لن أردد النشيد الوطني بعد الآن، ولن أؤدي تحية العلم كذلك لأول مرة منذ ولادتي، ولا شكرًا لكِ يا إسرائيل.
بهذه العبارة أعلن الملازم الدرزي في الجيش الإسرائيلي شادي زيدان، موقفه من قانون «يهودية الدولة»، الذي أقره البرلمان الإسرائيلي في يوليو (تموز) الماضي. فلقد علّق الملازم زيدان ابن «حلف الدم» مثلما يسمي الإسرائيليون والدروز ارتباطهما، خدمته في الجيش الإسرائيلي ومعه مجموعة من الجنود الدروز، بعدما تعرض وعشيرته لما أسموه طعنة نجلاء، من حليفهم التاريخي، وذلك عقب إقرار قانون القومية، الذي ينص على أن إسرائيل وطن قومي لليهود فقط.
هذا القانون قد مسّ بالدرجة الأولى «الدروز» لخصوصية حالتهم، وما قدموه لإسرائيل من دعم بشري ومعنوي، ليصبحوا في النهاية مواطنين من الدرجة الثانية كما بقية العرب الآخرين في الدولة التي «أعطوها كل شيء ووهبوا أنفسهم لها» مثلما قال زيدان.
«أنا درزي إسرائيلي»
يكتنف قضية نشوء العلاقة بين إسرائيل والدروز الكثير من الغموض، فقد تمكنت إسرائيل أخيرًا من ضم جماعة عربية إلى صفها، وذلك بعد أن أعادت أدلجة الوعي الجمعي للدروز بالكيفية التي نزعت الدروز -الذين يشكلون 10% من العرب في فلسطين، و2% من مجموع سكان إسرائيل ويقيمون في 19 بلدة– عن جسمهم العربي، وصاروا يُعرِّفون أنفسهم بـ«درزي إسرائيلي».
والدروز أو الموحدون عشيرة عربية، اختاروا اسمهم من مذهبهم الإسلامي الدرزي، موجودون في عدد من دول الشرق الأوسط، لكن كثافتهم تتمركز في المناطق الجبلية شمال فلسطين المحتلة والجولان السوري ولبنان، أما سَكنهم الجبال فهي عادة عرفوا بها، كونهم أقلية اضطُرّت إلى حماية نفسها عبر العوامل الطبوغرافية.
درزي إسرائيلي في تل أبيب
ظل الدروز، المعروفون بانغلاقهم، يعيشون جزءًا من شعب فلسطين، متخذين مبدأ التقية في شعائرهم الدينية والحياتية، إلى أن فرضت بريطانيا الانتداب على فلسطين، وبدأ ظهور ملامح المشروع الصهيوني في أثناء فترة الانتداب. وفي بداياته؛ لم يعطِ الدروز اهتمامًا كبيرًا لقوميتهم العربية، ولم يشاركوا في المواجهات والمناوشات التي وقعت بين العرب واليهود والبريطانيين، إذ كانت سمتهم العامة أنهم جماعة مطواعة لكل السلطات المتعاقبة في البلاد، وهو عرف تمسكوا به لتجنب أية أذية يمكن أن ينشئها تحالفهم مع طرف ضد الآخر، لكن عقيدة التقية هذه لم تستمر طويلًا.
معركة الاحتواء.. «سنحصد الحقول المُعادية أو نُتلِفها»
علينا أن نحصد كل حقل معاد في المنطقة الخاضعة لسيطرتنا، وكل حقل لا نستطيع حصاده علينا إتلافه، وفي كل الأحوال علينا منع العرب من جني ثمار هذه الحقول. *يغئيل يادين -مستشار أمني وقائد أركان سابق في الجيش الإسرائيلي- متحدثًا عن الأقليات في فلسطين.
بدءًا من ثلاثينيات القرن الماضي، شحذت الجماعات الصهيونية كل وسائلها لاحتواء الطائفة الدرزية وتحويلها لقومية منفصلة، واختزلت مقولة يغئيل يادين، سياسة إسرائيل التي وضعتها للتعامل مع الأقليات، إذ لعبت على خط الطائفية والتفرقة، واعتبرت إنجاحه جزءًا من طريق تحقيق الدولة.
يغئيل يادين، مصدر الصورة: كنيست
وامتدادًا لمشروعها الاستعماري للأرض، وضعت إسرائيل خطط احتلال الوعي، وتعزيز الانعزالية لدى الأقليات، من خلال تذويب عوامل اشتراك الأقلية مع البيئة التي تعيش فيها، وكان الدروز في مرمى هذا التخطيط.
