خلال جولات المفاوضات الأخيرة بين المسؤولين الروس والأوكرانيين، في محاولة لوقف الحرب التي يشنها الروس على جارتهم منذ أسابيع، أثيرت مسألة تبني أوكرانيا نموذجًا «محايدًا»، وطرح الروس النموذج السويدي كمثال يُحتذي به، حيث أوضح المتحدث باسم الرئاسة الروسية دميتري بيسكوف «أن حياد أوكرانيا على نسق السويد أو النمسا الخيار الذي يناقش حاليًا، والذي يمكن اعتباره تسوية».

وبرغم رفض المسؤولين الأوكرانيين الرسمي لهذا الحل حتى الآن، فإن العديد من الأسئلة تُثار حول طبيعة الحياد السويدي، وجذوره، وعن قابلية هذا النموذج للاستمرار في ظل الاستقطاب العالمي الحالي.

السويد قوة عظمى في شمال أوروبا

تعود بدايات التاريخ الإمبراطوري للسويد إلى القرن الثامن الميلادي، حين بدأت هجمات شعوب الفايكنج، الذين استوطنوا البلاد إلى المناطق المحيطة، وصولًا إلى ساحل بحر البلطيق، والبحر الأسود، وبحر قزوين، وقد كون الفايكنج روابط تجارية قوية مع الممالك العربية، والإمبراطورية البيزنطية، وبعد مرور نحو ألف عام من الميلاد كانت معظم المقاطعات السويدية قد توحدت تحت تاج واحد، وقد بدأ التاج يكتسب نفوذا متزايدًا منذ أواخر القرن الثالث العشر.

في عام 1389 تمكنت ملكة الدنمارك مارغريتا من توحيد الدنمارك، والنرويج، والسويد، تحت تاج واحد، لكن هذا الاتحاد شهد العديد من الصراعات الداخلية بلغت ذروتها عام 1520، عندما جرى إعدام 80 من النبلاء السويديين بتحريض من ملك الاتحاد الدنماركي، كريستيان الثاني. وهو ما أثار تمردًا سويديًا أدى عام 1521 إلى خلع كريستيان الثاني، وجرى تتويج أحد النبلاء السويديين، جوستاف فاسا، ملكًا على البلاد عام 1523، وهو الملك الذي وضع أسس دولة سويدية قوية، حيث جرى تأميم الكنيسة، وصادر التاج ممتلكاتها، وأدخل الإصلاح البروتستانتي في البلاد.

تمكنت المملكة السويدية من توسيع نفوذها، عندما انخرطت في حرب الثلاثين عامًا، التي استمرت بين أعوام 1618 إلى 1648 في كافة أرجاء أوروبا، بين الكاثوليك والبروتستانت، وقضى في تلك الحرب نحو 12 مليون أوروبي، تمكنت السويد حينها من هزيمة الدنمارك، وضم فنلندا، ومقاطعات شمال ألمانيا، وجمهوريات البلطيق الحالية (إستونيا، ولاتفيا، وليتوانيا)، ومع نهاية الحرب أضحت السويد قوة عظمى في شمال أوروبا.

أثار توسع النفوذ السويدي في المنطقة حفيظة الدول المجاورة، فحظرت السويد وصول الروس إلى بحر البلطيق، كما استاءت الدنمارك والنرويج من خسارتها مقاطعات شبه الجزيرة الإسكندنافية، كما كانت قوة السويد تسبب غضب الدنمارك، وأمراء المقاطعات الألمانية، وبين عامي 1700 و1721 اندلعت «حرب الشمال الكبرى»، التي تحدت فيها روسيا، والدنمارك، والنرويج، وساكسونيا، وبولندا، النفوذ السويدي في منطقة البلطيق؛ ما أدى إلى تراجع نفوذ السويد وخسارتها للكثير من الأراضي لصالح التحالف المناهض لها.

السويد تُعلن نفسها «دولة محايدة»

شهدت أوروبا من بدايات القرن التاسع عشر منذ بدايات القرن التاسع عشر ما عرف باسم «الحروب النابليونية» التي خاضتها فرنسا نابليون ضد مجموعات متغيرة من تحالف القوى الأوروبية، شاركت السويد في الحروب النابليونية، حيث اتبع الملك السويدي غوستاف الرابع أدولف سياسة مناهضة لفرنسا، وهي السياسة التي كانت وبالًا على السويد، حيث نتج عن مشاركة السويد في الحرب الفنلندية (1808 – 1809) خسارة السويد لأكثر من ثلث أراضيها، بما في ذلك خسارة فنلندا لصالح الإمبراطورية الروسية.

تصاعد الاستياء ضد سياسة غوستاف الرابع أدولف، الذي أطيح به في انقلاب عام 1809، وصعد بابتيست برنادوت إلى العرش، ليتبنى البداية سياسة مختلفة عن سابقه، حيث تقارب مع الإمبراطور الروسي، وأقر بالسيادة الروسية على فنلندا (دامت حتى عام 1917 حيث نالت فنلندا استقلالها)، وكان برنادوت في مقدمة الجيوش الأوروبية التي تصدت لنابليون، كما استطاع إجبار الدنمارك على التنازل عن النرويج لصالحه بموجب «معاهدة كيل» عام 1814.

