كي تؤدي مهامها بكفاءة، وفرت بين أيديها مليارات الدولارات، من المساعدات الدولية، لتقوم بإدخال وتوزيع المساعدات الإغاثية الملحة للغاية، للمحاصرين في البلدات والمدن السورية، لكن خلال خمس سنوات من عمر النزاع السوري، يبدو أن منظمة الأمم المتحدة لم تؤد مهمتها تلك بشفافية.
بدأت تقارير عدة تكشف عن ذلك، وأن الأمر لم يتوقف على عدم الشفافية فقط، فما بين تمويل لشخصيات ومؤسسات النظام السوري، وما بين إعطائه «حصة الأسد» من مساعداتها، أصبح دور الأمم المتحدة مؤكدًا، ليتجاوز أيضًا المشاركة في سياسة تجويع السوريين، من أجل تركيعهم وتهجيرهم، وهو ما جعل السوريين في الداخل يؤكدون عليه مرارًا، دون أن يوجد لهم آذان صاغية، بحجة أن ذلك مجرد دعاية تنال من المنظمة، من خصوم النظام السوري الذين تعاونت معهم.
الأمم المتحدة ومهمة تسهيل استراتيجية التجويع
مع اندلاع الثورة السورية عام 2011، وتحديدًا عندما همت الأمم المتحدة بإيصال المساعدات إلى بلدة درعا، هدد النظام السوري موظفي الأمم المتحدة بسحب تأشيراتهم، إذا حاولوا إيصال المساعدات للبلدة، ويُحسب هذا الموقف كبداية لاستسلام المنظمة الدولية لرغبات النظام، أو كما تقول الباحثة البريطانية لارا نيلسون: «ومنذ ذلك التاريخ أصبح هذا هو ديدنها، وتمت التضحية بمبادئ حيادية الأعمال التي تقوم بها الأمم المتحدة، واستقلاليتها وإنسانيتها، بالضبط مثل الزوجة المعنفة، التي تتحمل الاعتداء، خوفًا من خسارة كل شيء، فإن الأمم المتحدة تخلت عن مبادئها كلها للبقاء في سوريا«.
الأدلة التي تعقب هذا الاستسلام للمنظمة كثيرة، لم يكف النشطاء السوريون ووسائل الإعلام عن كشفها، على مدار الأشهر الماضية، فقد تم الكشف عن أن الأمم المتحدة أرسلت صورًا عن مجاعة، في بلدة سورية، بعد عرضها على الحكومة السورية، التي حرصت على التخفيف من حقيقة الوضع، بل وسهلت المنظمة استراتيجية التجويع والإبعاد القسري، التي يستخدمها النظام، ويتضح ذلك في مشاركة الأمم المتحدة في صفقة إخلاء داريا، فقد كانت ضامنًا ومشاركًا في التفاوض على الاتفاق.
وفي سلسلة متلاحقة لفساد الأمم المتحدة في سوريا، كشف النقاب عن قيام منظمة الصحة العالمية، التابعة لها، بتوظيف زوجة نائب وزير الخارجية شكرية مقداد، مستشارا للصحة النفسية للنازحين، كما كشف عن عقد المنظمة لصفقات بملايين الدولارات، مع منظمات تابعة للنظام السوري، ومن ذلك تقديمها مبلغ 8.5 مليون دولار لمؤسسة خيرية، ترأسها زوجة رئيس النظام السوري بشار الأسد.
ويحمل التقرير الجديد لصحيفة الغارديان البريطانية، المعنون بـ «مساعدات الأمم المتحدة لا تصل إلى معظم المناطق السورية المحاصرة»، الكثير من المفاجآت الصادمة، فقد عُرضت بيانات تُظهر أن حوالي 96% من المساعدات تذهب إلى مناطق النظام، في الوقت الذي لا تصل فيه من المساعدات، إلى مناطق المعارضة، سوى 4%، ونتيجة لذلك، فإن كل الوفيات بسبب الجوع في سوريا حدثت في مناطق المعارضة.
وتؤكد الصحافيتان «إيما بيلز» و«نك هوبكنز» على أن: «استراتيجية الجوع حتى الركوع، التي يعترف بها النظام، عادة ما تتوج بهدنة محلية، تتوسط فيها الأمم المتحدة وتدعمها، ويؤكد على ذلك مشهد خروج المدنيين المجوعين من بلدات تم تحويلها إلى أكوام من الركام، تصاحبهم سيارات الأمم المتحدة البيضاء اللامعة، مشهد أصبح مألوفًا.