إذ بدأت الجولات الإسرائيلية لاحتواء الدروز وسلخهم عن شعبهم من منطلق مبدأ «فرق تسد»، فتراوحت التوجهات داخل القرار الإٍسرائيلي خلال هذه المرحلة، حول الأداة الأنجع في التخلص من أزمة الدروز، وكشف المؤرخ قيس فرو في كتابه «الدروز في دولة اليهود؛ تاريخ موجز»، عن شواهد تاريخية، تؤكد وجود خطة إسرائيلية سابقة في التعامل مع الدروز بشكل خاص، إذ استندت هذه الخطة التي ظهرت منتصف الثلاثينيات إلى الرغبة بطرد الدروز وتهجيرهم وضمِّهم إلى أبناء طائفتهم في لبنان وسوريا، لكنّها تغيّرت فيما بعد، واتجهت نحو مسار آخر، هو فصلهم عن الوطنية الفلسطينية.
دأبت الحركة الصهيونية، في الوقت ذاته الذي تبحث فيه عن شقوق الاختلاف بين الدروز والعرب، لتكون بذرة انفصال الدروز عن محيطهم العربي والإسلامي، على محاولة خلق نقاط تقارب بين اليهودية والدرزية، إذ كانت تهدف التحركات الإسرائيلية، إلى جانب احتواء هذه الطائفة؛ إلى إيجاد حليف عربي، له امتداد في المنطقة، باعتباره أداة ضمن حربها التأثيرية في الرأي العربي.
وعلاوة على ذلك أيضًا؛ كان الجانب الديني منحى خصب للتقارب الإسرائيلي من الدروز، إذ استغلت إسرائيل النازع الديني عند الدروز في ما يعرف بعلاقة النبي موسى مع النبي شعيب، الذي دعمه وأرشده وعلّمه أصول الإدارة مثلما يقول اليهود. وبحسب العقيدة الدرزية، فإن النبي شعيب هو المؤسس الروحي للطائفة، وقد أتت هذه الخطوة الإسرائيلية أُكلها بالفعل، إذ أثرت بشكل واضح في ثقة الدروز بإسرائيل، وبدأت جسور التعاون بين الطرفين تشيد نفسها.
الجانب الآخر لعمليات الاحتواء.. الرد بالنار على إسرائيل
خلال محاولات احتوائهم، كان عدد الدروز لا يتجاوز 15 ألف شخص، وفي غضون هذا التسارع الإسرائيلي لإحتوائهم كان الأثر العكسي حاضرًا أيضًا، إذ رفض الكثير من الدروز كل محاولات التدجين والتقارب الإسرائيلي، وفي مطلع الثلاثينيات ظهرت أول جماعة مسلحة فلسطينية بعد ثورة البراق 1929، وهي «منظمة الكف الأخضر» التي كانت تتألف من 27 شخصًا بقيادة الدرزي أحمد طافش، فهاجمت الأحياء اليهودية، وأعدت الكمائن للدوريات الإسرائيلية والبريطانية، لكنها لم تعش طويلًا، بسبب الحملات العسكرية القاسية، واعتقال قوات الحدود الأردنية قائد المنظمة أحمد طافش، في أوائل صيف 1930.
ويمكن القول بأن النضالات الدرزية التي رفضت التخلي عن بيئتها الوطنية قد استمرت، إذ شارك العديد من الدروز في عمليات فردية وجماعية مع الفدائيين الفلسطينيين الآخرين، أما سياسيًّا خلال هذه المرحلة، فقد كان هناك العديد من الدروز من خارج فلسطين وداخلها، ينتصرون للقضية الفلسطينية، منهم الكاتب والأديب المعروف، شكيب أرسلان الدرزي من لبنان.
الأديب شكيب أرسلان، مصدر الصورة: أجداد االعرب
النكبة الفلسطينية.. إسرائيل تُغيّب الوعي الدرزي
مع بداية النكبة الفلسطينية عام 1948، كانت الجماعات الإسرائيلية قد استطاعت وضع شخصيات قيادية درزية تحت جناحها، وبرز التعاون مع الميليشيات الإسرائيلية بشكل أقرب إلى العلانية، إذ شارك شباب دروز مع العصابات الصهيونية، التي رفضت تهجير الدروز من قراهم على غرار ما فعلت في القرى الفلسطينية الأخرى.
