يرتدي زيًّا تقليديًّا، هو الحطة (الغترة) والعقال والقمباز، ليخرج على جمهور من الصغار والكبار يتشوق لسماع «الخراريف»، بلهجة تقليدية جذابة. إنه الحكواتي الذي ما زال يصر على حضور الحكاية الشعبية الفلسطينية بين أفراد المجتمع.
بعضهم يعمل على تجهيز بيت بطراز قديم لاستقبال الراغبين في السماع للحكواتي، وآخر فضل اصطحاب جمهوره متجولين، ليحكي لهم الحكاية في القرى المهجرة، أو المهددة بالمصادرة، وآخرون سافروا ليرووا الحكايات في المهرجانات الدولية، إنهم «الحكواتية» في فلسطين الذين يصرون على فعل الكثير للحفاظ على هذا التراث الشعبي.
«الحكواتي المتجوّل»
لم يدر في خاطر الشاب الفلسطيني حمزة العقرباوي -32 عامًا- يومًا أنه سيصبح حكواتي، ظن أن ميوله مع الحكاية، تقتصر على الاستماع لحكايات جده الحاج خضر الحمزة، فهو قاص وراوي لا مثيل له، كما أن حكايات العجوز حسن أبو ناصر قد استهوته أيضًا منذ وقت مبكر، استمع لها؛ لأنه أيقن أن لدى الرجل كنزًا قصصيًّا كبيرًا يجب أن يُسجل ويوثق.

حمزة العقرباوي خلال إحدى رحلات الحكواتي التجوال
لكن يبدو أن العقرباوي كان حكاء بالفطرة والوراثة، تعجب جمهوره الأول من إتقانه للهجة العامية الفلسطينية بكلماتها الأصلية، ومن عرضه الشيق لتقليد الحكواتي، يقول العقرباوي لـ«ساسة بوست»: «عندما بدأت أجمع الحكايات وأجري المقابلات لم يكن هدفي أن أصبح حكواتيًا، بل هدفي التوثيق فقط لهذا التراث الشعبي، لكن الأقدار قادتني لأن أصبح حكواتيًا رغم عني».
ولمواكبة ما تقتضيه المرحلة، بدأ العقرباوي في عام 2009 مشروع الحكواتي المتجول، يصطحب فيه الناس لرواية حكاية في الأغوار والمناطق الأخرى، يضيف العقرباوي: «حاولت تقديم شيء جديد يربط المتجولين بالمكان الذي نذهب إليه عبر سرد حكايات المكان وقصصه وخرافاته، وما روي لي من كبار السن عنه، أو ما قرأته عن المكان من المراجع والمصادر».
ويضيف: «كان ذلك بفضل الله هو الفارق والمميز في الجولات، وهو فعلًا ما جعل الجولات مميزة ومقبولة، ذلك لأن المتجول كان يشعر جراء ذلك بأن المكان ليس مجرد شيء يمر منه، وإنما هناك تاريخ وقصة وحكاية، وهناك شيء يربط المكان بالإنسان».
استطاع العقرباوي مع رفاقه تنظيم جولات معرفية متنوعة ومتعددة، وخصوصًا في المناطق المهمة، والمهددة بالمصادرة من قبل الاحتلال الإسرائيلي، كمجموعات «تجوال سفر«، و«أمشي أعرف بلدي«، و«الملتقى الفلسطيني للتصوير«، و«شغف للركض والمعرفة«، وهو مشروع نسج علاقة وارتباطًا قويًّا بين الفلسطيني وأرضه.
يتابع العقرباوي: «أنت تريد أن تخاطب المجتمع بتراثه وروح أجداده في عصر طغت فيه روح الحداثة والتطور، ولا مكان للأصالة والتراث إلا في الأرشيف والمتحف، وبالتالي كان عليّ أن أقدم لهم حكايات طريفة وشيقة، وفيها ما يبهجهم ويبسطهم».
إقبال على تعلم «الحكواتية»
على عجل، تتحرك «الحكواتية» حنان أبو الزلف من بيتها الكائن في «دالية الكرمل» -تقع إلى الجنوب الشرقي من مدنية حيفا- لتلحق موعدًا لها ستلقي فيه حكاياتها الشعبية، كانت متشوقة في هذا اليوم للعمل، كونها عادت مؤخرًا من رحلة استغرقت شهرًا في عروض حكواتية للأطفال في مدارس «لوس أنجلوس».