وتؤكد الصحافيتان في تقريرهما أن: «الأمم المتحدة منحت صفقات، بعشرات الملايين من الدولارات، لمقربين من الأسد، في إطار برنامج المساعدات الإنسانية، كما سلمت عقود شراء لأعوان النظام، الذين عرف أنهم يمولون الأعمال القمعية والوحشية في سوريا. واستفادت من الصفقات شركات تخضع لعقوبات من الأمم المتحدة نفسها وأمريكا، إضافة إلى وزارات ومنظمات خيرية، بما فيها منظمات ترعاها أسماء الأسد، زوجة رئيس النظام السوري، وابن خاله رامي مخلوف».
وقدمت الأمم المتحدة أكثر من 13 مليون دولار للقطاع الزراعي السوري، رغم حظر الاتحاد الأوروبي التعامل مع هذا القطاع، أما منظمة الأمم المتحدة للطفولة والأمومة «اليونيسيف»، فقد منحت مؤسسة «البستان» مبلغ 267 ألف دولار أمريكي، وهي مؤسسة مملوكة لرامي مخلوف، ممول الميليشيات المسلحة التي تقاتل إلى جانب قوات الأسد.
وتعد واحدة من أبرز الفضائح التي لحقت بالمنظمة، هي كشف النقاب عن وجود كميات من المساعدات الإغاثية تعود لبرنامج الأغذية العالمي، التابع لمنظمة الأمم المتحدة، في مخازن نظام الأسد، عقب سيطرة المعارضة على إدلب، في أبريل (نيسان) لعام 2015، وسبق ذلك ما كشفه سكان من جسر الشغور، عن وجود الكثير من المساعدات الأممية في مقرات قوات النظام، عند حاجز قريب من سوق الخضار والفواكه، المعروف بسوق الهال.
يقول الاختصاصي في الشأن السوري، في جامعة كينغز كولدج في لندن، رينود ليندرز: «تُظهر المعلومات التي كشفتها صحيفة الغارديان، واستنتاجاتي الخاصة، أن الأمم المتحدة عَمَدت منذ العام 2012، وبصورة متواصلة، إلى منح عقود مشتريات مربحة جدًا، إلى مسؤولين كبار في النظام وأزلامهم، فأمّنت لهم، عن غير قصد منها، حبل نجاة»، ويشير في مقابلة خاصة بمركز كارنيغي للشرق الأوسط أن: «وكالات الأمم المتحدة احتضنت أيضًا مجموعات خيرية، يديرها النظام، وبعضها يموِّل ميليشيات موالية للنظام، وذلك بصفة شركاء في التنفيذ».
الاتفاق الأخير.. هل تستمر الأمم المتحدة على مواقفها؟
ينص اتفاق الهدنة الروسي الأمريكي، الخاص بسوريا، والذي بدأ تطبيقه في أول أيام عيد الأضحى، 12 سبتمبر (أيلول) الحالي، على أن الشاحنات التابعة للأمم المتحدة، القادمة من الأراضي التركية، وحدها المخولة بإيصال المساعدات الغذائية إلى حلب، بينما سيقوم الهلال العربي السوري بنزع الغلاف، من أجل توزيع المساعدات على السكان.
هذا الاتفاق، المؤكِد على السماح بإيصال مساعدات إلى البلدات السورية المحاصرة، حدد حلب المتواجد بها 325 ألف شخص، كأول المناطق لإدخال المساعدات، وبالفعل يوجد نحو 20 شاحنة مساعدات على الحدود، تنتظر في منطقة عازلة بين تركيا وسوريا. لكن المساعدات ما زالت عالقة، تنتظر موافقة الحكومة السورية على الدخول، كما تقول الأمم المتحدة، حسبما قال «الائتلاف الوطني السوري» الذي طالب بـ «إخلاء منطقة الكاستيلو من أي وجود عسكري للنظام، وتوكيل أمر إدارتها للأمم المتحدة، بما يضمن توزيع المساعدات بشكل عاجل ودون أي تمييز، في حلب، وسائر المناطق المحاصرة سوريا، مع توثيق كل حالة من حالات إعاقة النظام لدخول المساعدات، على نحو مواز لتوثيق خروقات الهدنة».
