“المنطق, مثل الخمر, تفقد مفعولها عندما يتم تناولها بكميات كبيرة”. لورد ديونساني (إدوارد بلانكت)

الفلاسفة ورجال الدين والملحدون وآخرون حاولوا أن يثبتوا وجود أو عدم وجود إله لآلاف السنين. هذه المقالة تحاول استخدام أسس علم المنطق لهذا الغرض, متمركزة على سؤالين “هل يمكن تعريف ‘الإله’ بنظرية متماسكة منطقيًّا؟”، و”هل من الممكن أن نقرر منطقيًّا إن كان الإله موجود؟” لن يحاول الكاتب أن يجيب عن هذه الأسئلة، بدلاً من ذلك سيشرح بعض الصعوبات المنطقية المتأصلة في محاولة الإجابة عليها.

لسوء الحظ, الكثير من المجادلات تتناول مسألة وجود الإله بآراء مُحددة النتيجة سلفًا. فيجب على القارئ تقييم الأفكار بدون يقين العقل المُغلق، مع الوضع في الاعتبار جملة مارك توين الساخرة التي تقول:

“تكاد تكون مُعتقدات الناس وقَناعاتهم في الدين والسياسة جاهزة في كل قضية, تحصل على إجابات جاهزة, وبدون تفكير, إجابات جاهزة من رجال السُلطة الذين لم يفكروا في الأسئلة بدورهم وحصلوا عليها من أشخاص لم يحللوا تلك الإجابات بعُمق, تُعتبر آراءهم بلا قيمة”. (السيرة الذاتية لمارك توين)

جذور المنطق

تطبيق نظريات المنطق على تعريف الإله له جذور في مذهب العقلانية, الفلسفة التي ترى أن التجربة هي مصدر المعرفة الأسمى. ترسخت العقلانية في الفلسفة الغربية من خلال أعمال أفلاطون (424- 384 ق.م.)، ورينيه ديكارت (1596- 1650)، وباروخ سبينوزا (1632- 1677)، وجوتفريد لايبنتز (1646- 1716)، وعمانويل كانط (1724- 1804)، ومن خلال آخرين. بعض أنصار العقلانية, مثل سبينوزا ولايبنتز, قالوا إن الإنسان يمكنه أن يستنتج كل المعرفة الممكنة من مجموعة مناسبة من المسلمات, تمامًا كمسلمات الهندسة. لكن آخرين كـ ديكارت وكانط, رفضوا وقالوا إن المنطق العقلي والتجربة كليهما ضروريان للمعرفة.

في مذهب العقلانية هناك برهان بارز في مسألة وجود الإله, برهان الوجود, تم طرح البرهان حوالي عام 1078, وتم تعديله بواسطةالراهب أنسلم البندكتيني (1033- 1109), لاحقًا “استعار” ديكارت الجدلية. (للمزيد حول الموضوع, انظر The Proof of God: The Debate That Shaped Modern Belief, Larry Witham, 2008) وفي حين أن برهان أنسلم وافق عليه بعض الفلاسفة, لكن رفضه آخرون, من ضمنهم وليام الأوكامي (1287-1347) وكانط وشوبنهور (1788-1860). كان أحد أهم انتقادات المعارضين أن المنطق غير قادر على إجابة التساؤل عن وجود الإله, أو كما يمكن أن نقول الآن أن التساؤل عن وجود الإله أمر لا يمكن اليقين منه باستخدام علم المنطق وحده.