وخلال السنوات التي تلت النكبة، نجحت الحكومة الإسرائيلية، في تحويل الدروز إلى قومية منفصلة، وعُرّفت هوية الطائفة بـ«الدرزية الإسرائيلية» وأُقر رسميًّا في القانون الإسرائيلي أنها طائفة مستقلة دينيًّا وقوميًّا. وعلاوة على ذلك، أنشأت إسرائيل نظامًا ومنهاجًا تعليميًّا خاصًّا بالدروز في إسرائيل، وهو منهاج انفصالي عزز انعزالية الدروز عن المجتمع العربي.
وكانت دراسة أعدّها الباحث يسري خيزران بعنوان « اللغة العربية في خدمة مشروع التدريز» قد أكدت ذلك، إذ تضمنت مراجعة لمدارس العرب الدروز، تظهر بالتفصيل استمرار محاولات نزع الدروز من دائرة الانتماء الثقافي والقومي العربي، في سبيل خدمة المشروع الصهيوني.
ويوضح الباحث يسري خيزران في مقابلة سابقة مع موقع «الجزيرة نت»، أن مناهج تعليم العربية في المدارس الدرزية يحاول قسرًا إلغاء العلاقة الجدلية ما بين اللغة والهوية، مشيرًا إلى أن أزمة الهوية التي تعيشها الأجيال الدرزية الجديدة اليوم هي من إفرازات هذه المناهج.
دروز في الجيش الإسرائيلي، مصدر الصورة: «تايمز أوف إسرائيل»
وبحسب ما كتبه الباحث الفلسطيني عز الدين التميمي في مقال له، فيمكن القول بأن هذا المنهاج التعليمي المنفصل، ودائرة المعارف الثانية، قد لعبت أدوارًا خاصّة ومهمًّا في صناعة رواية تاريخية مختلفة، استغراقًا في تعزيز فكرة التاريخ الخاص والمنفصل، إذ يقول التميمي: «امتدت إسرائيل إلى أكثر من ذلك أيضًا، إذ أنشأت جهازًا قضائيًّا خاصًّا بالدروز، مستقل عن الجهاز الإسلامي، وأعيد تشكيل روزنامة المناسبات المشتركة بين الدروز والمسلمين في إسرائيل، مثل إلغاء العطلة الرسمية المعتمدة لهم في عيد الفطر، إذ منع الدروز من الاحتفال بالأعياد الإسلامية، فحُظِّر عليهم التعطيل في عيدي الأضحى والفطر، واصطنعت مناسبة دينية اسمها زيارة النبي شعيب، لا أساس ديني لها على الصعيد الدرزي، ثم تكرّست لاحقًا عادة شعبية، أفاد منها القادة الإسرائيليون وسعوا إلى تثبيتها فأرسوا تقليدًا بأن يزورهم أثناءها رئيس الوزراء الإسرائيلي ويلقي فيهم الخطابات».
النجمة الخماسية رمز الدروز
لم يقتصر صناعة الدروز استثناءً إلى هذا الحد، إذ يقول التميمي: «بل استغرق الاحتلال في تعزيز فكرة التاريخ الخاص والمنفصل؛ من خلال تأسيس متحف درزي أقيم في جامعة حيفا عام 1975، مع مجموعة من الوثائق التي تشير إلى المشتركات اليهودية الدرزية، وكان ذلك إضافة إلى الشغل النظري البحثي والميداني، الذي دأب عليه مؤرخون وأنثربولوجيون إسرائيليون عن تاريخ الدروز المنفصل، وكان وما يزال هناك استغلال للمتحف في صناعة حدود أكثر وضوحًا للطائفة. فالمتحف الذي يعد واحدًا من أساسات تشكُّل الهوية القومية والذاكرة الجمعية، صار في هذه الحالة وسيلة لصناعة ذاكرة مخالفة ونقيضة، وتفتيت الذاكرة الجمعية، ولتشكيل هوية على صراع وانفصال عن الهوية القومية الفلسطينية».
عرب يقتلون عربًا
أسست إسرائيل وحدة خاصة في الجيش تسمى وحدة «الأقليات» عقب قيام الكيان الإسرائيلي 1948، وتهتم هذه الوحدة بتجنيد مواطنين من الأقليات، مُحاولةً كسب وتطويع هذه الأقليات المختلفة لخدمتها، وفي العام 1956 أصدر أول رئيس وزراء لإسرائيل دافيد بن غوريون، قرارًا يلزم بموجبه الدروز بالخدمة الإجبارية في جيش الاحتلال.
اول جندي درزي في جيش الاحتلال
Geplaatst door الهدهد op Dinsdag 31 juli 2018
وتجدر الإشارة إلى أن بعض الدروز قد احتجوا على إلزامهم بالخدمة، لكنه كان اعتراضًا خجولًا، سرعان ما تمكنت إسرائيل عبر أدواتها من احتوائه.
