القصور الملكية أو الرئاسية تمثل رمز الحكم والسلطة الخاص بكل دولة، ودائمًا ما تحمل رمزية خاصة ويُعنى به كي يعكس مدى قوة هذه الدولة وهيبتها. هذه الفكرة ليست حديثة، وإنما قديمة منذ أن بدأ الإنسان يكون الدول والممالك والإمبراطوريات، وهو الأمر الذي يظهر جليًا في قصور الحكم الحالية ببعض الدول التي يعود تاريخ إنشاء بعضها لعدة قرون مضت. نلقي نظرة في هذا التقرير على أبرز قصور أو مقار الحكم الحالية، ونعود بالزمن إلى الوراء لنتعرف على قصة إنشاء كل منها.
البيت الأبيض.. أهم مركز حكم في العالم
البيت الأبيض هو المقر الرسمي ومكان عمل رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، وهو يقع في 1600 شارع بنسلفانيا في واشنطن العاصمة، وكان مقر إقامة كل رئيس للولايات المتحدة منذ جون آدامز في عام 1800. مصطلح البيت الأبيض غالبًا ما يستخدم أيضًا بوصفه دليلًا على الرئيس ومستشاريه، كما في: «أعلن البيت الأبيض أن …».
بعد تنصيبه في أبريل (نيسان) 1789، عمل الرئيس جورج واشنطن من خلال قصرين تنفيذيين في مدينة نيويورك: بيت صموئيل أوسجود، وبيت ألكسندر ماكومب. وفي عام 1790، بدأت نيويورك في بناء بيت الحكومة لمقر إقامته الرسمية، لكنه لم يعمل به، إذ انتقلت العاصمة الوطنية إلى فيلادلفيا في نهاية العام ذاته.
حدد قانون الإقامة لعام 1790 مدينة فيلادلفيا عاصمة وطنية مؤقتة لمدة 10 سنوات، وذلك لحين الانتهاء من إنشاء العاصمة الاتحادية، وكجزء من جهد غير مجد لجعل فيلادلفيا العاصمة الوطنية الدائمة، بنيت المدينة قصر رئاسي ضخم، لكن السلطة الاتحادية رفضت الأمر، وأصبح الرئيس جون آدامز في يوم الأول من نوفمبر (تشرين الثاني) 1800 أول رئيس يشغل البيت الأبيض، ومقابل هذا أصبح بيت الرئيس في فيلادلفيا فندقًا ثم جرى هدمه عام 1832، في حين أصبح القصر الرئاسي بفيلادلفيا مقرًا لاحقًا لجامعة بنسلفانيا.
جرى تصميم البيت الأبيض من قبل المهندس المعماري الأيرلندي المولد جيمس هوبان على الطراز الكلاسيكي الجديد في المعمار، وجرت عملية البناء بين عامي 1792 و1800 باستخدام الحجر الرملي المسمى «أكويا كريك – Aquia Creek»، وهو الحجر الذي استخدم في تشييد معظم مباني واشنطن في ذلك الوقت، وطُلي باللون الأبيض.
عندما انتقل الرئيس السابق توماس جيفرسون إلى المنزل في عام 1801، أضاف – مع المهندس المعماري بنيامين هنري لاتروب – صفًا من الأعمدة على كل جناح ليخفي الإسطبلات وأماكن التخزين. في عام 1814، خلال حرب عام 1812، اشتعلت النيران في القصر من قبل الجيش البريطاني الذي قام بحرق واشنطن، وهو ما أدى إلى تدمير المناطق الداخلية، والعديد من المناطق الخارجية له. بدأت إعادة الإعمار على الفور تقريبًا، وانتقل الرئيس جيمس مونرو إلى مقر العمل التنفيذي الذي أعيد بناؤه جزئيًا عام 1817، واستمرت عملية البناء الخارجي مع إضافة رواق جنوبي نصف دائري في عام 1824، ثم الرواق الشمالي في عام 1829.
وبسبب الازدحام داخل القصر التنفيذي نفسه، نقل الرئيس ثيودور روزفلت أماكن جميع مكاتب العمل إلى الجناح الغربي الذي شيد حديثًا في عام 1901. بعد ثماني سنوات في عام 1909، وسع الرئيس وليام هوارد تافت الجناح الغربي وأنشأ أول مكتب بيضاوي، ثم حُولت العلية في الطابق الثالث إلى أماكن للمعيشة في عام 1927.
