«هبوا للدفاع عن بلادكم وحماية الانتقال»، منشور صغير بكلماتٍ قليلة، كتبه محمد الفكي سليمان، عضو مجلس السيادة الانتقالي في السودان والرئيس المكلف للجنة تفكيك النظام السابق وإزالة التمكين واسترداد الأموال المنهوبة، على صفحته على «فيسبوك»، في 21 سبتمبر (أيلول)، قبيل صدور بيان من قيادة القوات المسلحة السودانية ومجلس السيادة الذي يرأسه قائدها العام الفريق أول عبد الفتاح البرهان، يُقر بإحباط محاولة انقلابية وأنّ الأوضاع أصبحت تحت السيطرة تمامًا.

Embed from Getty Images

توقيع اتفاقية الشراكة بين قوى الحرية والتغيير والمجلس العسكري

في وقت لاحق، كشف سُليمان، في مقابلة له مع التلفزيون الحكومي، في 24 سبتمبر، أي بعد إفشال المحاولة الانقلابية بثلاثة أيام، عن اتصال هاتفي أجراه معه رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان، قال له فيه إنّ «منشورك تسبب بمشكلة ورَبكة كبيرتين، وأنّ وجود الجمهور في الشارع يمكن أن يُسبب لهم مشكلة، خاصة أنه لم تجر السيطرة على الانقلاب بصورة كاملة» وطلب منه ومن بقية المدنيين عدم دعوة الناس للخروج إلى الشوارع حتى يتمكنوا من أداء عملهم.

هذا المنشور، كان القشة التي قصمت ظهر بعير العلاقة بين المكونين المدني والعسكري في مجلس السيادة، لتتأثر بها مُجمل العلاقة بين شركاء المرحلة الانتقالية في السودان التي تحكمها وثيقة دستورية جرى التوقيع عليها في أغسطس (آب) 2019، عقب أشهر من ثورة شعبية عارمة أطاحت نظام البشير؛ ليتحول الأمر إلى صراع وجودي، يحاول كل طرفٍ فيه إطاحة الآخر، أو تقليص نفوذه على الأقل.

انقلاب مشكوك فيه 

المحلل والباحث بمعهد الدراسات السياسية والدبلوماسية في الخرطوم محمود نورين، يقول لـ»ساسة بوست»: «بطبيعة الحال، لم تكن العلاقة بين الشركاء المدنيين والعسكريين جيدة، وإن كانت مستمرة بفعل الأمر الواقع، لكنّها تعرضت للكثير من العثرات خلال مسيرتها التي استمرت عامين وأكثر، قبل أن تبلغ ذروتها عقب الإعلان عن إجهاض محاولة انقلابية قام بها ضُباط من الدفعتين 39 و40 بالجيش السوداني، من داخل مقر سلاح المدرعات بضاحية الشجرة، جنوب الخرطوم، وقاعدة وادي سيدنا العسكرية، شمال مدينة أم درمان». 

ويضيف نورين: «لربما، لم تكن هناك محاولة انقلابية في الأصل، وإنما حالة تذمر أو تمرد محدود من بعض الضباط لأمور متعلقة بضعف الرواتب من ناحية، ووجود مليشيات وحركات مسلحة داخل العاصمة، موازية للجيش ومهددة له، ويحظى ضباطها وجنودها برواتب ومخصصات أفضل من نظرائهم في القوات النظامية الرسمية».

يضاف إلى ذلك الخلل الكبير الذي سببته المليشيات، وأبرزها قوات «الدعم السريع» بقيادة نائب رئيس مجلس السيادة، الفريق أول محمد حمدان دقلو، الشهير بـ(حميدتي)، وهو نفسه لم يحصل على هذه الرتبة العسكرية الكبيرة بالطريقة المعروفة عبر التراتبية العسكرية، ومما يعزز الشك في حدوث الانقلاب أن شوارع الخرطوم لم تشهد خروج المجنزرات إليها، ولم تقف المدرعات عند مداخل الجسور وأمام بوابات قيادة الجيش، كما جرت العادة في الانقلابات العسكرية بالسودان.

مدنيون موالون وثلاثة أهداف

يؤكد نورين حسب رأيه أن «المحاولة الانقلابية مصطنعة، وأراد العسكريون من خلالها تحقيق عدة مكاسب سياسية، أولها استعادة بريقهم الذي خبا بعد جريمة مذبحة اعتصام القيادة العامة في 3 يونيو (حزيران) 2019، التي ارتكبها المكون العسكري في مجلس السيادة حاليًا، بحق الثوار العُزّل الذين كانوا مُعتصمين حينها في ساحة القيادة العامة للجيش السوداني، وراح ضحيتها أكثر من 100 شخص، فيما جُرح المئات؛ وتسويق أنفسهم على أنهم حريصون على التصدي لأي محاولة انقلابية تعيد البلاد إلى الحكم العسكري مرة أخرى، وأنهم داعمون للانتقال الديمقراطي وللدولة المدنية».

