ظلت سويسرا منذ عام 1848 وحتى عام 2020 على خطاها الثابتة من الهدوء والسلم، ونعم مواطنيها بديمقراطية مباشرة جعلتهم يدعون لأكثر من 550 استفتاء منذ تأسيسها.
كان عام 1848 عامًا مفصليًّا في تاريخ إحدى أشهر دول العالم حاليًا، سويسرا، لكن ما حدث في ذلك العام لم يُولد من العدم ولم ينتهِ إلى العدم، فشعلة الديمقراطية التي اشتعلها الثوار في ذلك العام ظلت شراراتها تتراكم على مدى قرابة 600 عام، وبالرغم من أنه في عام 1848 قد أُعلن رسميًا عن الطابع الفيدرالي لسويسرا، الذي جعلها أولى الديمقراطيات في تاريخ أوروبا الملكية، إلا الكونفدرالية السويسرية كانت تعاني من إرهاصات ذلك الإعلان منذ عام 1291.
وإذا كان المؤرخون يُقسمون التاريخ السويسري إلى حقبتيّن كبيرتيّن، ما قبل 1848 وما بعده، فإنه من الممكن تقسيم حقبة ما قبل 1848 إلى خمس حُقب تاريخية شهدت صراعات عدة ساهمت في نضوج الوعي الشعبي بالديمقراطية والرغبة في الاستقلال.
تبدأ تلك الحُقب بتاريخِ يقع ما بين أعوام 1200 إلى 1400، وأغلب الروايات تقول إنه عام 1307 تحديدًا. شهد ذلك العام طرد الإقطاعيين النمساويين من سويسرا، وتقول الأسطورة السويسرية إن جيسلر، حاكم هابسبورج، أجبر فيلهلم تل أن يرمى سهمًا على تفاحةٍ موضوعة أعلى رأس ابنه. نجح تل في ألا يقتل ابنه وأصاب التفاحة، لكن لم ينسها لجيسلر فقتله لاحقًا.
لكن التاريخ التقليدي الذي يكثر استخدامه في الأدبيّات السويسرية هو عام 1291، ويُعتبر هو التاريخ الرسمي لتأسيس الكونفدرالية السويسرية.
في ذلك التاريخ اجتمع ثلاثة ممثلين عن الكانتونات (التقسيمات الإدارية) السويسرية الثلاثة الكبار، واتفقوا سويًا على الدفاع عن أنفسهم ضد سيادة آل هابسبورج، ووثّق هذا التحالف باسم الميثاق الدائم أو الميثاق الاتحادي.
لم يكد عام 1400 أن يظلل سويسرا حتى انضمت أربعة كانتونات أخرى للميثاق الاتحادي، فأصبحت سبع مقاطعات قوية في مواجهة السيادة النمساوية، ثم دخلوا جميعًا في معركة سيمباخ ضد آل هابسبورج، وانتصروا فيها، فزادت استقلاليتهم داخل الأراضي الرومانية المقدسة.
بعد 100 عام أخرى من هزم السويسريون رابطة شابفان، اتسعت رقعة سلطتهم وزادت استقلاليتهم حتى حصلوا على الحصانة من المحاكم الإمبراطورية وأعفوا من الضرائب التي تفرضها الإمبراطورية.
العنقاء تحرق نفسها.. وتُبعث من جديد
بدأت العنقاء السويسرية، المناضلة ضد الاستعمار الإمبراطوري، في الالتفاف حول نفسها، حتى أوشكت أن تخنق نفسها بنفسها.
في عام 1523 تبنت زيورخ الديانة البروتستناتية وانضم إليها كانتونان، بينما ظلت الأربعة كانتونات الأخرى على الكاثوليكية، وبما إن كل مذهب منهما يجعل من وجود الآخر غير قانوني، فلم يعد أمام الطرفين من التقسيم مفر، وعُقد الاجتماع البروتستناتي الأول في أراو، وجرى الاجتماع الكاثيولكي الأول في لوسيرن، لكن المفاجأة أنه يمكن القول إن الاتحاد الفيدرالي قد نجا، فقد انقسمت المذاهب، لكن ظل الموقف الإجمالي للاتحاد الكونفدرالي تجاه أعدائه، وفي سياساته الخارجية واحدة.
