بطريقةٍ لا تخلو من الشعور بالإنجاز، أعلنت منظمة حظر الأسلحة الكيماوية، الخميس الماضي، أن نحو 90 بالمائة من مخزونات الأسلحة الكيمياوية في العالم قد دُمِّرت، معتبرةً ذلك “مرحلة أساسية” في إطار تخليص العالم من هذا النوع من الأسلحة.

وتُشير التصريحات المُرفقة أنه قد تم تدمير نحو 63 ألف طن من الأسلحة الكيميائية المعلن عنها غالبيتها من روسيا والولايات المتحدة، بما في ذلك أيضًا نحو 1300 طن من الأسلحة الكيماوية التي سلمتها السلطات السورية.

نستعرض هنا بشكل موجز الحكاية السوريّة مع الأسلحة الكيماوية.

الغاز السام منذ 1700 عام

تمامًا في عام 256 ق.م تم اكتشاف أول حالة مؤكدة عن استخدام الغاز السام لأول مرة بالعالم، حيث قام الفرس الذين مروا على سوريا بتاريخها القديم بإعداد فخّ كيماوي سقط فيه عشرون جنديًّا وفقدوا وعيهم بثوانٍ معدودات ليلفظ آخرهم أنفاسه في مدة دقائق.

حدثت هذه الواقعة في مدينة “دورا-أوروبس” والتي كانت تقع في منطقة “الصالحية” في بادية الشام قرب مدينة دير الزور السورية، وكانت جزءًا من الإمبراطورية الرومانية آنذاك، في معركةٍ انتصر الفرسُ فيها وتم اكتشاف بقايا القتلى الرومان في قاعدة سور المدينة الموجود إلى الآن، ونقل بعض الهياكل العظمية لأولئك الجنود إلى “جامعة يال” الأمريكية لإجراء المزيد من الأبحاث عليها.

هيكلان عظميان لجنديين وجِدَا ضمن الحفريّات.

وفقًا للبروفسور جيمس، عالم الآثار بجامعة ليسيستر البريطانية، فإن الفرس حاصروا “دورا-أوروبس”، ووضعوا “لغمًا” في نفق تحت سورها”، وقاموا بإشعال قوارير من الزفت والكبريت لإطلاق غازات سامة ساهم الدخان المار عبر المجاري بانتشارها”، وبعد أن وضعوا هذا “اللغم” الكيماوي في النفق تحت السور، عبره جنود رومان وقد فقدوا وعيهم وقُتلوا على الفور، ومن ثم كدّس المهاجمون جثث الجنود “لجعلها درعًا واقية لهم قبل إشعال النفق المؤدي إلى المدينة”.

وهذه أول حالة معروفة لاستخدام الغاز السام في العالم يتم تأكيدها.


أب كردي يحمل طفلته الرضيعة بين ذراعيه، وهو أحد ضحايا مجزرة “حلبجة” الكيمياوية في العراق.

 

مجزرة الغوطة: المجزرة الكيماوية الأسوأ خلال ربع القرن الأخير

عاد السوريون ليشهدوا في القرن الواحد والعشرين مجزرة كيماوية راح ضحيتها المئات من سكان “الغوطة” المجاورة لدمشق وذلك عبر استنشاقهم لغازات سامة ناتجة عن هجوم بـ”غاز الأعصاب”، وكان هذا الهجوم أسوأ هجوم كيماوي في العالم منذ أن استخدمت قوات الرئيس العراقي السابق صدام حسين الغاز السام ضد الأكراد في بلدة حلبجة في مارس 1988، والذي راح ضحيته أكثر من 5500 كردي عرقي على الفور، تتميز هاتان المجزرتان الكيماويتان الحادثتان في منطقة الشرق الأوسط أن كلتيهما نُفّـذتا ضد فئة من الشعب ضمن الدولة نفسها.