ويشكل عدم دخول هذه المساعدات الأساسية، من الدواء والطحين والمحروقات، مأساة وعائقًا كبيرًا أمام الاتفاق. ويشير الخبير العسكري، العميد الركن أحمد رحال، إلى أن اتفاق الهدنة، بعد 240 خرق لقوات النظام وطيرانه، وبعد منع وصول المساعدات الإنسانية للمناطق التي اتفق عليها، واقع لا يمكن تغييره، وأضاف لـ «ساسة بوست»: «الأمم المتحدة ما زالت تخذلنا بعدم تطبيق قرار مجلس الأمن، رقم 2254، الذي يجرد النظام من حق التدخل في الموافقة على الإغاثة، وهي لا تطبق مجموع القرارات رغم أنها قادرة على حل المشاكل، لذلك سيبقى مصير دخول المساعدات إلى حلب بيد المجتمع الدولي والأمم المتحدة، وليس المعارضة السورية».
التجويع بهدف التهجير
تسبب عدم وصول المساعدات الإنسانية إلى المناطق المحاصرة في إخلاء أكثر من بلدة سورية من سكانها، فوكالات الأمم المتحدة، التي تؤكد أنها مضطرة إلى التفاوض مع النظام السوري، حول آلية وشروط السماح بالدخول، لم تتمكن من توصيل الدواء والطعام إلى هذه البلدات.
ولم تنف الأمم المتحدة أن هذه السياسة تسببت في توجيه المساعدات تجاه المناطق الخاضعة للنظام السوري، على حساب الوصول إلى مناطق سيطرة المعارضة، ولذلك شهد عام 2015 تنفيذ 10% فقط من الطلبات، التي تقدّمت بها المنظمة لإدخال المساعدات، وهو ما تسبب في رفع حالات الوفاة في البلدات المحاصرة، بسبب الجوع ونقص الدواء.
ودفع الوضع السابق 73 منظمة سورية غير حكومية، تعمل جميعها في مناطق المعارضة، للاحتجاج في 8 سبتمبر (أيلول) الحالي، لما سمى في بيان المنظمات بـ «ميول الأمم المتحدة الموالية للأسد». وأعلنت تلك المنظمات انسحابها من آلية الرقابة المشتركة، التي يديرها مكتب الأمم المتحدة في دمشق.
وجاء في البيان الصادر عن هذا التحالف أن: «الأمم المتحدة اختارت الامتثال للقيود المفروضة، من قبل الحكومة السورية، على نشاطاتها وعملياتها على الأرض. وكنتيجة لذلك، درجت في الأمم المتحدة ثقافة الخضوع في التعاطي مع الحكومة. بالتالي، لم تظهر وكالات الأمم المتحدة رغبة فعلية في ممارسة أي ضغط، للوصول إلى المناطق الخارجة عن نطاق سيطرة الحكومة السورية».
وأكد التقرير على أن الأمم المتحدة لم توصل أي مساعدات، إلى المناطق الخارجة عن سيطرة الحكومة السورية، دون وجود إذن من النظام السوري، وذلك «على الرغم من وجود عدة قرارات صادرة عن مجلس الأمن معاقبة لذلك»، وذكرت المنظمات في تقريرها أن «اختيار المنظمة الدولية تقديم التعاون مع الحكومة السورية، كأولوية مطلقة على ما سواه، وبغضّ النظر عن الأثمان المدفوعة لهذا الخيار، أوصل الأمم المتحدة إلى منح حق توزيع مليارات الدولارات، من المساعدات الدولية، إلى طرف واحد فقط من النزاع، مما أدى إلى التأثير على مسار الصراع الدائر، بل وحتى إطالة أمده».
ومن جانبه، يؤكد حليم العربي، الناشط السوري، أن العاملين في الاغاثة مع الأمم المتحدة «يتواطأون مع النظام لرفع تقارير كاذبة، تشير إلى أن الأمور المتعلقة بالصحة والتعليم والاغاثة تجري على ما يرام في مناطق المعارضة»، في وقت تذهب فيه المساعدات إلى مناطق النظام أضعاف مضاعفة، ويوضح العربي أن دوافع التواطؤ لدى هؤلاء الموظفين، الذين يبقيهم النظام في مناطق المعارضة، لاستلام المواد من الخطوط الساخنة وتمريرها للداخل السوري، فقط هو استمرار حصولهم على الرواتب.