كانت تلك المعارك هي آخر حروب السويد في القرن العشرين، صاغ برنادوت سياسة خارجية ستسير السويد على نهجها طيلة أكثر من قرنين من الزمان، والتي ستُعرف باسم «سياسة الحياد السويدي»، أو «سياسة عام 1812»، فمنذ ذلك الوقت امتنعت السويد عن المشاركة في أي حروب مسلحة، والتزم التاج السويدي بمبدأ الحياد وعدم الاصطفاف إلى جانب أي من الأطراف المتصارعة، وهي السياسة التي دامت حتى اليوم.

خلال الحرب العالمية الأولى، كان السويديون مشتتين بين مشاعر التعاطف مع الإمبراطورية الألمانية، والعلاقات التجارية القوية التي جمعت السويد بكل من إنجلترا وفرنسا، في النهاية زاد اقتناع السويديين بأن سياسة عدم الانحياز هي الأنسب لبلادهم، خاصة بعد أن ظلت الدنمارك والنرويج على الحياد خلال الحرب.

Embed from Getty Images

 التزم الجيش السويدي مبدأ الحياد طوال قرنين من الزمان

ظلت السياسة الخارجية السويدية الرسمية على مبدئها كدولة «غير محاربة» خلال الحرب العالمية الثانية، لكن ذلك لم يمنع اصطفافها بشكل غير مباشر في بعض الأحيان إلى جانب أحد الأطراف، كانت العلاقات التاريخية الوثيقة التي تجمع بين السويد وفنلندا (حيث كانت الأخيرة جزءًا من السويد لفترات تاريخية طويلة) إلى دعم الحكومة لآلاف المتطوعين السويديين الذين انخرطوا في القتال إلى جانب فنلندا ضد الاتحاد السوفيتي.

كما استمرت السويد في تبادل تجاري كثيف مع ألمانيا، بما في ذلك تمكين الألمان من الحصول على خام الحديد السويدي الذي كان عماد الصناعات العسكرية النازية، ومع ذلك فقد مكن موقف «الحياد» الذي أعلنته الحكومة السويدية البلاد من استضافة أعداد كبيرة من اليهود الذين هربوا من المذابح النازية، ووجدوا في السويد والدنمارك والنرويج ملاذًا آمنًا لهم.

هل تتزحزح ستوكهولم عن حيادها التاريخي؟

بعد نهاية الحرب العالمية الثانية 1945 انقسم العالم إلى كتلتين: شرقية، وغربية، وفي حين كانت الدنمارك والنرويج من بين الدول المؤسسة لـ«حلف شمال الأطلسي (الناتو)» عام 1949، فقد استمرت السويد في التزامها بمبدأ الحياد التاريخي، لكن هذا الحياد لم يكن مطلقًا على كل حال، لم تنضم السويد إلى «الناتو» لكن السياسة العسكرية والأمنية لستوكهولم لم تستبعد التقارب مع الغرب، دون إثارة غضب ستالين.

تخلت السويد عن الكثير من حذرها بعد سقوط الاتحاد السوفيتي قبل ثلاثة عقود، انضمت البلاد رسميًا إلى الاتحاد الأوروبي منذ عام 1995، وتعزز التعاون العسكري والاستخباراتي مع الولايات المتحدة، وقد شاركت القوات المسلحة السويدية في العديد من عمليات «حفظ السلام» ضمن إطار الناتو في العراق وأفغانستان، وفي عام 1914 صنف الناتو السويد ضمن مجموعة الدول «الشركاء» للحلف، أي التي تتعاون معه دون الاستفادة من القاعدة الأساسية للناتو، أي الالتزام بالدفاع الجماعي.

وفي أواخر عام 2014 رصدت السلطات السويدية ما اشتبهت أنه غواصة روسية متربصة قبالة ستوكهولم. جاء ذلك بالتزامن مع استيلاء الروس على شبه جزيرة القرم، وهو ما دق أجراس الإنذار بين السويديين، ودفع القادة السياسيين والعسكريين في البلاد إلى التفكير في تعزيز العلاقات مع الغرب، لمواجهة خطر روسي محتمل، وفي سبتمبر (أيلول) 2017 قررت ستوكهولم رفع ميزانيتها الدفاعية بنسبة 5%. كما أعادت التجنيد الإجباري مؤخرًا لإعادة جيشها إلى قوته الكاملة.

ولا تتمتع السويد بقدرات عسكرية كبيرة، ولا يمكن للجيش السويدي – بالحسابات المنطقية – الوقوف في وجه أي عدوان روسي محتمل، ويحتل الجيش السويدي المركز 25 بين تصنيف «جلوبال فاير باور» لأقوى الجيوش العالمية، ولا يزيد عدد الجنود العاملين فيه عن 40 ألف جندي، وتمتلك حوالي 200 طائرة بينها 71 مقاتلة فقط.

ويبدو أن الغزو الروسي الأخير لأوكرانيا أثار الذعر بدرجة كبيرة بين الدوائر السياسية والشعبية السويدية، ودفع ستوكهولم إلى الاقتراب أكثر من أي وقت مضى من المعسكر الغربي، والتخلي عن سياسة «الحذر» التاريخية التي ميزت العسكرية والدبلوماسية السويدية، حيث سارع الجيش السويدي إلى إرسال شحنات أسلحة ضخمة إلى أوكرانيا، كما تتزايد في الوقت الحالي الدعوات الشعبية التي تطالب الحكومة السويدية بالتوجه غربًا، والسعى إلى طلب عضوية «الناتو» الكاملة، حتى لا يتكرر السيناريو الأوكراني على الأراضي السويدية بعد سنوات قليلة.

المصادر

تحميل المزيد