كان من الصعب تحديد عدد القتلى بدقة في مجزرة الغوطة الواقعة في 21 أغسطس 2013، وذلك بسبب الفوضى الناجمة عن عدد الضحايا وعدم وجود أيّ من المستشفيات الكبيرة في المناطق المتضررة والخاضعة للحصار من قبل نظام الأسد، كان تقييم الحكومة الأمريكية الأولي أن 1429 شخصًا قتلوا بينهم 426 طفلًا، فيما أكدت منظمة “أطباء بلا حدود” أن 3600 شخص على الأقل تم نقلهم للمستشفيات في تلك الحادثة لتعرضهم لـ”أعراض عصبية”.

صورة واردة في تقرير لمنظمة الأمم المتحدة، تبيّن موقع منصّات صواريخ أرض-أرض المحمّلة بالمادة الكيماوية التي أطلقت على الغوطة، وهي قاعدة عسكرية كبيرة على جبل قاسيون قرب دمشق، تعد موطنًا للواء 104 في الحرس الجمهوري.

ويُعتبر غاز الأعصاب VX المُحرّم دوليًّا والمستخدم في مجزرة الغوطة من بين المواد الأكثر سميّة التي تم إنتاجها حتى الآن، أكثر فتكًا 20 مرة من “السيانيد”، حيث يهاجم الجهاز العصبي وغالبًا ما يؤدي لفشل الجهاز التنفسي، ويتسبب بمقتل الأحياء على نطاق واسع كما يصعب اكتشافه لكونه عديم الرائحة والطعم واللون.

وقد أوضح التقرير الأمريكي أن النظام السوري هو الجهة الوحيدة المتواجدة على الأرض التي لديها إمكانيات لتحقيق هذه المجزرة، وتم تحميل النظام السوري المسؤولية عن المجزرة من قبل منظمتيّ الأمم المتحدة و”هيومن رايس ووتش” والاستخبارات الأمريكية والفرنسية والألمانية والبريطانية، وأثارت المجزرة بعدها ردود فعل دوليّة واسعة.


مظاهرة لشباب سوريين أمام القنصليّة السورية في الأردن في الذكرى الأولى لمجزرة الغوطة.

 

المقايضة التي قام بها نظام الأسد

ووافق الرئيس السوري بشار الأسد إثر مجزرة “الغوطة” على الانضمام إلى اتفاق لحظر الأسلحة الكيماوية، حيث وضع ترسانته تحت تصرّف المنظمة الدولية بعد تهديد واشنطن له بشكل صريح بشن ضربات جوية على بلاده، وكان أن صدرَ القرار الدولي 2118 في سبتمبر 2013 القاضي بتدمير كامل الترسانة بحلول منتصف 2014 عبر تسليم الأسد أكثر من 1300 طن من الأسلحة الكيماوية التي أعلن عنها، وتدمير منشآت الإنتاج والتخزين المتواجدة ضمن البلاد.

ووفقًا لتقرير فرنسي فإن سوريا كانت تملك إحدى أكبر ترسانات السموم في العالم، والتي كانت تُهدّد منطقة الشرق الأوسط بأكملها، وبالفعل تم الإعلان عن كامل الترسانة السورية المُعلن عنها في أغسطس 2014 وذلك على متن سفينة أمريكية في البحر الأبيض المتوسط، وفي منشآت لمعالجة النفايات التجارية السامة.

أثنى وزير الخارجية الأمريكي، جون كيري، على عملية تسليم ترسانة الأسلحة الكيماوية السورية لحكومات غربية، وتعاونها، معتبرًا ما حدث خطوة مهمة نحو القضاء على خطر نشوب حرب كيماوية في المنطقة، فيما اعتبرها “بان كي مون” “علامة تاريخية”.

رغم أهميته، إلا أن تدمير الترسانة الكيماوية السورية لن يخدم في شيء مئات الضحايا الذي قضوا قبل عام وأقرباءهم الذين نجوا.