الكرملين.. من أقدم قصور العالم
كرملين موسكو، عادة ما يشار إليها باسم الكرملين، هو مجمع محصن في قلب العاصمة الروسية موسكو، ويطل على نهر موسكفا إلى الجنوب، وكاتدرائية القديس باسيل والساحة الحمراء إلى الشرق، وحديقة ألكسندر إلى الغرب. يضم الكرملين خمسة قصور، وأربع كاتدرائيات، والجدار المرفق مع أبراج الكرملين. أيضًا داخل هذا المجمع يوجد قصر الكرملين الكبير، ويعمل المجمع كله باعتباره مقر إقامة رسميًّا لرئيس الاتحاد الروسي.
يعني اسم الكرملين «القلعة داخل المدينة»، وغالبًا ما يستخدم أيضًا كمرادف للإشارة إلى حكومة الاتحاد الروسي بمعنى مماثل لكيفية استخدام «البيت الأبيض» للإشارة إلى المكتب التنفيذي لرئيس روسيا، وقد استخدم سابقًا للإشارة إلى حكومة الاتحاد السوفياتي (بين عامي 1922 و1991).
بنت مجموعة من القبائل بناءً محصنًا (أو «غراد» بالروسية) على التل المطل على المنطقة الموجود بها الكرملين الآن في القرن الحادي عشر. عام 1156 جرت عملية توسيع للبناء المحصن، لكن المغول دمروه عام 1237، ليعاد بناؤه عام 1339، وحتى القرن الرابع عشر، كان الموقع يعرف باسم «غراد موسكو» عندما سُجلت كلمة «الكرملين» لأول مرة في عام 1331 للموقع والبناء المحصن.
استبدل أحد الحكام هذا البناء الذي بني من أخشاب البلوط، بقلعة قوية من الحجر الجيري الأبيض عام 1368 على الأسس الأساسية للجدران الحالية، وبعد هذا جرت عملية استئناف بناء الكنائس والأديرة في الكرملين. نظم الأمير إيفان الثالث عملية إعادة بناء الكرملين، عبر عدد من المهندسين المعماريين المهرة من عصر النهضة في إيطاليا، بما في ذلك بيتروس أنطونيوس سولاريوس، الذي صمم جدار الكرملين الجديد وأبراجه، وماركوس روفوس الذي صمم القصر الجديد للأمير عام 1508. جدران الكرملين كما تظهر الآن بنيت بين عامي 1485 و1495.
ظل الكرملين هو مقر الحكم للحكام المتتابعين حتى سقوط أحد الحكام خلال ما يعرف باسم «انتفاضة موسكو عام 1682»، وهو ما أعقبه نقل العاصمة إلى مدينة سانت بطرسبرغ. أُهمل الكرملين رغم اقتصاره على عمليات التتويج فقط حتى عام 1773، عندما بنى فاسيلي بازهينوف بيتًا جديدًا لخطيبته كاترين، عبر تصاميم جديدة أدت لهدم العديد من الكنائس والقصور، وجزء من جدار الكرملين. وشيدت المكاتب الفخمة والفاخرة لمجلس الشيوخ، منذ تكييفها لاستخدامها باعتبارها مكانًا رئيسيًّا لرئيس روسيا.
بعد الغزو الفرنسي لروسيا في عام 1812، احتلت القوات الفرنسية الكرملين ثم عند مغادرة نابليون أمر بتفجيره لتتضرر ترسانات الأسلحة وعدة أجزاء من الجدار والعديد من الأبراج والكنائس عبر تفجيرات مستمرة لمدة ثلاثة أيام. عادت أعمال الترميم بين عامي 1816-1919. تمت عملية بناء قصر جديد فخم ينافس قصر سانت بطرسبرغ الشتوي بين 1839-1849، يليه المبنى الجديد لمخزن الأسلحة في الكرملين عام 1851.
في الحقبة السوفياتية، اختار فلاديمير لينين مجلس الشيوخ داخل الكرملين باعتباره مقر إقامته. كما كان لجوزيف ستالين أيضًا غرفه الشخصية في الكرملين، وكان حريصًا على إزالة كل «آثار النظام القيصري» السابق من مقره. تأسست المتاحف في الكرملين في عام 1961 وكان المجمع من بين أول المنشآت السوفياتية المدرجة في قائمة التراث العالمي في عام 1990.