من الخطأ التصور بأن سويسرا تطورت من خلال مقاومتها العسكرية للإمبراطورية الرومانية؛ لأنه في تلك الحقبة التاريخية لم يكن لطبقة اجتماعية أو لوحدة سياسية أن تصمد ما لم تكن محميةً من جهة أعلى، لكن في حالة سويسرا كانت هي الجهة العليا التي تحمي نفسها؛ لأنها كانت دولةً جبلية فقيرة لا يمكن أن يمدها أي أحد من الخارج بالحماية؛ لأنها ليس لديها ما تقدمه.
وحين توهمت سويسرا أنها قادرة على مناطحة العالم الخارجي مختبئةً خلف الإمبراطورية الألمانية، التي اعتمدت على الحبوب الغذائية السويسرية في الفترة ما بين أعوام 1515 إلى 1653، أفاقت السويسريون على حقيقة أن الفلاحين مقيدين بالديون لبعضهم وللتجار وللدول الأخرى، ولم تدفع ألمانيا لهم أو عنهم شيئًا.
حينها، رأى السويسريون ضرورة الانعزال عن العالم المزعج والالتفات إلى الداخل، وأن تتحول بلادهم إلى جزيرة سياسية معزولة عما يحدث في باقي العالم.
حتى في اللحظات المظلمة التي عانت فيها أوروبا الهلاك والخراب بسبب الحروب، ظلت سويسرا واحةً للسلم والحياد، ليس لشيء، إلا أن القوى الأوروبية المتناحرة كانت تعتمد في حروبها على المرتزقة السويسرين، فلم تسمح أية قوة بأن تقع سويسرا في يد القوة الأخرى. لكن لا يعني ذلك أن القوى الأوروبية كفّت يدها تمامًا عن الأراضي السويسرية، بل حاولت السيطرة عليها عبر استخدام بعض القادة المرتزقة.
نجحت تلك المحاولات في إثارة قلاقل داخلية، لكنها لم تكن كافية للفتك بالاتحاد السويسري.
نابليون يقهر السويسريين ويهديهم الحضارة
لم يستطع أن يُخضع السويسريون الغاضبون سوى نابليون بونابرت، إذ غزاها وحوّلها لحليف له تحت اسم جمهورية هيلفتك عام 1798، ووضع على رأسها حكومة مركزية همّشت دور الكانتونات تمامًا.
شهدت سويسرا بعض التحديثات والتطور في الحقبة النابلونيّة، لكنها شهدت تراجعًا ضخمًا فيما يخص الحريات، وتدخل الفرنسيون في كافة شئون السويسريين الداخلية.
رفضت سويسرا بالكامل التدخل الفرنسي، إلا أن المناطق الكاثوليكية كانت أشد مقاومةً، لكن لم يشكل ذلك فارقًا، فكلما قامت انتفاضة سحقها نابليون، حتى الانتفاضة المسلحة التي قام بها السويسريون قمعها الفرنسيون. تراكم القمع جعل الأفكار الثورية ذاتها تنزوي حتى كادت تختفي من الوعي الشعبي، وفقد السويسريون الديمقراطية المحليّة، وفُرضت عليهم الضرائب، وأجبرهم الفرنسيون على الحرب لصالحهم.
دمرت الحملات النابلونية العديد من المحليّات السويسرية، لكن في عام 1803، وقع نابليون مع الكانتونات قانونًا للوساطة؛ يمنحهم بموجبه بعضًا من سيادتهم مرةً أخرى. وفي مؤتمر فيينا عام 1814 اعترفت القوى الأوروبية بالحياد السويسري الدائم، ونالت سويسرا استقلالها رسميًا وانضمت إليها كانتونات جديدة زادت مساحتها الجغرافية للمساحة المعروفة حاليًا.
أصبحت الكانتونات 19، واجتمع مندوبوها في 6 أبريل (نيسان) 1814 ليضعوا سويًا الدستور الجديد لسويسرا، ولم يكن من الممكن تأسيس سويسرا محايدة بعد زوال نابليون إلا بمساعدة مؤتمر فيينا.
من جديد.. حرب أهلية سويسرية
يبدو أن عادة سويسرا أنها إذا لم تجد عدوًا تقاتله قاتلت نفسها، ابتدأ الأمر بكون الحزب الديمقراطي السويسري الحر قويًا في الكانتونات البروتستاتنية، بالتالي فاز بالأغلبية في البرلمان الفيدرالي. واقترح الحزب دستورًا جديدًا يربط بين الكانتونات بشكل أعمق وفتح حرية التجارة والحفاظ على حالة الإصلاح الدائمة، لكنه أيضًا اتخذ إجراءات صارمة، بموافقة أغلب الكانتونات، ضد الكانتونات الكاثوليكية، فأمر بإغلاق الأديرة والاستيلاء على ممتلكاتها.