**نديم حوري، مساعد مدير منظمة هيومن رايس ووتش لمنطقة الشرق الأوسط

اعتبرت منظمة “هيومن رايس ووتش” أن “العدالة لم تتحقق” لضحايا مجزرة الغوطة، وأنه يجب القبض على المسؤولين عنها، فيما عدّ الناجون من المجزرة الذين أدلوا بشهاداتهم أمام مجلس الأمن أن “الجريمة بقيت دون عقاب
وأن عدم تحرك المجلس زاد من التطرف لأن عدم التحرك يغذي اليأس”.

على أيّة حال، عادت الشكوك تُثار مؤخرًا بكون النظام السوري لم يكن صادقًا تمامًا بشأن برنامج الأسلحة الكيميائية في بلاده، حيث أعلنت دمشق عن وجود منشآت أسلحة كيمائية جديدة لم تُكشف من قبل المفتشين وذلك بعد انتهاء بعثة الأمم المتحدة لمنظمة حظر الأسلحة الكيمائية رسميًّا، كما أفادت بعثة لتقصّي الحقائق من قبل المنظمة أنها وجدت “أدلة دامغة” عن كون النظام قد استخدم غاز الكلور مرارًا ضد قرى سورية حتى بعد انتهاء تدمير ترسانته، كما عثر المفتشون الدوليون مؤخرًا على آثار لغاز السارين وغاز الأعصاب في موقع للأبحاث العسكرية في سوريا لم يتم إبلاغ منظمة حظر الأسلحة الكيميائية بها من قبل.


سُفن أوروبية تعبر البحر الأبيض المتوسط، حاملةَ على متنها الأسلحة الكيمياوية السورية بغية تدميرها.

 

النساء الحوامل أمام كل الاحتمالات

لم تكن مجزرة الغوطة مشكلة السوريين الكيماوية الوحيدة، حيث تعرّض المدنيون السوريون لهجمات بغاز الكلور من قبل وبعد المجزرة بشكل دوري ضمن وقائع محدودة، وتُقدّر مراكز التوثيق السورية بحسب إحصائيات أخيرة أن مجموع الضحايا السوريين للأسلحة الكيماوية بلغَ 3000 ضحية في جميع أنحاء سوريا.

ومن أبرز آثار الأسلحة الكيماوية التشوهات الولادية والجينية التي تصيب أجنّة الحوامل التي تواجدت في مناطق تعرّضت لهجوم كيماوي، ووثقت المنظمات أكثر من 70 حالة تشوّه للأطفال في سوريا، هذا بالإضافة إلى وصول نسبة الإجهاض في الغوطة بين النساء الحوامل اللواتي تعرضن للكيماوي 45% إضافة إلى حالات الولادة المبكرة وموت الجنين بعدها، أو ولادة جنين ميت، أو موت الأم أثناء الولادة.

ويُذكر أن هنالك مناطق تعرضت للقصف بالكيماوي إلا أن آثاره لم تظهر حتى الآن على الأجنة بسبب قصفها منذ وقت قريب، كما في سرمين في إدلب، التي استهدفها النظام بالكلور في 16مارس 2015 ما أدى لوفاة عشرات الأشخاص منهم عائلة بأكملها.


أختان ناجيتان من مجزرة الغوطة في المعضميّة، تتواجدان في واشنطن للإدلاء بشهادتيهما.

 

معضلة غاز الكلور

وثقت منظمات حقوقية استخدام النظام للكيماوي في 15 منطقة مختلفة في سوريا، في حين تم استخدام غاز الكلور السام بالذات في 86 منطقة في عموم سوريا، واتّهمت منظمة “هيومن رايتس ووتش” النظام السوري بإلقائه براميل تم ملؤها بغاز الكلور في شمال غرب البلاد ست مرات ضمن شهر مارس الماضي وحده، وتتحدث واشنطن عن مؤشرات لاستخدام النظام الكيماوي في قصف “كفر زيتا” و”التمانعة” في حماة في أبريل الماضي، فيما تتحدث المعارضة عن استخدامه مجددًا في 22 مايو المنصرم في “سراقب” و”النيرب”، أصيب على أثره 40 مدنيًّا على الأقل.