وإلى جانب الخدمة في الجيش، ينخرط الدروز ضمن أفرع الشرطة الإسرائيلية المختلفة، وخصوصًا في شرطة حرس الحدود، التي يجابه أفرادها الفلسطينيين كثيرًا، وهنا يعلق الباحث في الشأن الإٍسرائيلي صالح النعامي على ذلك بالقول: «هذه التوظيفات حولتها الحكومة الإسرائيلية إلى أداة، لزيادة الشعور بالكراهية والحقد المتبادل بين الدروز وبقية أبناء الشعب الفلسطيني، إذ إن هذه الأذرع الشرطية، كانت وما زال لها الباع الطولى في قمع الفلسطينيين، حيث تنص التعليمات الصادرة لأفرادها بالتعامل السادي والمهين مع الفلسطينيين».
غسان عليان، خلال مشاركته في الحرب على غزة، مصدر الصورة: عكا للشؤون الإسرائيلية
وخلال شهر أغسطس (آب) الماضي، قرر رئيس هيئة أركان الجيش الإسرائيلي غادي آيزنكوت، تعيين الجنرال الدرزي غسان عليان قائدًا لهيئة الجيش في الضفة الغربية المحتلة، وقد شغل سابقًا منصب قائد لواء جفعاتي، في المعركة البرية التي جرت شرق غزة، في بداية الحرب على القطاع عام 2014، وقد أصيب عليان بنفسه في المعركة برصاص قناصة المقاومة.
وفي ديسمبر(كانون الأوَّل) من العام 2017، كان وزير جيش الاحتلال الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان، قد عيّن العميد الدرزي في الجيش كميل أبو ركن منسقًا لعمليات حكومة الاحتلال في الأراضي الفلسطيني بديلًا لـ يوآف بولي مردخاي، الذي شغل المنصب سابقًا.
كميل أبو ركن، مصدر الصورة: وكالة التاسعة العربية
هل ينهار «حلف الدم»؟
وتعليقًا على قانون القومية اليهودية الجديد، كتب الصحافي الدرزي، رياض علي، قائلًا إنه: «أنهى وهم علمانية إسرائيل وحوّل الجنود الدروز إلى مرتزقة فعلًا»، فيما قال عنان شامي 28 عامًا (والده قاتل في حربي 1948 و1967، وشقيقه في حرب لبنان عام 2006، وفي غزة عام 2014): «لنخبر قتلى الحرب في المقبرة بأنهم تحولوا إلى ضحايا من الدرجة الثانية، لأجل من ولماذا قتلوا؟ وما الذي كانوا يكافحون من أجله؟!».
المؤرخ الفلسطيني ابن الطائفة الدرزي قيس فرو يقول معلقًا على قانون القومية، إن: «العرب الدروز في إسرائيل يكابدون اليوم مأزقًا بعدما تورطوا بعقلية المرتزقة، فهم لا يعرفون ماذا يفعلون، أو هل حقًّا لهم حقوق يجب أن يطالبوها ويحتجوا لأجلها، وهل هناك دولة فعلًا تؤمن بحقوقهم».
في الثاني من أغسطس (آب) الماضي، عقد اجتماع بين وجهاء الدروز والحكومة الإسرائيلية، لبحث مسألة الاعتراض الدرزي على القانون، لكن رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو أنهاه بشكل مفاجئ، بعد وصف وجهاء الدروز، إسرائيل بأنها «دولة تفرقة عنصرية»، قائلًا: «لن أسمح بالمس بهيبة وكرامة الدولة».
درزي يرفع علم إسرائيل وعلم الدروز
وفي خضم هذا التصدع الظاهر في العلاقة، يستبعد المؤرخ قيس فرو، أن تتحول الأزمة الراهنة بين الدروز وبين السلطات الإسرائيلية لانكسار عميق في العلاقات بين الطرفين، إذ يقول: «من يتتبع مسيرة الدروز في البلاد يعرف أنهم يعتنون بالقضايا الاجتماعية وليس بالصراع أو بموضوع هوية الدولة وغيرها من المسائل السياسية، وإن «ثقافة الهَبّة» لدى الدروز تحكم سلوكهم بشكل عام».
إذ يشير فرو إلى أن الدروز، يهبون بسرعة ويستكينون بسرعة وهو ما ساعد الحكومة الإسرائيلية في احتوائهم، فيما ينتقد فرو، المجتمع العربي أيضًا؛ لأنه غير مهتم فعليًّا باستعادة الدروز إلى أحضانه.