وشدد نورين على أن العسكريين أرادوا، من خلال تصوير حالة التذمر المحدودة على أنها انقلاب كامل الأركان، تغيير الحاضنة السياسية المدنية بأخرى مقربة من العسكريين، وبعضها ذو طابع عسكري فعلي، مثل حركتي «العدل والمساواة» و«تحرير السودان»، (جناح مِنِّي أركو منّاوي).

Embed from Getty Images

لحظة توقيع اتفاق جوبا 

وهما حركتان تنتميان إلى إقليم دارفور، غربي السودان، رفعتا السلاح ضد نظام البشير، ووقّعتا مع الحكومة الانتقالية الحالية ما يعرف باتفاق «سلام جوبا» في أغسطس 2020، ولا تمتلك الحركتان برامج سياسية واضحة.

وتشكلت حركة «العدل والمساواة» عام 2001 من منسوبي إقليم دارفور في «الجبهة الإسلامية القومية» فيما تولى، مِنِّي أركو منّاوي، زعيم حركة «تحرير السودان» الموقعة على اتفاق «جوبا»، منصب كبير مساعدي الرئيس السابق البشير عقب توقيعه اتفاق سلام معه بالعاصمة النيجيرية «أبوجا» عام 2006، ليعود إلى التمرد بعد عامين من ذلك.

 وبالإضافة إلى دعم الحركتين، يستهدف العسكريون ولاء بعض الأحزاب التي كانت متحالفة مع نظام البشير حتى لحظة إطاحته 11 أبريل (نيسان) 2019، وبعض زعماء القبائل المنتمين للنظام السابق والمدعومين من المكون العسكري الحالي، وعلى رأسهم زعيم قبيلة «الهدندوة» بشرق السودان الذي يقود الاحتجاجات ضد الحكومة ويغلق الطرق الرئيسة والموانئ، ويطالب بإطاحة الحكومة المدنية، ويدعو الجيش إلى الانقلاب عليها، فضلًا عن طيف من قوى إعلان الحرية والتغيير نفسها، ممن لم يجدوا مواطئ أقدام في السلطة الانتقالية. 

يستطرد نورين أن الهدف الثالث من الترويج لمحاولة انقلابية فاشلة هو التغطية على حالة التشظي والتذمر داخل القوات المسلحة السودانية، إذ يخشى الضباط والجنود من طغيان العلاقة السياسية بين قائدهم وممثلهم في مجلس السيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان وبين قائد مليشيا «الدعم السريع» الفريق أول محمد حمدان (حميدتي)، بحيث تصبح هذه المليشيا (مضافٌ إليها قوات الحركات المسلحة، المتمردة سابقًا) أساس الجيش القومي، فيما يجري تذويبه فيها، وليس العكس كما تجري العادة دائمًا.

وتابع الباحث السياسي أن هذا ما أشار إليه رئيس الوزراء عبد الله حمدوك في بيان صدر عنه في يوليو (تموز) الماضي، أعرب فيه عن قلقه مما سمّاه التشظي داخل المؤسسة العسكرية، وكذلك أشارت مديرة الوكالة الأميركية للتنمية، «سمانثا باو» خلال زيارتها الخرطوم أغسطس 2021، إلى أنّ الولايات المتحدة تؤكد أن السودان يجب أن يكون لديه جيش واحد وتحت قيادة واحدة، وأن بلدها يدعم جهود المدنيين لإصلاح المنظومة الأمنية ودمج قوات الدعم السريع والمجموعات المسلحة للمعارضين السابقين في الجيش.

كيف يرى العسكر أنفسهم خارج الحكم؟

بحسب الوثيقة الدستورية فإن رئاسة مجلس السيادة ستنتقل من المكون العسكري إلى المدني بنهاية نوفمبر (تشرين الثاني) 2021، ولربما هذا ما يخشاه العسكريون؛ لأن فقدانهم لمنصب رئاسة مجلس السيادة الذي يتولاه عبد الفتاح البرهان حاليًا يجعل المدنيين يبسطون سيطرتهم الكاملة على المرحلة الانتقالية؛ ما يتيح لهم مساحة حرة وكاملة للتعامل مع عناصر النظام السابق الكامنة في المؤسسات العسكرية والأمنية وتفكيك خلاياهم، وإعادة هيكلة الشركات، والأعمال، والاستثمارات التابعة للجيش، ووضعها تحت إشراف وزارة المالية، وديوان المراجعة العامة، وبالتالي إخضاعها للرقابة الحكومية المباشرة.