وعلى الرغم من تطبيقات المنطق في الحياة اليومية, فالعفلانية ليست المنهج الوحيد للمعرفة، خاصة في أديان الشرق. على سبيل المثال الزِن البوذية, يعتبر الغرض الأساسي من ممارسة التأمل في الكوان koan (وهي محاولة الإجابة عن سؤال لا معقول, مثلاً ‘ما هو صوت تصفيق اليد؟’) هو إنهاء طريقة التفكر العقلاني, وبالتالي ترك العقل منفتحًا لإجابات داخلية وذاتية أكثر. وبالمثل بالنسبة لسؤال عبثي مثل “هل الإله أيرلندي؟” فيعتبر سؤال غير منطقي كتساؤل الكوان, لا يمكن أن يتم الإجابة عليه بطريقة عقلانية. آخرون ليس عندهم صعوبة في إجابة سؤال “هل الإله أيرلندي؟”، وهم الذين يتفاخرون بشكل مبالغ فيه بتراثهم الأيرلندي, الإجابة هي “نعم” بلا شك لأن كلمة “الإله أيرلندي” هنا هي حشو كلام غير مقصود حرفيًّا، وعند آخرين الإجابة هي بلا شك “لا”. كيف يمكن للإله أن يكون أيرلنديًّا وهو من المعروف أنه يهودي أو إيطالي أو أمريكي, أو أيًّا كان أصل مُجيب السؤال؟ والإجابة هي “لا” أيضًا لمن لا يؤمنون بوجود إله. وبالنسبة لمعتنقي مذهب اللا أدرية, الذين يؤمنون, بأنه من المستحيل اليقين بأن هناك إلهًا أم لا, يظل السؤال غير منطقي. وربما يجد آخرون أن السؤال غير جائز شرعًا. مهما يكن ردك, يتحدى الكاتب أن تُثبت الإجابة منطقيًّا. لا تهم قوة إثباتك, لأن هناك سببين رئيسين يجعل كثيرين يرفضون صحته: هناك غموض في معنى “الإثبات” نفسه, ولا يوجد تعريف مُتفق عليه من الجميع للإله. على سبيل المثال في القضية السابقة, بعض الناس يرون أن شروق الشمس دليل على وجود الإله, بينما آخرون يرفضون ذلك كإجابة. في هذه المقالة, المقصود من “الإثبات” أن يكون مقبول من الناحية المنطقية (أو العقلانية), كإثباتات المسائل الرياضية والهندسية.

من هو الإله على أي حال؟

كل الجدالات سواء الموافقة أو الرافضة لوجود الإله فيها مشكلة متأصلة مشتركة: أنها جميعًا تفترض ضمنيًّا تعريف متفق عليه لتعريف الإله, مع أن التجربة الشخصية تشير إلى أنه ليس هناك تعريف واضح مُتفق عليه من الجميع.

تعريف الإله هو مسعى علماني. لأن الأديان لا تشغل نفسها كثيرًا بالتعريف الشكلي للكلمة. تعريف الإله يستبدل تعريف الأسطورة القديم والقداسة بالحدود والقيود. هذا معروف في حضارات عديدة قديمة. فـ آمون “المُحتجب”, كان قد أصبح أحد الآلهة الرئيسة في مصر القديمة, وطبيعة الإله الغامضة في اليهودية تتضح بواسطة حظر نطق اسم الإله, وفي ظل الإجابة التي قد تبدو مُبهمة التي رد بها الله على موسى لسؤاله “فإذا قالوا لي ما اسمه فماذا أقول لهم فقال الله لموسى اهيه الذي اهيه” (سفر الخروج 3:14) ومعناها “أنا هو أنا”. وفي الإسلام هناك 99 اسمًا لله, كل واحد منها هو صفة من صفاته. أحد هذه الأسماء هو “الباطن” أي بمعنى قريب لكلمة المُحتجب. الجانب المحتجب من الإله في هذه المُعتقدات تؤكد على صعوبة إيجاد تعريف للإله بشكل تنظيري واضح ودقيق. وتفضيل عدم تعريف الإله هو طريقة منتشرة تحافظ على القداسة مُعطية مساعدة غير مقصودة ربما لتفادي الدخول في المفارقات والمتاهات المنطقية. (هذه المفاهيم الأساسية في الأديان لا تقتصر على الأديان الغربية فقط. فعلى سبيل المثال في الداو دي دشينج الكتاب الذي كتبه مؤسس الديانة الطاوية وضح صراحة أن الداو والتاو لا يمكن لا وضع تعريف له ولا سبيل لذلك).

