الكابتشينو، واللاتيه، والفرابتشينو، وربما حتى القهوة باللبن التقليدية، من منا لم يجرب شرب أحد هذه الأنواع على الأقل؟ كلنا نعلم أن القهوة لها تاريخ كبير وقديم في اكتشافها وشربها، وبالطبع فإن الحليب هو أحد أقدم المواد الغذائية التي اعتمد عليها الإنسان. ربما تعد القهوة والحليب واحدة من قصص الحب التي لا تخبو جذوتها مهما مرت عليها السنوات، بل ربما لا نبالغ إذا قلنا إن هذه القصة تزداد اشتعالًا وتجددًا مع كل منتج جديد يضاف إلى هذه القائمة.
لم تكن القهوة تقدم دائمًا مع الحليب. الكابتشينو هو اسم ابتكره الإيطاليون، في إشارة إلى لون الجلباب ذي غطاء الرأس الذي يرتديه الرهبان والراهبات من رتبة «الكابوتشين»، والذين يمثلون فرعًا مستقلًا من الرهبنة الفرنسيسكانية الأولى من الرجال المتدينين المشهورين بالتقشف الشديد. لكن السؤال: متى تم التفكير لأول مرة في إضافة الحليب إلى القهوة لنحصل الآن على تلك المشروبات المحبوبة التي اجتاحت العالم ولم تزل؟
القهوة والحليب.. البداية من هولندا والصين!
كانت هولندا أول دولة أوروبية تحصل على أشجار بن حية، وذلك في عام 1616، حين حصل التاجر بيتر فان دن برويكه على بعض حبوب البن من منطقة «المخا» باليمن. بدأ دي برويكه في زراعة هذه الأشجار في أحد المشاتل الدفيئة المغلقة في حديقة أمستردام النباتية.
نمت هذه الأشجار هناك بشكل جيد لدرجة أنه في عام 1658 جلبت شركة الهند الشرقية الهولندية أشجار منها إلى سيلان (سريلانكا حاليًا) وزرعتها هناك للمرة الأولى، لكن هذه الزراعة لم تنجح كما ينبغي. اكتشف الهولنديون أن الحبوب نمت بشكل أفضل في جاوة الإندونيسية، والتي أصبحت في النهاية المورد الرئيس لحبوب البن إلى أوروبا. في ذلك الوقت كان الهولنديون يتاجرون مع الصين؛ إذ وفر الهولنديون القهوة لهم هناك.
حتى الآن تبدو هذه الأمور عادية دون وجود للحليب في القصة. لكن المرة الأولى التي أضيف فيها الحليب كامل الدسم إلى القهوة كانت من قبل يوهان نيوهوف، السفير الهولندي في الصين، وذلك في عام 1660. عندما جرب نيوهوف القيام بهذا الأمر، كان يقوم بما قامت به النخبة الصينية في عهد «سلالة تشينغ» التي كانت معتادة على إضافة الحليب إلى الشاي. من هنا بدأت قصة الحب التي لم تنتهي حتى الآن.
القهوة والحليب.. إلى أوروبا
نعود هنا إلى أوروبا. مع مرور بضع سنوات من إضافة نيوهوف للحليب إلى القهوة، أصبح استخدام الحليب في القهوة مقبولًا على نطاق واسع منذ إدخال الطريقة على يد البولندي جيرزي فرانسيسك كولشيكي، وذلك في المقهى الخاص به في مدينة فيينا منذ عام 1684. كان كولشيكي محارب مشهور أثناء حصار العثمانيين لفيينا عام 1683، إذ ساهم في إنقاذ المدينة باستخدام مهارته المتعلقة بتعدد اللغات. بعد انتهاء الحصار كوفئ كولشيكي بأكياس من حبوب البن، ومبلغ كبير من المال، استخدمه لافتتاح مقهى في فيينا، وبهذا بدأ ثقافة المقاهي الشهيرة عالميًا.
بدأ كولشيكي بتقديم القهوة كما تعلمها من العثمانيين، والتي تتضمن غلي القهوة في وعاء والانتظار حتى تستقر القهوة قبل التقديم، لكن هذه الطريقة كانت «فظيعة» بالنسبة للأوروبيين الذين لم يتقبلوا القهوة بهذا الشكل. احتاج كولشيكي إلى التصرف بسرعة لإنقاذ عمله المتعثر، فكان عليه أن يجد طريقة لإزالة مرارة القهوة السوداء، وجعلها أكثر قبولًا للأذواق المحلية. لذلك فعل شيئين: الأول هو تصفية القهوة لفصل القهوة المطحونة نفسها عن الماء، والتي أصبحت أول طريقة لتصفية القهوة.