منحت القرارات الرسمية غطاءً لمعتقني البروتستانتية كي يهاجموا الكاثوليك، خاصةً في المناطق الريفية التي تُعتبر معقل الكاثوليك، وتحديدًا المتشددين منهم. أمر البرلمان بحلّ السوندربوند، وهو تحالف الكانتونات الكاثوليكية، فاشتعلت حرب أهلية صغيرة بين الطائفتين.
لم تكن الحرب في صالح الكاثوليك الذين كانت أعدادهم أقل من 100 ألف فرد، لا جنود فيهم، ولا ضباط عسكريين أو جنرالات مدربين.
انتهت الحرب الأهلية السويسرية عام 1848، بعد 20 عامًا من القتال، وبعددٍ قليل من الضحايا بلغ 130 قتيلًا، لكن المنتصرين كانوا كرماء مع المهزومين فسمحوا لهم بالفرار، ومن بقى منهم دخل في حلفٍ مع البروتستانت ونظموا دستورًا جديدًا أقرب لنظام الولايات المتحدة الأمريكية، وبُنيت الدولة السويسرية الفيدرالية التي نعرفها اليوم على مبادئ حقوق الإنسان الفرنسية، والفلسفة الألمانية المتعلقة بسيادة القانون الصارمة، وقواعد النفعيّة الإنجليزية التي تبيح أي شئ طالما يُدر دخلًا ويخضع لقوانين الدولة.
في كل الصراعات السابقة ظلت القضايا الوطنية الكبرى تحت سيطرة البرلمان الوطني غير متأثرة بالصراعات المحلية، ولاحقًا صوّت السويسريون لصالح الدستور الجديد، الذي وافق عليه مليونا شخص في مقابل 300 ألف رافض، فعاد الهدوء لسويسرا مرةً جديدة.
وضعت الحرب الأهلية والدستور الفيدرالي الجديد الدولة السويسرية على طريق التقدم والتطور، فشهدت البلاد تحسنًا اقتصاديًا واجتماعيًا كبيرًا.
وانشغلت الكانتونات باللحاق بالثورة الصناعية، خاصةً أنها كانت بلدًا ريفيةً من الطراز القديم. كما كانت من أوائل الدول التي فتحت مجال التعليم الطبي أمام الفتيات، وشهدت أكبر نسبة في أوروبا للسيدات العاملات عامةً، وفي مصانع الغزل والنسيج خاصةً.
سويسرا تختبأ من الحروب العالمية
حافظت سويسرا على هدوئها، حتى في لحظة اشتعال العالم بالحروب العالمية من عام 1914 إلى عام 1945، احترم العالم حيادها، ولم يجرّها للحرب بأية صورة.
حاول النازيون السويسريون أن يضموا سويسرا للرايخ الألماني، لكن فشلت محاولاتهم، فالتراث السويسري متعدد الثقافات ومتوحد الهوية جعل الشعب متمسكًا بهويته الوطنية والقومية. وظلت سويسرا وسيطًا بين الحلفاء والمحور، تتاجر مع الطرفين، وتبيع ساعاتها المشهورة وحوامل الجواهر التي تُستخدم في حمل القنابل.
هذا الهدوء جعل سويسرا تشهد مزيدًا من الازدهار حتى عرفها الأوروبيون باسم المعجزة السويسرية، وكان الفرنك السويسري هو العملة الوحيدة الممكن تناقلها بين دول الحلفاء والمحور بسلاسة وهدوء.
وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية ودخول العالم مرحلة الحرب الباردة، فكرت سويسرا في امتلاك قنبلة نووية خاصة بها كي تضمن لها السلام للأبد.
آنذاك، كانت سويسرا تمتلك العقول القادرة على تحقيق حلمها النووي، لكن البرلمان لم يُخصص موارد مالية كافية للمشروع النووي، وتوقف التمويل نهائيًا عام 1968 لحظة التوقيع على اتفاقية عدم الانتشار النووي، ثم بعد 20 عامًا أعلنت سويسرا تخليها عن كافة الخطط بخصوص المشروع النووي.