حنان أبو الزلف
تعمل أبو الزلف، وهي أيضًا كاتبة أطفال ومسرح، بمهنة الحكواتية منذ ثلاث سنوات، لقد اختارت هذه المهنة بعدما لامست تعطش الأطفال للحكاية الشّعبية، معتبرةً أن أسعد لحظاتها عندما ترى الإعجاب بما تروي على وجوه الأطفال.
تقول أبو الزلف لـ«ساسة بوست»: «أقدم الحكاية الشعبية، وكذلك أقوم بكتابة عروض مبنية على الحكايات، كما أقدم الحكايات الشّخصية المبنية على قصص واقعية».
ومع الإقبال على مهنة الحكواتي، اتجهت أبو الزلف للعمل على تدريس هذه المهنة، فكما توضح: «للحكاية قوة كبيرة، وقد استطاعت الحفاظ على نفسها لأن الأجيال توارثتها، لذا هناك إقبال على دراسة مهنة الحكواتي، فالناس تعشق الحكايات الشّخصية، وتعشق الاستماع إلى البطولات، وتتعاطف مع الضحية بشكل عام، لكنها أيضًا تعشق النكتة والحكاية الطريفة».
ترى أبو رهف أن أهم فائدة للحكواتي هو حلقة الإصغاء، وبناء الخيال عند الطفل، ومن هنا تأتي هنا فرصة زرع الأهداف، وإعادة الانتماء للتراث، والمحافظة على اللغة المعيارية.
الحكاية هي الحاضنة الأولى
يرتدي رجل في نهاية الأربعينيات من العمر لباس الفلسطينيين التقليدي، قمباز وعباءة، ويضع على رأسه طربوشًا أحمر وعلى كتفه شالًا، حتى البُلغة، ذاك الحذاء التقليدي يرتديه، إنه الحكواتي «طاهر باكير» الذي يعمل في هذه المهنة منذ عام 1996، وهو أيضًا عضو المجلس الاستشاري في وزارة الثقافة الفلسطينية، كما أنه كاتب، ومخرج مسرحي، وممثل.

الحكواتي طاهر باكير
لقد كانت رحلة باكير الأخيرة ببرنامج مزدحم الفعاليات، لكنه معتاد على ذلك، فعادةً ما يشارك في رواية الحكاية بلهجته النابلسية في مهرجان «الكونتفيل»، ومهرجان «التنين الناطق بالسبع ألسن» في سويسرا، ومهرجانات «هنا فلسطين» بفرنسا، وليس بآخر مهرجان «حكايات» التاسع بالأردن.
يعتبر باكير نفسه تواقًا لأبعد الحدود للماضيّ وتفاصيله، لذا حمل على عاتقه استمرار مهنة الحكواتي، لذلك هو يعمل على إنجاز منزل نابلسي قديم الطراز يستقبل فيه من يريد سماع الحكايات، يقول باكير: «قد يختلف السياسيون، ولكن لا يختلف الحكواتية؛ لأن للرواية في لغة السياسي مئة ألف حكاية وحكاية على عكس الحكواتي».
يؤكد باكير أن مضمون الحكاية المتوارث، أو المؤلف حديثًا يجب أن يحمل في طياته تراث الفلسطيني، وذلك من خلال تضمين الحكاية بعض عاداتنا وتقاليدنا وماضينا وتراثنا، ويتابع القول: «حين أسير في زقاق مدينتي وحاراتها، أسمع همسها تروى الحكاية، أسمع ضحكة طفل فأرى في ضحكته أصل الحكاية».
ويؤكد باكير على أنه ما دامت المدن والأوطان لا تموت، فالتراث الذي يمتد لآلاف السنين يجب ألا يموت، ويجب أن تتوارثه الأجيال، وتورثه لمن بعدها.
وتابع القول لـ«ساسة بوست»: «الناس بطبيعتها تحن للحاضنة الأولى، لذلك هم يحبون الاستماع إلى الحكاية، وهي الحاضنة الأولى»، ويرى باكير الذي يقدم الحكاية للأطفال والكبار وللأسرة أن الناس ترغب في الاستماع للحكايات التي تدغدغ العاطفة، وتداعب الذاكرة، لذلك على الحكواتي أن يدخلهم نفق الزمان، وينقلهم للزمن الجميل، ويضيف: «أقدم حكاية الخير والشر، وكيف ينتصر الخير بالصدق، والحب، والفداء، والعطاء، والتضحية، وكيف ينتصر الجمال على البشاعة، أسرب بالحكاية معنى الانتماء والوطن، وأركز على قيمة الرضا. أن نرضى وألا نطمع».
بالفلسطيني.. «الخراريف»
تعرف الموسوعة الحرة «ويكيبيديا» الحكواتي بأنه «الشخص الذي امتهن سرد القصص، في المنازل والمحال والمقاهي والطرقات، حيث كان يحتشد حوله الناس قديمًا، وكان لا يكتفي بسرد أحداث القصة بتفاعل دائم مع جمهوره؛ بل يدفعه الحماس لأن يجسد دور الشخصية التي يحكي عنها بالحركة والصوت».
وتعرف الحكاية الشعبية الفلسطينية التي تم تناقلها من جيل إلى آخر بأكثر من اسم، البعض يطلق عليها تسمية «الخراريف»، أو «النوادر»، أو «الحكايات»، كما أن لها أنواعًا كثــــيرة، أبرزها الحكاية الخرافية.
ورغم أن الحكاية الشعبية الفلسطينية نالها ما نال التراث الشعبي من إهمال، إلا أنها شهدت محاولات مهمة للحفاظ عليها، بطرق كثيرة أخرى تضاف إلى ممارسة هذه المهنة من قبل الأشخاص، مثل صدور كتاب «قول يا طير»، الصادر عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية للمؤلفين: شريف كناعنة، وإبراهيم مهوي، ويضم الكتاب «قول يا طير» 45 حكاية (خرافية) من 200 حكاية روى معظمها نساء في أنحاء فلسطين كافة (الجليل والضفة الغربية وغزة).