عندما يكون هناك تعريف للإله, دائمًا تجد التعريف صفات شاملة بدون حدود تعريفية محددة. على سبيل المثال “يمكن تصوره بالكامل, القاهر, مُنشيء العالم الكلي وحاكم الكون, له الإيمان الأسمى والعبادة في الأديان أحادية الإله”. لكثيرين يعتبر “الكامل”, “القاهر”, “كلي العلم”, أو أي صفات شاملة مثلها تعتبر كلما تنفسها جزء من معتقادتهم هم الشخصية عن الإله، لكن هذا يعتبر أصل المشكلة حين نحاول دراسة الإله باستخدام المنطق. تأمل سؤال برتراند راسل المتناقض الذي ردده كثيرًا, “هل يمكن للإله أن يخلق حجرًا عملاقًا بحيث لا يمكنه أن يحمله؟” ففي كلا الإجابتين “نعم” أو “لا” يناقض تعريف الإله ككلي القدرة.

هذه المفارقة المنطقية لا تخص قضية وجود الإله في حد ذاته, لكنها تخص فقط هذا التعريف له. لذلك يشكك الكاتب منطقيًّا في إدراج أي مصطلح مطلق, مثل القاهر أو كُلي العلم لتعريف الإله لأنها تؤدي غالبًا لمفارقات مماثلة. لو كان هذا صحيحًا, فعلى الأرجح أن ذلك لا يسمح ببناء منطق مُتسق (بمعنى آخر له معنى دقيق) لتعريف الإله. لأنه يضع الإله في موضع ما وراء الطبيعي من الناحية العلمية, كما يدعي كانط وآخرون.

لأي نظام تفكير هناك مفاهيم أساسية, في بعض الأحيان يطلق عليها “نظرية مبدأية”, مثل البديهيات التي تمت صياغتها ربما عن طريق الحدس الداخلي أو بالتجربة المباشرة. فلو كان مفهوم “الإله” شيئًا بديهيًّا, بدلاً من أن يكون مبنيًّا على أساس منطقي. فيكون التفريق بين مفهوم الإله ووجود الإله في حد ذاته أمرًا مهمًا جدًّا. لأن التفرقة بينهما نوعًا ما صعبة للأسف لأنه كما يقول الراهب أنسلم في جوهر برهانه, “في اللحظة التي يمكنني فيها الاعتراف بالله الكامل, يكون وجود الله الكامل”.

من أجل البرهان لنفترض أن الإله هو فكرة بديهية. مثل كيان يمكن وصفه جزئيًّا (لكن ليس تعريفًا كاملاً) عن طريق سرد بعض صفاته, مثل الأسماء الحسنى لله الـ 99 في الإسلام. الدين ليس وحيدًا (جزئيًّا) الذي يمكن أن يعرف الأشياء بسرد صفاتها. الأثير والثقوب السوادء كلاهما أيضًا أمثلة في العلوم. الأثير هو مفهوم استُخدم في فيزياء القرن التاسع عشر الذي يُعرف بصفته أن يكون الوسط الذي يسمح بنشر الضوء في الفضاء. والثقب الأسود هو منطقة في الفضاء ولها صفة بحيث لا شيء يمكنه الهروب منها, حتى الضوء. عدم وجود الأثير والثقوب السوداء بشكل ملموس متوافق عليه في العموم وفقًا للمراقبات والجدالات المبنية على نظرية النسبية. لكن في الحقيقة على الرغم من ذلك هناك أربعة أنواع من المناطق من صفاتها أنه لا شيء يمكنه الهروب منها. هذا يبين أن طريقة سرد الصفات ربما يسمح في النهاية باستنتاج أن شيئًا ما غير موجود, فلو لم يكن هناك شيء له تلك الصفات, لكنه لا يسمح لنا بأن نستنتج أن الشيء موجود: فأفضل ما يمكن استنتاجه أن ربما يكون هناك شيء ما يوافق الصفات المذكورة. الشيء نفسه يحتاج أن يُعرف بتفصيل أكثر. وأيضًا ربما يوجد أشياء أخرى لها نفس الصفات, وأيضًا أن يتصف شيء آخر بصفة من صفات الإله، شيء يرفضه كثيرون بشكل قاطع. وهذا يؤسس لسؤال بأنه هل يمكن بسرد مجموعة من الصفات تعريف إله مُتفرد, بدون استخدام الإطناب؟


تحميل المزيد