الإجراءات الاحترازية بحجّة أن الناس ستموت من الجوع، ولأننا ميتون، في النهاية نخرج للحياة ولا نتخذ أبسط وسائل الحماية، ويبدأ عدّاد الموت في الضحك بصوتٍ عالٍ.
يتساءل السوريّ اليوم: هل يسعى العالم حقًا لموتنا؟ هل كلّ ما يحدث من حصارٍ، وقتلٍ داخليّ، وهجرة، وغرقٍ في البحار هي خطة طويلة ينتهجها العالم ليقتل كلّ السوريين؟ ولكن لماذا يستحق السوريّ هذا الموت اليوم؟
أعداد الموتى جراء كورونا تتزايد في كلّ يوم، الحيطان الحقيقية والافتراضية ما عادت تتسع للنعايا، لا أسطوانات أوكسجين، ولا رعاية صحية كافية، السوريون يختنقون حرفيًا، حتى باتوا يعزلون مريضهم دون مراجعة المستشفى، ويجلبون له الوصفة الموحدة لعدوى كورونا، وككلّ مرة، يعرف السوري ألّا احد سيقف قربه سواه، وإن لم تنقذ نفسك بنفسك في سوريا عن طريق العلاقات أو «الواسطة»، ستموت بشكل مجاني ومخجل.
يعلم الجميع أن أعداد الوفيات بكورونا هي أكبر من الرقم المعلن من قبل وزارة الصحة السوريا، وهو 89 وفاة، وأحد أسباب ذلك هو أن عائلة المتوفى غالبًا يطلبون من المستشفى تسجيل سبب الوفاة بمرض آخر غير كورونا، حتى تتمكن من دفنه بشكل لائق وإقامة عزاء له.
في النهاية لا يريد الإنسان في زمن كورونا سوى الموت بشرف أو بشكل لائق أقلّه، لكن حتى هذا الأمر يخشى السوريون ألّا يحصلوا عليه.
في مقطع فيديو انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي من داخل أحد المستشفيات الكبيرة في دمشق، كان عاملون يحملون جثّةً موضوعة في كيس أبيض كما لو أنهم يحملون كيسَ بطاطا، ثم سب أحدهم صاحب الجثة، وكان أحد أفراد عائلته يلاحقهم مذعورًا. أخبرني كثيرون أنهم حين شاهدوا الفيديو تخيلوا أنفسهم في ذلك الكيس وكادوا يسمعون شتيمة من العيار الثقيل.
في النهاية إن تحدثنا عن الموت على أنه حدث وجودي ومفصلي يقابل الولادة في حياة الإنسان، يوضَعُ السوريّ في مواجهة قاسية تبدو أشبه بالأحجية التي قد يحلها أو قد لا يفعل على الإطلاق، فإذا ما سألت السوريّ ما هو الموت؟ سيرد: هو كلّ ما حدث ويحدث اليوم.