قصر باكنغهام.. بريطانيا العظمى حكمت العالم من هناك
قصر باكنغهام هو مقر الإقامة في لندن والمقر الإداري للعاهل الحاكم في المملكة المتحدة. يقع القصر في مدينة وستمنستر، وغالبًا ما يكون في قلب مناسبات الدولة والضيافة الملكية. كان هذا القصر نقطة محورية للشعب البريطاني في أوقات البهجة والحزن الوطني.
كان المبنى الذي عرف أصلًا باسم باكنغهام هاوس، وهو أحد المباني المتواجدة اليوم في قلب القصر، عبارة عن منزل ريفي كبير جرى بناؤه لدوق باكنغهام في عام 1703 على قطعة من الأرض ظلت ملكية خاصة لمدة 150 سنة على الأقل. بعد هذا اقتناه الملك جورج الثالث في 1761 باعتباره مقر إقامة خاص للملكة شارلوت وأصبح يعرف باسم بيت الملكة (لاحظ أنه كان بيتًا وليس قصرًا للملكة). وفي حين بقي «قصر سانت جيمس» هو مقر الإقامة الملكية الرسمية ومقر الاحتفالات الرسمية، بدأ اسم «قصر باكنجهام» في الظهور على الأقل من عام 1791.
بعد انضمامه إلى العرش في عام 1820، واصل الملك جورج الرابع عمليات التجديد في البيت من أجل فكرة اعتباره منزلًا صغيرًا ومريحًا، وبينما كان العمل جاريًا، قرر الملك في عام 1826 تعديل البيت إلى قصر بمساعدة المهندس المعماري جون ناش. تم تصميم الواجهة الخارجية مع الأخذ في الاعتبار التأثير الفرنسي الكلاسيكي الجديد المفضل من قبل الملك. ارتفعت تكلفة التجديدات بشكل كبير، وبحلول عام 1829 أدى الإسراف في التصاميم إلى استبدال المهندس. عند وفاة جورج الرابع في عام 1830، استأجر شقيقه الأصغر الملك وليام الرابع أحد المهندسين لإنهاء التجديدات، وبعد تدمير قصر وستمنستر الخاص بمجلس النواب بالنار في عام 1834، حول وليام القصر إلى مجلس النواب الجديد.
خلال القرن التاسع عشر جرى توسيعه، وذلك من قبل المهندسين المعماريين جون ناش وإدوارد بلور، الذين شيدوا ثلاثة أجنحة حول فناء مركزي. أصبح قصر باكنغهام مقر العاصمة لندن للعاهل البريطاني منذ انضمام الملكة فيكتوريا في عام 1837.
وكانت آخر الإضافات الهيكلية الرئيسية في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، بما في ذلك الجبهة الشرقية، التي تحتوي على شرفة معروفة تتجمع فيها العائلة المالكة بشكل تقليدي لتحية الحشود. دُمرت كنيسة القصر بواسطة قنبلة ألمانية خلال الحرب العالمية الثانية.
الإليزيه.. من الإمبراطورية إلى الجمهورية
كان قصر الإليزيه هو المقر الرسمي لرئيس فرنسا منذ عام 1848. يعود تاريخه إلى أوائل القرن الثامن عشر، ويضم مكتب الرئيس ومكان اجتماع مجلس الوزراء. يقع القصر بالقرب من شارع الشانزليزيه في الدائرة الثامنة من العاصمة باريس. اسم الإليزيه مستمد من حقول إليسيان، وهو المكان المبارك للموتى في الأساطير اليونانية.
كان المهندس المعماري أرماند كلود موليت يمتلك عقارًا يطل على طريق قرية رولي، غرب باريس وهو من الحقبة الملكية الفرنسية، ويمتد عبر الشانزليزيه. تم بيع هذا العقار عام 1718 إلى أحد الدوقات، مع الاتفاق على أن موليت سيبني فندقًا بدلًا من العقار للدوق. جرى الانتهاء من الفندق عام 1722، وعلى الرغم من أنه قد أدخل العديد من التعديلات عليه منذ ذلك الحين، فإنه لا يزال مثالًا جيدًا على النمط الكلاسيكي الفرنسي.