ويفند العربي موقف الأمم المتحدة، بأنها لا تستطيع إدخال المساعدات دون موافقة النظام، بقوله: «يمكنها الدخول عن طريق الحدود التركية أو الأردنية، لكن عندما تريد أن تجد عذرًا، تختار شخصية سيئة وتسلمها الملف، ثم تدعي أنها عاجزة لفساد الوسيط»، ويضيف العربي لـ «ساسة بوست»: «يكفي أن تقول أن النظام متمسك بإرسال المساعدات للمناطق التي يقصفها بالصواريخ والبراميل، ليأخذ الدعم المضاعف من الأمم المتحدة كجائزة له، أو كما يقولون في المثل (من الجمل دانه)، وكي يظهر نفسه أنه يتعامل بإنسانية مع أعدائه، فالأمم المتحدة شريكة لتلميع صورته أمام العالم أيضًا, وهي تمارس الدعاية والخداع بالاشتراك معه»، ويختم بالقول: «الأمم المتحدة راعية وشريكة بتجويع السوريين لتصل للتهجير، فقد أسر لي أحد أهالي داريا أنها طلبت منهم ألا يحملوا معهم أموالهم وذهب نسائهم، لتتركها للشبيحة، لذلك هي تشارك في تبيض أموال النظام السوري».
كيف دافعت الأمم المتحدة عن نفسها؟
«إن عملية إيصال المساعدات ليست مثالية» هذا التصريح الخاص بمنسق الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية في سوريا، يعقوب الحلو، لم يُلغ البتة جهد المنظمة في تفنيد جل الاتهامات التي نالت منها، فقد أكدت مرارًا وتكرارًا على أنها تعمل في سوريا بنزاهة، في ظل ظروف سياسية وعسكرية ليست من صنعها.
وتعتبر المنظمة أن ما ينال منها مجرد حملة دعائية، وتستدل المنظمة على ذلك بأن عددًا كبيرًا من موظفيها، العاملين في ظروف خطرة، تعرّضوا للاعتقال على أيدي الأجهزة الأمنية السورية، كما أنهم يقومون بعملهم بين عدة أطراف في نزاع ومخاطر جمّة، وتقول المنظمة أنها بمثابة الضيف لدى النظام السوري، لأن سوريا دولة عضو في الأمم المتحدة، وهي وكالة إنسانية عليها التعاون مع الأجهزة الحكومية، كي تتمكن من القيام بعملها وخاصة تقديم المساعدات الإنسانية، وحسب معطيات المنظمة فقد وافق النظام السوري على 60% فقط من المواد المقترح إرسالها إلى المناطق المحاصرة، وكانت هذه الموافقة مبدئية ولم تعن السماح بوصول المواد.
لكن دفاع الأمم المتحدة عن نفسها في سوريا فُند أيضًا، فتأكيدها أنها مضطرة للحصول على موافقة النظام لدخول المساعدات غير مبرر، لأن عليها تطبيق قرار مجلس الأمن رقم 2254، القاضي بإدخال المساعدات الإنسانية إلى كافة المناطق، دون أن تنتظر موافقة النظام، وفي حال إعاقة النظام لعملها عليها إبلاغ مجلس الأمن برفض النظام لإدخال المساعدات، كما أن مناطق المعارضة تديرها مجالس محلية، قادرة على التنسيق مع المنظمة لإدخال المساعدات، وكانت بلدة داريا خير مثال على ذلك، إذ نسقت الأمم المتحدة مع مجلس البلدة مرتين لإدخال مساعدات إنسانية لها.
تقول الباحثة لارا نيلسون: «يبقى التناقض الأسود هو أن المنظمة، التي قامت على احترام حقوق الإنسان، انحنت لرغبات نظام ارتكب أشنع جرائم الحرب، من استخدام للأسلحة الكيماوية، إلى القنابل العنقودية، إلى البراميل المتفجرة، إلى الفسفور الأبيض والنابالم، إلى التعذيب على مستوى كبير، إلى القتل الممنهج للمعتقلين، والتهجير الجماعي»، وتضيف في تقريرها الذي نشر بموقع ميدل إيست آي: «الأمم المتحدة تتمسك بالتزامها بالعمل مع الحكومة ذات السيادة في سوريا، لكن أليس هناك نقطة تشير إلى أنه عندما تتخلى الدولة عن القيام بواجباتها، لحماية مواطنيها، فإن الحكومة فيها تخسر سيادتها؟ كما أن الحكومة مسؤولة عن 95% من القتلى المدنيين، في الحرب الأهلية السورية، لكن الأمم المتحدة توقفت عن متابعة إحصائيات الضحايا منذ سنوات».
علامات
editorial, أطفال سوريا, الأمم المتحدة, الاغاثة, الامم المتحدة, الحرب في سوريا, الحصار, المساعدات, المعارضة, النظام, النظام السوري, بان كي مون, تجويع, تجويع السوريين, حلب, دولي, سوريا, سورية, فساد, منظمات المجتمع المدني