وهذا ما يخشاه قادة الجيش ومليشيا «الدعم السريع» التي سارع قائدها وزعيمها حميدتي، إلى شن حرب كلامية على المكوّن المدني ووصفه بـ»المتسبب الرئيس في كافة المحاولات الانقلابية السابقة لعجزه عن إدارة البلاد ومعالجة الأزمة الاقتصادية والمعيشية وانشغاله بتقاسم المناصب دون العمل على إنقاذ البلاد من الأوضاع المزرية التي تعيشها».

Embed from Getty Images

ويخشى حميدتي من أن تولي المدنيين لرئاسة مجلس السيادة ستضع ولو بعد حين قواته على محك المراجعة والإصلاح والدمج تحت مظلة القوات المسلحة الرسمية، وبالتالي فقدانه للسيطرة على قواته، وكذلك يمكن أن يتعرض إلى مراجعة رتبته العسكرية التي منحها له الرئيس المخلوع عمر البشير، دون حصوله على الحد الأدنى من المؤهلات التي تخوّل له أن يصبح ضابطًا في الجيش، فهو لم يحصل على شهادات دراسية، وقد قاطع التعليم قبل أن يكمل المرحلة الابتدائية، ومن ثمّ لم يلتحق بالكلية الحربية، وكذلك الأمر مع السواد الأعظم من جنوده وضباطه؛ ما يعني تفكيك جيشه من أساسه.

وضع سياسي تحت سيطرة الجيش

الباحث بمعهد دراسات الأمن القومي النعيم ضّو البيت يقول لـ«ساسة بوست»: إن «المكون العسكري افتعل نزاعًا مع المدنيين لإنتاج وضع سياسي يتحكم فيه العسكريون عبر تغيير الحاضنة السياسية الحالية، بأخرى تدين بالولاء للعسكر، وتمكنهم من تنفيذ انقلاب ناعم على الوضع برمته، عبر دعم كبير من الحركات المسلحة الموقعة على اتفاق جوبا للسلام، والتي تنزع إلى تقاسم السلطة مع العسكر عبر حصص معلومة ومتفق عليها، بينما تخشى الآليات الديمقراطية التي تتناقض مع طبيعتها تمامًا».

إلاّ أن تحقُّق هذا الهدف يبدو صعب المنال، فالحكومة المدنية لم تزل تجد دعمًا شعبيًا كبيرًا، وسندًا قويًا من المجتمع الدولي الذي سارع بالتدخل عقب الأزمة الأخيرة؛ ما أجبر قادة المكوّن العسكري على التراجع عن تصريحاتهم العدائية تجاه المدنيين ومحاولتهم لتغيير الحاضنة السياسية المتمثلة في أحزاب قوى «إعلان الحرية والتغيير» التي وقّعت على الوثيقة الدستورية نيابة عن الجماهير المشاركة في الثورة.

Embed from Getty Images

تظاهرة ضد البرهان 

يضيف ضّو البيت: «في الأوضاع القائمة الآن لا يمكن لأي طرف تجاوز نقيضه أو الانقلاب عليه وتولي إدارة المرحلة الانتقالية منفردًا، فرغم هشاشة الأوضاع الأمنية والسياسية في السودان، إلا أن السودان بات محصنًا من الانقلابات العسكرية إلى حدٍ كبير، فوجود نحو ستة جيوش على الأرض، يحول دون مغامرة القيام بانقلاب عسكري، ستكون نتيجته الحتمية هو تفكيك السودان إلى دويلات وحرب ضروس ذات طابع عرقي وجهوي». 

وتابع: «إذا كان تفكك السودان هو النتيجة الحتميّة لأي انقلاب، فما الذي يجعل أحدهم يغامر ليحكم اللا شيء؟ ولعل هذه النتيجة المحتملة، هي ما جعلت كل المحاولات الانقلابية السابقة، سواء كانت حقيقية أو زائفة، تبوء بالفشل، وهذا ما سيحدث للقادمة أيضًا» حسب ترجيحه.