في وقت وفاته في عام 1753، كان الدوق الفرنسي صاحب واحد من المنازل الأكثر إثارة للإعجاب في باريس، ليشتريه الملك لويس الخامس عشر باعتباره مقرًا لعشيقته ماركيز دي بومبادور. أظهر المعارضون انزعاجهم للنظام من خلال تعليق لافتات على البوابات تقول: «منزل عاهرة الملك»، وبعد وفاتها، عاد المنزل إلى التاج الفرنسي.
في 1773، اشتراه نيكولا بيوجون، أحد أغنى الرجال في فرنسا، الذين كانوا في حاجة إلى «منزل ريفي» باذخ مناسب (مدينة باريس لم تكن تمتد إلى هذه المنطقة في ذلك الوقت) لإيواء مجموعته الرائعة من اللوحات الكبيرة، التي ظهرت لاحقًا في عدد من المتاحف الكبرى. وتحقيقًا لهذه الغاية، استأجر مهندسًا معماريًّا لإجراء تعديلات كبيرة على المباني، فضلًا عن تصميم حديقة على الطراز الإنجليزي.
اشترى القصر باثيلد أورليانز، دوقة بوربون عام 1787، وهي الدوقة التي أطلقت عليه اسم الإليزيه، كما قامت ببناء مجموعة من الأكواخ في الحدائق المحيطة. مع اندلاع الثورة الفرنسية، فرت الدوقة من البلاد وصودر الإليزيه ثم تم تأجيره، وكانت الحدائق تستخدم لتناول الطعام والشرب والرقص وأصبح منزلًا لألعاب المقامرة.
في عام 1808، تم بيع الإليزيه إلى الإمبراطور، وأصبح يعرف باسم إليزيه نابليون. بعد معركة واترلو، عاد نابليون إلى الإليزيه، ووقع هناك تنازله عن العرش ثم غادر القصر.
وفي إطار الحكومة المؤقتة للجمهورية الثانية، جرت تسمية القصر باسم الإليزيه الوطني، وعين مقر إقامة رئيس الجمهورية. في عام 1853، عقب انقلابه الذي أنهى الجمهورية الثانية، انتقل نابليون الثالث إلى قصر مجاور وأبقى على الإليزيه من أجل لقاء عشيقاته، متنقلًا بين القصرين من خلال ممر سري تحت الأرض. في عام 1873، خلال الجمهورية الثالثة، أصبح الإليزيه مقر الرئاسة الرسمي.
قصر الاتحادية.. مصر منذ الوحدة العربية
أو قصر مصر الجديدة هو واحد من القصور والمساكن الرئاسية المصرية الثلاثة بجانب قصر المنتزه وقصر رأس التين، ويعد قصر الاتحادية المكتب التنفيذي لرئيس مصر. يقع في ضاحية مصر الجديدة، شمال شرق وسط القاهرة وشرق النيل في مصر، وقد بني هذا القصر أساسًا باعتباره قصرًا فندقيًا في هليوبوليس أو مصر الجديدة عام 1910.
في مصر، يشار إليه حاليًا، بقصر رئاسة الجمهورية أو قصر الاتحادية، وقد جرى بناء فندق هليوبوليس بالاس في الصحراء المفتوحة شرق القاهرة بين عامي 1908-1910، في حين بدأ تطوير الضاحية حوله تدريجيًا، من قبل شركة «واحة مصر الجديدة». وافتتح الفندق بوصفه أفخم فندق في أفريقيا في الأول من ديسمبر (كانون الأول) 1910.
اعتبر الفندق من أفخم الفنادق آنذاك وكان معماره المتميز ما لفت إليه النظر، كما أصبح عامل جذب سياحي للعديد من الشخصيات الملكية في مصر وخارجها، إضافة إلي رجال الأعمال الأثرياء. عاصر فندق قصر هليوبوليس الحربين العالميتين مما عزز نشاطات القصر نتيجة الشخصيات البارزة الوافدة، كما تحول في بعض الفترات من الحربين إلى مستشفى عسكري ومكان لتجمع الضباط من قبل سلطة الاحتلال البريطاني في مصر.
في الستينيات استعمل القصر الذي صار مهجورًا بعد ثورة عام 1952، باعتباره مقرًا لعدة إدارات ووزارات حكومية. عام 1972 وخلال فترة رئاسة السادات لمصر، صار القصر مقرًا لما عرف باتحاد الجمهوريات العربية الذي ضم آنذاك كلًا من مصر وسوريا وليبيا، ومنذ ذاك الوقت عرف باسمه الحالي غير الرسمي «قصر الاتحادية» أو «قصر العروبة».