كما أكدت منظمة حظر الأسلحة الكيماوية في بيان لها في سبتمبر 2014، أن مفتشيها عثروا على “أدلة دامغة” على استخدام غاز الكلور كسلاح بطريقة “ممنهجة ومتكررة” في شمال سوريا رغم انتهاء المجتمع الدولي من تدمير معظم ترسانة الأسد المُعلن عنها آنذاك.

نتائج تقرير البعثة تؤكد استمرار الأسد في استخدام الأسلحة الكيماوية.

**فيليب هاموند، وزير الخارجية البريطاني

يؤكد سكان تلك القرى ونشطاؤها أن هجمات الكلور تحصل عبر براميل يلقيها النظام السوري بواسطة طائرات هليكوبتر غالبًا ما تقوم بغاراتها في الليل، والنظام السوري هو الوحيد الذي لديه سلاح جوي في البلاد حاليًا، ويتميز غاز الكلور بزوال آثاره من المنطقة بعد ساعات قليلة من استخدامه.

مراقبو سوريا: قضية الكلور ليست من مهمتنا.

وتصرّح سيغريد كاغ، رئيسة البعثة الدولية المكلفة بتدمير الأسلحة الكيماوية في سوريا، أن التحقق من استخدام غاز الكلور في سوريا لا يندرج ضمن عمل البعثة التي تركز على التخلص من السلاح الكيماوي فقط، أما منظمة حظر الأسلحة الكيمائية فتقول إنها رغم الشهادات والأدلة لكنها لا يمكن لها أن تحقق بشكل مباشر بهذه الهجمات المزعومة دون تعاون الحكومة السورية، فيما لا يتحرّك مجلس الأمن الدولي تجاه القضية بسبب وقوف روسيا ضد أيّ تحرك والتي تنكر أيضًا جميع الاتهامات الموجهة لنظام الأسد.


متطوعون سوريون في شمال البلاد يتدربون على التعامل مع الهجمات الكيمياوية.

 

لا أمل للسوريين في المستقبل المنظور

لا يبدو الشعب السوري متفائلًا تجاه المعطيات الحالية في الصراع السوري، حيث صرّحت منظمة “هانديكاب إنترناشيونال” بأن حوالي 5.1 مليون سوري يعيشون في مناطق معرضة لمخاطر كبيرة من أسلحة شديدة التدمير بعضها لا ينفجر، وبالتالي سيشكل تهديدًا مميتًا لسنوات قادمة، ويقول المرصد السوري لحقوق الإنسان إن هنالك أكثر من 1.5 مليون شخص مُصاب في سوريا، ومسألة الكيماوي ليست إلا رافدًا واحدًا من روافد المأساة السورية.

الأطراف المتحاربة ليس لديها أي نية للتفرقة بشكل فعال بين المدنيين والمحاربين، وهو ما يشكل انتهاكًا للقانون الدولي الإنساني. *منظمة هانديكاب إنترناشيونال

فيما يعتبر الباحث “فريدريك هوف” أن الإدارة الأمريكية مصرّة على خيار ترك الشعب السوري بدون حماية على الإطلاق، لأنه وفقًا لقوله: لا يجب المسارعة في إزاحة الشخص الذي سمح بارتكاب جرائم القتل على نطاق واسع بصورة يومية – بشار الأسد- من السلطة، كي لا يتمكن المتمردون الإسلاميون من الاستيلاء على دمشق، ومن ثم يرتكبون مذابح ضد المجموعات التي انخرطت رغمًا عنها في الجرائم التي ارتكبها النظام.

عرض التعليقات
تحميل المزيد