جدل المادة السابعة

يدور مركز الصراع بين العسكريين والمدنيين حول رئاسة مجلس السيادة الذي يتولاها الآن الفريق أول عبد الفتاح البرهان، بانتظار انتهاء فترته ليحل مكانه شخصية يختارها المُكوّن المدني، وهنا يدور جدل قانوني ودستوري كبير في الساحة السياسية السودانية، خاصة بعد التعديلات التي طرأت على الوثيقة الدستورية مع اتفاق جوبا للسلام بين الحكومة الانتقالية وبعض الحركات المسلحة التي تمردت على نظام عمر البشير، وتوقفت عن القتال بعد إطاحته.

المستشارة القانونية والمحامية حرم حسنين، تقول لـ«ساسة بوست»، إنّ التفسير القانوني والدستوري لهذا الجدل، يتلخص في الآتي: ينص البند (واحد) من المادة (السابعة) من الفصل الثاني بالوثيقة الدستورية والمُدرجة تحت عنوان الفترة الانتقالية، على أن تكون مدة الفترة الانتقالية 39 شهرًا ميلاديًا، تسري من تاريخ التوقيع على هذه الوثيقة الدستورية 17 أغسطس 2019.

وأضافت حرم أن البند (ثلاثة) من المادة (الحادية عشر) في نفس الفصل ينص على أنْ: يرأس مجلس السيادة في الواحد وعشرين شهرًا الأولى للفترة الانتقالية من يختاره العسكريون، ويرأسه في الثمانية عشر أشهر المتبقية والتي تبدأ في السابع عشر من شهر مايو (أيار) 2021، عضوًا مدنيًا، أي 21 شهرًا للعسكريين، و18 شهرًا للمدنيين.

Embed from Getty Images

عبد الفتاح البرهان وعبد الله حمدوك

وتوضح حسنين أن اتفاقية جوبا للسلام التي جرى توقعيها مع بعض الحركات المسلحة في عاصمة جمهورية جنوب السودان، عدّلت المادة (السابعة) بإلغاء البند الأول منها، والاستعاضة عنه ببند آخر جديد من خلال النص الوارد فيها بالصيغة التالية: يُلغى البند (واحد) من المادة (السابعة) بالوثيقة الدستورية ويستعاض عنه بالبند الجديد الآتي: (واحد) تبدأ الفترة الانتقالية من تاريخ التوقيع على الوثيقة الدستورية وتمدد ليبدأ حساب التسعة وثلاثين شهرًا من تاريخ التوقيع على اتفاق جوبا للسلام».

أي ابتداءً من الثالث من أكتوبر (تشرين الأول) 2020، فيما تُرك البند (ثلاثة) من المادة (الحادية عشر) بالوثيقة الدستورية كما هو دون تعديل، بمعنى أنّ رئاسة المجلس السيادي سيجري تداولها خلال 39 شهرًا على النحو الموضح في المادة (الحادية عشرة)، أي 21 شهرًا للعسكريين، و18 للمدنيين؛ ابتداءً من تاريخ التوقيع على اتفاق جوبا، حسب توضيحها.

وتؤكد المستشارة القانونية أنه بهذه الصيغة الجديدة فإن فترة تولي العسكريين رئاسة المجلس السيادي ستنتهي في يوليو (تموز) 2022، ثم تؤول للمدنيين لمدة 18 شهرًا، تنظم بنهايتها انتخابات عامة أي في يناير (كانون الثاني) 2023.

البرهان: لا حل إلاّ حل الحكومة

في تطور لاحق قال رئيس مجلس السيادة الانتقالي بالسودان، عبد الفتاح البرهان، 11 أكتوبر 2021، لدى مخاطبته قيادات عسكرية في المنطقة العسكرية في مدينة بحري شمالي العاصمة الخرطوم، إنّه لا حل للأزمة السياسية الراهنة في البلاد إلاّ بحل الحكومة الحالية وتوسيع قاعدة المشاركة في الحكم، الأمر الذي سيفاقم من الأزمة بين المدنيين والعسكريين.

وفي هذا السياق، قال المحلل السياسي والصحافي بالصحيفة اليومية «الحداثة السودانية» محمد عبد الباقى فضل السيد، لـ«ساسة بوست»، معلقًا على تصريح البرهان اليوم، إنه لم يأت بجديد، فقد ظل هو ونائبه محمد حمدان دقلو (حميدتي) يرددان هذا الحديث منذ تصاعد الأزمة السياسية في البلاد عقب الانقلاب الأخير، وإن كان يعني شيئًا فهو يشي باستمرار الأزمة وانسداد الأفق أمام إيجاد حل أو تسوية لها في القريب العاجل، غير ذلك فهو تصريح مستهلك كُرر كثيرًا خلال الأسابيع المنصرمة.

المصادر

تحميل المزيد