والشيء الثاني هو إضافة التحلية للقهوة لتقليل مرارتها. في القرن السابع عشر كان هناك نوعان فقط من المُحليات، العسل والحليب. لذلك أضاف كولشيكي كلًا من العسل والحليب؛ ليجعل طعم القهوة حلوًا وممتعًا. واستبدل بالعسل لاحقًا السكر، وهكذا بدأ الأوروبيون في استخدام الحليب والسكر في قهوتهم.
وفي النهاية لم يعد يستخدم السكر على الإطلاق في بعض مشروبات القهوة عندما اكتشف أنه إذا سخن الحليب بشكل صحيح، فإنه يجعل القهوة أكثر استساغة. سرعان ما أصبح هذا المزيج من القهوة ذات الدسم مع اللبن المخفوق ذائع الصيت، ليس فقط في فيينا، ولكن في جميع أنحاء أوروبا.
القهوة وقصة نجاة فيينا من حصار العثمانيين
في الواقع إن شهرة جيرزي فرانسيسك كولشيكي في فيينا قد طغت على شهرة يوحنا الثالث سوبياسكي، ملك بولونيا الذي استطاع إنقاذ الإمبراطورية من الانهيار أمام العثمانيين بعد طرد الأتراك من فيينا. عندما قاد الملك البولوني القوات ضد معسكر الوزير الأعظم كارا مصطفى باشا وأنقذ المدينة، لم يكن سوبياسكي من احتفلت به حشود فيينا، بل جيرزي فرانسيسك كولشيكي. فما القصة؟
في عام 1683 كان كولشيكي يدير شركة تجارية في المدينة. وكان يجيد عدة لغات، بما في ذلك اللغة العثمانية التي استخدمها في عمله وفي الترجمة، حتى أنه مثَّل الإمبراطور النمساوي في القسطنطينية. وعندما حاصر جيش مصطفى باشا المدينة، بدا الوضع ميؤوسًا منه بالنسبة للنمساويين.
وضع كولشيكي خطة مع رئيس بلدية مدينة فيينا للتسلل عبر معسكر العدو متنكرًا في زي جندي عثماني. ولتبديد الشكوك يقال إنه غنى أغاني عثمانية، وهو يتجول في المعسكر العثماني الواسع، وبعد أن وصل إلى الجانب الآخر، أجرى اتصالات مع تشارلز الخامس، دوق لورين، الذي كان يترأس القوات الألمانية، موضحًا له الأوضاع الصعبة في المدينة والتي تزداد سوءًا كل يوم في ظل الحصار.
كان العثمانيون يحفرون أنفاقًا تحت تحصينات المدينة، وكانت ذخيرة المدافعين عن المدينة تنفد، وكان المرض يهلكهم، وكان قائد قوات الدفاع، الكونت فون ستارهيمبيرج، يفكر في الاستسلام. لكن من خلال ملخص كولشيكي للأوضاع وشرحه تفاصيل إدارة العثمانيين للمعركة، تمكن تشارلز من فهم خطورة الموقف وتحصين قوات الإغاثة.
عاد كولشيكي مرة أخرى إلى المدينة عبر المعسكر العثماني، وتسبب أخبار وصول القائد الألماني وملك بولونيا سوبياسكي الوشيكة في رفع الروح المعنوية للمدافعين بشكل كبير، ومنحتهم الروح للبقاء صامدين، وبعد نهاية الحصار انهالت الهدايا على كولشيكي، ومنحه الإمبراطور مبلغًا كبيرًا من المال ومنزلًا.
في غضون ذلك سمح له أيضًا باختيار أي شيء يريده من جبال الكنوز التي استولوا عليها من المعسكر العثماني، ولدهشة الجميع لم يظهر كولشيكي أي اهتمام بالذهب أو الأقمشة باهظة الثمن، بل لفتت انتباهه عدة مئات من أكياس حبوب البن التي افترض البعض أنها مجرد فاصولياء تتغذى عليها الجمال. كان مصطفى باشا يستخدم حبوب البن لإبقاء جنوده في حالة تأهب ولياقة. وكان كولشيكي قد تعلم فن تحميص حبوب البن في القسطنطينية، ورآها فرصة لإحضار المشروب إلى السوق الأوروبية، وهو ما حدث بالفعل؛ لينتشر المشروب بإضافة الحليب كالنار في الهشيم.
علامات
الحليب, الدولة العثمانية, الصين, العثمانيون, القهوة, تاريخ, ثقافة القهوة, حصار فيينا, فيينا, مشروبات, هولندا