100 ألف مواطن يمكنهم الدعوة لاستفتاء شعبي
يتألف المجلس الاتحادي السويسري حاليًّا من أربعة ممثلين ينتخبهم البرلمان، من حزب الديمقراطيين الأحرار بروتستانتي المذهب، والديمقراطي المسيحي كاثوليكي التوجه، والديمقراطيين الاشتراكيين يساري النزعة، وحزب الشعب يمينيّ الميول، ويعكس هذا التشكيل القوى السياسية جميعها؛ مما يجعل وجود معارضة من البرلمان لقرارٍ توافق عليه الأربعة أمرًا نادرًا.
يمتاز النموذج السويسري بأن التغيير يمكن أن يأتي من قمة الهرم أو من قاعدته، فالغضب الشعبي والإرادة الجماهرية دائمًا ما تُترجم لاستفتاءات رسمية.
في 26 نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1989، شهدت سويسرا تصويتًا شعبيًا على مبادرة تطالب بإلغاء الجيش تمامًا، المبادرة التي أطلقها تجمع «سويسرا بدون جيش» لاقت صدى واسعًا أجبر المسئولين على عرضها للتصويت الشعبي، وكانت نتيجة التصويت موافقة 36% فقط من الناخبين على تلك المبادرة؛ ما يعني رفضها رسميًا.
اعتبرت النخبة العسكرية الأمر انتصارًا لها، لكن سرعان ما اكتشفت المفاجأة؛ إذ تغيرت النظرة الشعبية التقديسية للجيش بسبب المبادرة والاستفتاء؛ مما أدى لتغير المعاملة التي يحصل عليها الجيش من الشعب ومن القيادات السياسية.

تظاهرة لتجمع «سويسرا بدون جيش» للمطالبة بحظر تصدير المواد الحربية للخارج. المصدر: GSoA
لذا فعندما قامت المبادرة مرة أخرى بالدعوة إلى حظر تصدير المواد الحربية للخارج، جاء الرد الرسمي سريعًا وحاسمًا بوضع قواعد صارمة تنظم عمليات تصدير الأسلحة للخارج. لكن ذلك لم يمنح السلطة حق منع الدعوة لاستفتاء شعبي على المبادرة، وعُقد الاستفتاء في منتصف التسعينات، ووافق عليه 20% فقط من الناخبيين، أما الآخرون فقد رأوا أن القواعد الجديدة كافية.
وهنا يجب الإشارة إلى أنه – بموجب القواعد السويسرية التي وضعت عام 1891 – يمكن لـ100 ألف ناخب أن يدعوا لاستفتاء شعبي، ويمكنهم أيضًا أن يجروا تعديلًا على الدستور الفيدرالي.
ومنذ وضع تلك القاعدة شهدت البلاد إطلاق أكثر من 400 مبادرة شعبية، وصل منها لمرحلة التصويت 209 مبادرة، رفض الناخبون 90% منهم، أما باقي الـ400 فلم يصلوا للتصويت، إما لقيام أصحابها بسحبها أو لفشلهم في جمع التوقيعات اللازمة، أو لأن الدولة سنت قوانين وسطية بين ما يريده أصحاب المبادرة وما يريده رجال الحكومة.
من المؤكد أن الجنة السويسرية الديمقراطية لا تسر الكثيرين، فغالبًا ما تكون المبادرات الشعبية على غير هوى رجال الحكومة والسياسيين، لهذا يمكن فهم لماذا لا يوجد في غالب الأحيان ترحيبًا رسميًا بالمبادرات الشعبية، بل الأدق أنهم غالبًا ما يتوجسون منها بسبب احتمالية قيام الشعب بتعديل دستوري ما يُفسد خطة الحكومة في قضية معينة. وإذا لم تجد الحكومة بدًا عن حدوث الاستفتاء فإنها تضع مقترحات برلمانية مضادة لمضمون المبادرة أو للتخفيف من أثارها حال الموافقة الشعبية عليها.
بالرغم من هذا ظلت سويسرا منذ عام 1848 وحتى عام 2020 على خطاها الثابتة من الهدوء والسلم؛ مما يعني قرابة 172 عامًا من التطور التاريخي الثابت دون عوائق ضخمة أو تغيّرات حادة، في حالةٍ فريدة لا تتشابه مع أية حالة أخرى في تاريخ أوروبا بأكملها؛ إذ شهدت سويسرا على مدار تاريخها أكثر من 600 اقتراع فيدرالي في رقمٍ قياسي عالمي، ليصبح مواطنوها أبطال العالم في الاستفتاءات.